الإستعداد للموت من أجل الحياة، والحالة الذهنية السائدة في حالة الاشتباك مع القوى القمعية.

يسود في حالات الإشتباك الجماعي في مواجهة السلطات حالة من عدم الإدراك لخطورة المعركة القائمة، حيث لا يتوقع الجمع البشري أن تقوم السلطات باستخدام القوة بغرض القتل -في العادة- ضد هذه الجموع البشرية المطالبة بالعادة بأمور تتعلق بمستقبل المجتمع ككل، وحيث أنه من الصعب لدى هذه الجموع عزل الأفراد المستأثرين بالسلطة عن الجسم المجتمعي نفسه، حيث أنهم يكونون -عادة- نتيجة افرازات داخلية مختلفة -أو دملاً في مؤخرة المجتمع- فإن المجتمع كما هو الانسان يفضل التعامل مع هذا المفرز الداخلي بدون الاتجاه نحو الحل الراديكالي الكائن بالبتر والاجتثاث لكل ما هو مريض.

في الواقع قد تبدو السلطات مسالمة تارة وعنيفة أخرى في محاولة لامتصاص حالة الغضب الشعبية من خلال استخدام نظرية العصا والجزرة، فقد يقوم عناصر قوى الأمن بتكسير عظامنا بهراواتهم وخنقنا باستخدام الغاز في مرة، وتوزيع الماء البارد على المتظاهرين في المرة التالية، وتعتبر هذه الافعال بشكل عام أفعالا مدروسة وممنهجة من أجل بث الخوف من الخروج ضد السلطات، وابقاء السلطات في خانة الشعب في ذات الوقت، حيث أن ظهور العنصر الامني في مظهر المنتمي للمجتمع والمهتم بسلامة أبنائه هو في الواقع محاولة للحفاظ على المجتمع في حالة اللا عداء للمنظومة، والحفاظ على الشعرة التي تحافظ على أمن المنظومة وتحميها من الانهيار في وجه العنف الثوري واللذي سوف يظهر فور تحول هذه المنظومة الى خانة العدو في وعي الشعب الجمعي.

تعتبر حالة المظاهرات الدورية المستمرة باتجاه محدد، أقرب الى حرب الاستنزاف منها الى المعارك التقليدية، حيث يحاول كل طرف من الاطراف انهاك الطرف الاخر وإصابته بالارهاق النفسي والاقتصادي، وفي العادة يكون الشعب البسيط هو الأضعف في هذه المعارك ما لم يكن هناك قيادة جامعة للفعل الجمعي، أو أفراد واعين لطبيعة المعركة ومستعدين للحفاظ على استمراريتها مهما بدت طويلة ومتعبة، حيث أن استمرارية حالة الاستنزاف هذه سوف تؤدي في السلطات لاتخاذ خطوات غبية -وهو ما يحدث دائما- لمحاولة انهائها والعودة الى حالة الاستقرار النسبي السابقة.

على الرغم من ادراك النواة المحركة لحالة التوتر الجمعي لضرورة انتقال المعركة من حالة الاستنزاف الطويل الأمد الى حالة الاشتباك والمواجهة المباشرة، لكن عملية الانتقال هذه قد تكون عملية معقدة في حالة تم الاستعجال بها قبل أن ينضج الشارع، وحيث أن الشوارع عاطفية بطبيعتها، فإن عملية بناء وعي ثوري جمعي قد تكون أبطأ مما يمكن تطبيقه، يبقى على هذه النواة أن تعمل على ابقاء حالة التوتر السائدة، ومحاولة رفع مستوى التوتر -تدريجياً- والمراهنة على غباء وقصر نظر الجسم السلطوي والذي سيقوم من خلال ممارساته الغبية بتسريع عملية إنضاج الحالة الشعبية المعادية له، ويعتبر أكبر المحفزات لحالات اكتمال الغضب الشعبي في تاريخنا الفلسطيني خاصة والثورات الشعبية في العالم عامة هو الدم، عندما يفقد المتسلط السيطرة على نفسه لبضع لحظات، ويقوم بكل غباء القوي بفتح نيرانه على الجموع البشرية الخارجة للمطالبة بحياة ومستقبل أفضل.

من هنا قد يبرز السؤال الأعقد في هذا النص -وربما في الخروج الدائم الى الشارع ايضا- وهو هل نحن مستعدون للموت؟ وهل من المجدي أن نموت من أجل أن ينضج الشارع ويعي أن منظومات القمع لم ولن تكون جزءا من نسيجه المجتمعي؟.

في الواقع إن السير إلى حياة أفضل هو مشي بثبات في وسط حقل الغام، وعلينا أن نضع امكانية موتنا في الطريق الى هذه الحياة نصب أعيننا على الدوام، وأن نكون على أتم الاستعداد في كل مرة نتوجه بها الى الشارع لأن نواجه بطش منظومات القمع البوليسية، والثبات على الدوام في وجه القوة الغاشمة، أن نموت واقفين بهدوء، باطمئنان لأن هذا الموت سيذهب بالآخرين إلى مستقبلهم الأفضل، أن نموت لأن موتنا هو الحل الوحيد الذي يؤدي بهذه المعركة إلى الإكتمال، آملين أن ينتصر الباقون.