عن الموت، الحب، الحياة والرغبة.

لقد كان الموت يحيط بي من كل جانب مذ كنت جنينا في رحم أمي، فأنا التوأم الحي لطفلة ولدت ميتة قبلي ببضع أيام، والطفل الذي ولد قبل ميقاته بشهرين كاملين وأمضى أول أسبوعين من عمره في حاضنة المستشفى لكي يعيش، وقد ولدت بكبد وطحال متضخمين، ومناعة سيئة للغاية، ولم يستطع الأطباء إيجاد حل لمشكلتي فتوقعوا لي أن لا أعيش لأكمل الخمسة سنوات من عمري، وانقذتني أمي من قنبلة غاز سقطت على حجري وأنا في باحة البيت، وتوقف قلبي لاثنتي عشرة دقيقة عندما كنت ابن ثلاث سنوات اثر سقوطي من علِ، وأصابني الصرع مؤقتاً بدون تحذير عندما كنت ابن ست، وكانت ستقتلني نوبة ربو شديدة وأنا ابن سبع، ونوبة حساسية أشد بعمر الثماني، وكأن الحياة حاولت منذ البداية جداً لفظي خارجها، وبقيت عالقا في حلقها رغما عني وعنها على حد سواء، وعلى الرغم من كل هذه التجارب المبكرة إلا أن معرفتي الحقيقية للموت بدأت بعد ذلك ببضع سنين، عندما كنت بعمر العاشرة تقريبا، وبدأت الدنيا من حولي بالاشتعال لتصنع ناراً يوقدها الغضب العظيم والرغبة العميقة في التحرر، وكما يتوقع من شعب يواجه جميع آليات الموت الحديثة بصدر ابنائه العاري، والقليل من السلاح البسيط، سينبت الموت فيه كعشب بري في ربيع الأرض، ويحيط بكل زواياه منبتاً دحنوناً أحمر في كل الزوايا الممكنة.

لقد كنت فتى عادياً بعمر العاشرة عندما اندلعت الانتفاضة، وكما أي فتى في مخيم لاجئين في تلك الفترة، لم تمنحني الحياة الفرصة لكي أكبر بهدوء، وقد ضعت بين الحرب والعاب الفتيان، فأصبحت الحرب لعبة وأصبح الموت رفيق لعب، يأخذ أحدنا أحيانا، وتلاشت بسرعة الفوارق العمرية بين الأجيال، وأصبح الجميع رفاقا في نفس الملعب، لنحتسي الشاي في فترات الراحة فوق أكياس الرمل، أو في بيت لم يكتمل بناؤه، وكانوا يذهبون مع الموت فرادى، ونحملهم للقبور جماعات، ولا يمهلنا الموت أن ننسى طريق المقبرة. ومع الوقت ألفنا الموت، توقعناه ضيفاً ثقيل الظل يأتي فجأة، فوضعنا له كأسا وطبق على كل مائدة، وتركنا له كرسياً في كل جلسة، ومع مرور الأيام، عندما يصبح الرفاق الذين رافقوه أكثر من الذين بقوا في حياتك، ستعلم أن البقاء حياً قد يكون في الكثير من الأحيان خيار أسوأ من الذهاب برفقة الموت.

عندما تكبر بسرعة، وتعتقد أنك ستموت بسرعة أيضاً، تسعى بنفس تلك السرعة لأن تغنم من الحياة أي جزء ممكن، ستجري نحو الحب بسرعة، ستقع كثيراً، وتجرح كثيراً، وقد تزيد جراح قلبك عن جراح جسدك ألما وفداحة، هناك عندما يكون الموت هو الرفيق الذي يأخذ الجميع من حولك، يصبح الحب هو مأمنك المأمول، فهناك يمكنك أن تنتصر على الموت.

لقد كان عمري أربع عشرة سنة عندما وقعت أول مرة، قد يكون ذلك مضحكا في هذه الأيام، لكن في أيامي تلك، كنت قد دفنت ما يزيد على عشر رفاق، ولم أكن أتوقع من نفسي أن أتم الثمانية عشر عاما من العمر، وبذلك فقد كنت متأخرا عن الحياة، ومتلهفاً لها، وقد دخلت الحب كل مرة بنفس اللهفة والشجاعة، وقد كنت جاداً على الدوام، فعلى الرغم من كون العلاقات العاطفية محض العاب شد وجذب متوترة بين شخصين، إلا أنني لم أخن إحداهن البتة، ولم أبتغ سواها معها، فقد كنت على الدوام مقتنعا باختياري ومؤمنا به -وهو أمر غبي في الحقيقة- وحيث أنني لم أتمرس الكذب أو اللعب، ففي العادة لم تدم علاقاتي طويلاً، فلقد تركني جميع من أحببت، وأحببت كل مرة كما لو أنني لم أحبب من قبل، وقد كنت وحيداً معهن جميعاً.

لا أعلم بحق ما هي الحياة، أعرف أنها مرتبطة بالموت، أو بالأصح أنها غيابه، ولكنني في غياب الموت لا أشعر أنني حي بالحقيقة، ما الذي يعنيه أن نحيا؟، هل هي أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس؟، أم أن نحارب ونقاتل ونموت؟، هل هي أن نحب؟، هل هي أن نكتب؟، أن نرقص؟، أن نصلي؟، ما الذي تعنيه هذه الملعنة التي تدعى حياة، ها أنا في نهاية النصف الأول من ثلاثينيات عمري، لا أعرف ما الذي يعنيه أن أعيش حقاً، ولا أعلم كيف يمكنني أن أعيش، لكنني أعلم أنني أحتاج القليل القليل من الأشياء في هذه الدنيا، وأعلم أنني تعب جدا ومرهق، وكلما مددت يدي لرفيق يؤنس وحدتي، كسر أصابعها وردها إلي، وأنا الذي فقد الطاقة اللازمة للعتاب، أكتب كثيراً لأنني لا أملك شخصا واحدا أتحدث اليه بدون خوف، ولا حضن آوي إليه كما أنا فيحتوي كل ما أنا فيه من تناقض، ويخبرني بأنني لست وحدي.

أشتهي على الدوام أن أمتلك من الأرض ما يكفيني لأزرع بستانا واسعا من كل ما يمكن أن يثمر، وشاطيء اصطاد السمك عليه، أشتهي أن لا يكون هناك مواعيد سوى مواعيد السماء والأرض، تنضج الحبة فنقطفها، أشتهي أن يشاركني هذه الحياة إحداهن، لا يهمني الكثير في الحقيقة، أشتهي أن تستطيع فهمي، أن تكون معي، أن تسمعني عندما أشعر برغبة في الكلام، أن لا توافقني الرأي على الدوام، أن تحاورني بما تريد، وأن تكون صادقة حقاً، هل كثير أن أشتهي الصدق؟، أليس من الجميل أن يكون أحدهم صادقاً معك على الدوام!. أشتهي أن لا أكون وحيداً بعد اليوم، وأن أمتلك أرضي، وقتي وحياتي، وأن أكون حراً كطير، وبسيطا ككأس ماء، واشتهي أن أحِبّ، وأن أحَبّ، وأن أعيش، وأن أموت. 

عن البيت، شجرة التوت وطعم الحب.

منذ أن وعيت على هذا العالم، والبيت مرتبط في ذاكرتي بشجرة توت كبيرة، نقتطف حباتها برفق، تصبغ ثيابنا ليلاحقنا توبيخ أمي الدائم بسبب تلويثنا الثياب المغسولة حديثاً بلون التوت البنفسجي، وشجرة التوت لمن لا يعلم، هي شجرة عظيمة الحجم، كثيرة الاغصان، تهبط اغصانها الطرية برفق نحو الأرض عندما يقترب نضج الثمار، وتحمل ثمارا كثيرة جداً، تكفي لكي نأكل منها نحن وعصافير البرية والدجاجات الفجعة، ويبقى الكثير من التوت تحت الشجرة مهما قامت أمي أو جدتي بالتنظيف تحتها، حيث يكفي الحبة الناضجة مرور نسمة هواء عليلة من قربها لتقفز عن الغصن منطلقة ككرة صباغ بنفسجية في لعبة (paintball) لتقوم بتلوين اي شخص او سطح تقع عليه، ولك أن تتخيل منظرنا بعد خروجنا من معركة قطف التوت، وقد هززنا الاغصان بما يكفي لتنطلق الف حبة توت بكل الاتجاهات الممكنة ومسحنا ايدينا بقمصاننا النظيفة.

على الرغم من أن حياتي لم تكن يوما مستقرة في مكان واحد -منذ أن جئت الى هذه الدنيا- إلا أن جميع البيوت التي شعرت بها بدفء البيت حقاً، كان يوجد في زاوية منها شجرة توت ضخمة، وكأنما هي ضرورة في كل بيوتنا، كما هي دالية العنب، أو كأن كل كبار العائلة في كل مكان قطنوا فيه، يحاولون خلق صورة مشابهة للبلاد، في المنفى القريب والبعيد على حد سواء، وهو ما قمت انا بفعله بدوري عندما وصلت الرحلة الطويلة من تبديل البيوت والمناطق، والترحل من سقف الى سقف الى نهايتها المفترضة، حيث قمت بزراعة توتة جديدة، وثلاث شتلات من العنب قبل أي اشجار أخرى، وكأنما هذا هو الفعل الطبيعي وإعلان أن هذا المكان هو البيت -على الأقل مؤقتا-

في طفولتي في المنفى البعيد، كانت هناك شجرتا توت تعلنان البيت، شجرة التوت الواقفة في وسط ساحة بيت جدي في المخيم، وشجرة التوت فوق المخزن في بيت خالتي في الضاحية القريبة منه، وحيث أن طفولتي كانت عملية انتقال متكرر بين هذين البيتين، حيث كانت بنت خالتي تقوم برعايتي خلال فترة عمل أمي في المركز الصحي، ومن ثم نعود مساءا الى بيتنا في المخيم بجانب بيت جدي، فقد كنت امارس هوايتي القديمة والدائمة في قطف التوت وتلويث الثياب بشكل شبه يومي على طول موسم التوت.

عندما انتهت فترة النفي المؤقت التي غادرت بسببها البلاد أنا وأمي، وعدنا أخيرا الى المنفى القريب في مخيمات الوطن، وجدت بجانب بيت جدي هنا شجرة توت هي الأعظم في ذاكرتي، والأكثر كرماً، حيث لم يقتصر عطاؤها على التوت الذي يطعم كل مخلوقات الأرض، بل وكان ينبت الفطر اللذيذ تحتها وبين اوراقها المتساقطة، وقد كنت استيقظ يوميا للبحث عن الفطر تحت التوتة لكي احضره لجدتي لتصنع لي فطوري المفضل (بيض وفقع) بعد أن احضر لها البيض من عند الدجاج.

عندما كبرت التوتة في بيتنا الحالي وعظمت، وأصبحت تطعمنا بعد أن تشبع عصافير المنطقة، أصبح البيت بيتاً، دفء غريب يمكن لشجرة بسيطة أن تمدنا اياه، بالاضافة للكثير من الثمار الصغيرة سريعة التلف لذيذة الطعم، وكأنما هي طعم الجنة أو الحب، وحيث كاد جمال بخيت يصل السماء في قصيدته (شباك النبي) برأيي بسبب مقطع بسيط يبدأه ب”على باب الجنة يا طعم التوت” ولم يكن هناك تشبيه أبلغ من هذا في قلبي، وقد يكون أكثر أفعال المحبة التي قمت بها في حياتي تجاه إحداهن هي دعوتي لها بأن تقطف التوت من توتة بيتنا، وكأنما كل كلمات الحب في الحياة، تصبح بلا معنى إن لم تكن احداها (تعي نلقط توت).

عن النفس الذي عاش ليعم البلاد

في أيار من العام الحادي والعشرين بعد الالف الثانية للميلاد، اضائت غزة قلوب الشعوب المتفرقة، لتصبح شعبا واحداً، واستلت سيفاً لتدافع عن عاصمة البلاد وجوهرة تاجها، المدينة التي وسمت بالسلام ولم تر يوماً سلاما، وقد يكون من الممكن لنا كشعب فلسطيني أن نؤرخ للتاريخ الفلسطيني بما قبل وما بعد هذه الحادثة -وكل أمور الكون حوادث- فحيث أصبح التحرير أمراً واقعا في قلوب كل من شكك بحتميته، حيث انهارت كل محاولات التدجين والترويض المستمرة في الضفة وغزة والداخل، هناك عندما شعرنا بالوحدة للمرة الأولى منذ أن فرقتنا الإتفاقيات، والهوس المستمر للسلطة، أصبحت فلسطين كلاً واحداً، وأصبح التحرير حلماً للجميع -ليس عندما تتحرر بل عندما نحررها- ونراه قريباً.

خلال هذا الشهر نفسه، شاب يقاتل برفقة رفاق منتقين منذ ما يربو على العام بقليل، يخاطب كل من يحمل البنادق، بنفس واثق ورأي سديد، مطالباً كل من يحمل السلاح باداء امانته، وتصويب فوهة بنادقهم إلى العدو، حيث المعركة الحقة، لا مع طيور الجو وغيومه. في الشهر اللاحق، يستيقظ العالم على “عاش النفس”، صوت في خلفية الرصاص المشتبك في جنين، فيديو قصير وثلاثة شهداء، من ضمنهم جميل العموري، المقاتل الذي رأى أن إهانة الرصاص في ارساله للهواء بينما تمتلك عدوا تقاتله، فخاض بشريفته معركة تصويب البوصلة.

بعد معركة سيف القدس، تغير العالم أجمع -في نظر الفلسطيني على الأقل- لقد آمننا بحرب تحرير تنطلق من غزة، تفتح فيها جبهات النار على العدو من جميع الإتجاهات، يساندنا فيها كل الحلفاء، لنعمل سويا من أجل تحرير بلادنا المسلوبة، والإنتصار على عدونا المشترك، وقد يكون أكثر ما قدمته لنا المعركة سوءاً، هو الإيمان القاطع بأننا لن نهزم، أو بأن غزة لن تهزم، وستحرر العالم كله لو أرادت، لكنها معادلات الدم، والرغبة في منع الموت عن الأطفال الذين سيبنون بلادنا بعد التحرير، “بعد التحرير” كانت الجملة الأكثر تداولا بين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم خلال السنة الماضية، هناك حيث ينتظر الجميع المعركة الفاصلة.

في انتظار المعركة، يختلف الدور الذي يقوم به الأفراد باختلاف اهوائهم وطباعهم، يقوم البعض بممارسة حياته كأنما لن تأت الحرب، يقوم الآخرون بانتظار المعركة والتفكير بها لحد يمنعهم من القيام بأي فعل آخر، تقوم القلة القليلة الباقية بالقتال في محاولة مستميتة لاستعجال الحرب، هنا حيث تصبح الحرب هي الخلاص الوحيد من حالة السكون القاتلة، حيث نقتل فرادى، يخنقنا الموت من كل جانب، ويقتلنا جنود خائفين، أو لاهين بأرواحنا، لا فرق في الحالتين سوى أن هذا ليس الموت الذي يعجبنا، وأن المهانة أن تموت جبانا، فيقومون باختيار موتهم المشتهى، في لظى المعارك، ويرسمون لنا حلماً آخر نحلمه جميعاً، شعب كامل يحلم أن يموت وهو يقاتل.

قد تكون أعظم مثالب الإيمان أنه يدعو للخمول، وقد تكون أعظم مثالب اليأس أنه مدعاة للاستسلام، وهنا في البلاد التي يقطع أوصالها المستوطنون يمنة ويسرة، حيث يدفع المقاتلون ثمن القتال من دمهم وخبز أولادهم، يمكنك أن ترى أثر ثنائية اليأس والأمل واضحا حيثما وليت وجهك، حيث يستلهم الناس دورهم اليومي في المعارك من أثرها المباشر عليهم. فحيث رأى الناس التحرير واقعا في سيف القدس، قام الشعب كله ليدعم من يقاتل، وعندما انتهت الحرب، عاد السواد الأعظم منهم لتدبير شؤون حياتهم منتظرين الحرب القادمة.

بعد ما يزيد على العام بقليل، انتهت معركة ما بسرعة لم نعهدها من قبل، معركة خرج منها الشعب كله ضائعا منكسراً، هناك حيث هزمنا في المعركة -ولا معنى لتسمية الهزيمة انتصارا إلا في الخطابات والقصائد- تلقى كل منا صفعة لا زالت تطن في أذنه حتى اللحظة، هناك حيث عرفنا أن غزة لن تستطيع تحريرنا وحدها، وحيث تكسرت قلوبنا التي رأتنا نحن لا أولادنا في شوارع حيفا بدون أن يزاحمنا فيها آخرون بعيون زرقاء وشعر أصفر، هنا حيث غص كل منا بحلمه، واستيقظ الجميع، وكان اليأس ينتشر في القلوب.

في السادس من شهر أيلول الأول بعد الهزيمة، تشرق على البلاد ستة أقمار وشمس واحدة، تتمدد في البلاد معيدة للقلوب نبضها، مؤكدة لنا أن النصر ممكن، وأن الحرية ممكنة، وأن العمل من أجل النصر أجدى من الخمول، وأن لن يهزم يوماً من كان يقاوم، هناك من تحت أرض جنين، استعاد الشعب حلمه، بدون يأس من النصر، ولا ركون لحتميته، وهناك في تلك اللحظات، عرف جميع أفراد الشعب، أن الوحوش غبار. ما بين معركة ومعركة، كان شبان صغار يبنون أحلامهم على إرث شوارعهم، يرون أن الحرب لن تخرج من غير أيديهم، يزرعون الأرض رصاصا وبنادق، ويقاتلون المحتل بشكل يومي، هم من رأى أن الأحلام إذا عظمت لن تصبح واقعا بدون دماء، حيث استمر الرصاص الذي اطلقه جميل بالتوالد في بنادق رفاقه، والإنتشار في البلاد تذروه الرياح، لينبت في كل مكان. عندما بدأ جميل الرصاص، كان أن عرفه طريقاً أوحداً للنصر، عندما أكمل رفاقه الدرب، كان الثأر وحنين الرفاق للرفاق.

يقاتل الفلسطيني مدفوعاً على الدوام بمشاعر فطرية قد لا يعرفها سواه، حيث لا يستطيع أحد ما تصور أن القتال -على صعوبته في كل مكان- يمكن أن يصبح أسلوباً وحيداً للبقاء، وأن يقوم فرد ما بالسعي المستمر للإقتراب من الموت رغبة في الحياة، وحيث تحاول كل جيوش الأرض إبعاد مقاتليها عن المعركة المباشرة، يسعى الفلسطيني للوقوف في أول الصفوف، قد يقتحم أحدهم النيران، أو يطلق رصاص مسدسه على دباب -على الرغم من عبثية الفعل- إلا أن الفلسطيني يقاتل لأنه الفعل الوحيد الذي يضمن وجوده الجمعي، حيث يعلم أن البقاء في أرضه وتحريرها لا يكون سوى أن يفتدي بنفسه أهله وأخوته، رفاق سلاحه، وكل فلسطيني على وجه البسيطة. واليوم، في العام الثاني والعشرين بعد الالف الثانية لميلاد الفلسطيني المصلوب، لا زال الفلسطيني يصلب، كل يوم، لكنه اليوم أصبح شعباً كاملاً يقاتل ليفتدي كل شعوب الكون، فهنا فقط يمكن للإنسان أن يكون.

قبل قرابة الألف عام، عندما جاء الغزاة الاوائل، سقط دم فلسطيني على أرض فلسطين، فأصبح جيشاً من أبناء البلاد، يتنفس الطفل منهم في شهيقه الأول نفس القتال، النفس الذي حاربنا به الغزاة جميعاً، حيث رحلوا وبقينا، ويرحلون، ويبقى النفس ممتدا من عبر البلاد، جاعلا من ابنائها زيتونا لها، ينزفون لها دمهم لتوقد به قناديلها، ويعيشون نفساً ممتداً، منتشراً ويقاتل.

عن النساء والرجال.

خلال حديث قصير مع أحد الزملاء في العمل، وجهت كلامي إليه -مازحاً- بأننا سنقوم بالاستيلاء على كل أملاك الملاك -أمثاله- وتأميمها ضمن الكومونة التي سوف نقيمها في المستقبل القريب، وما كان منه إلا الرد بعفوية أنه موافق على الإنضمام للكومونة وتأميم الملكيات معنا بشرط أن تكون النساء مؤممة، هذا الرد الذي صدمني -على الرغم من مرور أشباهه كثيرا أمامي- كان دافعي الخفي للكتابة اليوم.

لا أكتب رأيي في العادة في المسألة النسوية، وذلك لأسباب عدة، أهمها كوني -أردت ذلك أم لم أرده- موجوداً في معسكر العدو، وكما أنني أرى انعدام أخلاقية المستوطن القاطن في وسط الكيان الإحتلالي الذي يتحدث في المسائل الخاصة بالشعب المحتل، فإنني أرى انعدام حقي في الحديث عن الموضوع النسوي وأنا رجل. وإنطلاقاً من هذه النقطة، فإنني هنا أود الإشارة إلى أن رأيي هنا يعبر عني فقط، وعن ما أراه حقا، بدون أن يكون له أي معنى سوى ذلك.

يرى الرجال النساء -في الغالب- كممتلكات شخصية، وقد تكون تلك النظرة في الواقع إمتدادا لنظرة المجتمع لهن، وعلى الرغم من اتجاه المجتمع حديثاً لإبداء غير هذه الصورة عنه، لكنها لا زالت متغلغلة في داخل لا وعي الأفراد، وهو الأمر الذي -إذا لم يتغير- سيؤدي لإعادة إنتاج النظرة نفسها بشكل لا نهائي وبطرق مختلفة، وهو ما لن يؤدي سوى إلى انتاج المزيد من أساليب السيطرة والهيمنة على النساء، بطرق أقل وضوحا وأعمق تأثيراً من السابق.

تعاني الحركات النسوية -برأيي- من مشكلة واضحة في نوعية الخطاب الذي تقدمه، والمنهجية التي تطرحها، حيث تتخذ غالبية تلك الحركات صفوفا نيوليبرالية في الخطاب والفلسفة، وتطرح منهجيات صدامية متطرفة تحاول قلب ميزان القوى بشكل عكسي بدلاً من محاولة تصليحه، وهو ما يؤدي الى مقاومة واضحة حتى من أقل الأطراف تطرفاً ورجعية في المعسكر المقابل، حيث أن إعادة تشكيل القمع والإضطهاد لن تؤدي إلا إلى المزيد من التطرف والرجعية، وإن فردانية الطروحات لن يؤدي لبناء المجتمع، بل في الواقع سوف يؤدي إلى زيادة تفسخه وانقسامه.

تتكون المجتمعات بالغالب من نسب متساوية من كلا الجنسين -هكذا تعمل الطبيعة- ويتكون المجتمع من العلاقات المختلفة بين أفراده، هذه العلاقات التي تؤدي بهم لتشكيل كل التشكيلات المختلفة التي يمكن للبشر تشكيلها كجماعات، وتقع العائلة في مركز هذه التشكيلات والأساس المحوري للمجتمع، وترتكز العائلة في الواقع على الإرتباط الجنسي الدائم بين رجل وامرأة – للصدفة فإن هذين المكونين هما مركز حديثنا اليوم- وهو ما يقودنا للحديث عن الجنس والعاطفة، كضرورة لفهم جدلية هذه العلاقة.

تدور العلاقات الإنسانية حول مفهوم السيطرة، حيث تقودها -مهما أردنا إنكار ذلك- رغباتنا الخاصة في السيطرة أو فقدانها في نواح متعددة، وحيث أن أي مجموعة تريد أن تستمر في إتجاهها نحو هدف واضح تحتاج وجود أحد أفرادها في موقع المسؤولية، فإن إختلاف الأشخاص ورغباتهم في السيطرة على الأشياء ربما لا يكون بالسوء الذي يبدو عليه، وعليه فإن العلاقة المثالية بين أي مجموعة من الأفراد هي تلك العلاقة التي تحقق لكل منهم رغباته الخاصة في السيطرة وفقدانها في الجوانب المتعددة، والتي يمتلك فيها القائد القدرة على الحفاظ على الهدف واضحا، والدرب سهلاً.

يدور الجنس حول السيطرة على الجسد والمتعة، على امتلاك القدرة على البعث بالطرف الآخر لمواقع أخرى لم يعرف بوجودها من قبل، قد يتبادل الطرفان السيطرة، قد يحتفظ أحد الأطراف بها، بينما قد يفضل الآخر خسارتها بشكل كلي، كل التوفيقات المختلفة بالموضوع صالحة وقابلة للتطبيق، ولكن المعضلة الأخلاقية التي يمتلكها المجتمع تتأتى من فرض توافقية معينة يكون فيها الرجل مسيطراً -أو العكس في عالم مواز- على كل شيء، بما فيها جسد المرأة، مما يجعل من العملية الجنسية حقاً مضموناً للرجل، والذي يؤدي -كما يؤدي كل ضمان للإمتياز بدون إرتباطه بالعمل- إلى إهمال الرجال لدورهم في هذه العملية، وعدم الإهتمام بشعور شركائهم -والذي يجب أن يكون هو الهدف الأساس منها- وهو ما يجعل عدم قدرة الرجل على إشعار النساء بالمتعة الجنسية هو المحور الرئيسي لغالبية الطرف التي تلقيها النساء عن الجنس.

إن الحب -كعاطفة- هو حالة مطلقة من فقدان السيطرة، فيما قد يبدو رغبة عميقة لدى الإنسان في أن يفقد السيطرة على مشاعره -ولو كان ذلك لفترة مؤقتة- كما لو أنه يستريح قليلاً من محاولته المستمرة في السيطرة على مشاعره طوال حياته، وهذه الاستراحة في وجود شخص آخر يبعث في روحك المتعبة الشعور بالأمان الكافي لك لكي تتوقف عن القلق من فقدانك السيطرة، وأن تستريح، وهنا يمكنني أن أجازف قليلاً وأقول أن الحب هو أن يستريح قلبك.

يمارس المجتمع السيطرة البطرياركية على أفراده بطرق واضحة تارة، ومبهمة أخرى، كلنا هنا بغض النظر كنا رجالاً أو نساء، خاضعون لهذه السيطرة، ضحايا مستمرة لمنظومة تم بناؤها منذ زمان قديم، عندما أصاب بعض الرجال جنون العظمة، وقرروا البدء في السيطرة على الموارد وفي مقدمتها الأرض -حيث أن المجتمعات كانت في تلك الفترة زراعية- وبسيطرتهم تلك على الأرض ظهرت الملكية الفردية، وهو ما أدى الى إعتبار كل وسائل الإنتاج بالتالي موارد قابلة للخصخصة، ويمكنني هنا إعتبار الملكية الفردية هي الأم لكل الشرور اللاحقة، من رق واستعباد، حيث يعتبر البشر مورداً يمكن خصخصته، وبالتالي تمت خصخصة كل شيء، امتلك الرجال الأكثر قوة أو نفوذا السيطرة على موارد أكثر، وأناس أكثر، وحيث أن الملكية الفردية أنبتت مشاكل جديدة مثل توارثها وتناقلها، فإن سيطرة الرجل/ المالك على حركة الملكية أدى لسيطرة الرجال على النساء حيث تم إعتبار النساء وسيلة من وسائل الإنتاج، حيث يمكن عن طريق السيطرة عليها السيطرة على إنتقال الملكية وضمان زيادتها، ويمكننا اعتبار البطرياركية هي المرادف المجتمعي للرأسمالية، حيث يسيطر رأس المال على وسائل الإنتاج ويزايد من رأسماله عن طريق الحصول على فائض القيمة، حيث يسيطر الرجال على النساء -بهدف السيطرة على التكاثر- ويزايدون من قوتهم المجتمعية عن طريق الحصول على أولاد أكثر، وبنات يمكن مبادلتهن أو تقديمهن مقابل نفوذ أو مكانة ناجمة عن النسب والتوارث.

إن السيطرة على الأفراد هي عملية معقدة وبطيئة، وبالتالي فإن عملية السيطرة على أكثر من نصف المجتمع هي عملية فائقة التعقيد، تلتزم من الفئة المسيطرة الحفاظ على الفئة المسيطر عليها في حالة سكون تنظيمي، وسلب الأفق الفكري منها، وتحويلها بطريقة ما إلى خط دفاع متقدم عن متحصلات الفئة المسيطرة، تقوم الطبقة الوسطى بهذا الدور في الرأسمالية، تعتقد الطبقة الوسطى بحريتها، بقدرتها على التقدم والترقي في المناصب لتنضم لصفوف الطبقة البرجوازية، تقوم البرجوازية بإتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للحفاظ على هذا الإعتقاد موجوداً، ومستحيلاً في آن واحد، تقوم بتحديد الأجور والحفاظ عليها بمستويات كافية لخلق طبقات مايكروية داخل الطبقة الوسطى، مع الحفاظ على إنعدام إمكانية هذه الطبقة من التحصل على رأس المال، حيث أن إنتقال الفرد من طبقة إلى طبقة أخرى داخل الطبقة الوسطى يستلزم عليه زيادة النفقات المرافقة لهذا الإنتقال، للحفاظ على المظاهر التي تضمن له الترقي لطبقات أعلى، تسعى البطرياركية لإقناع النساء بأنهن في أفضل حال ممكن، بينما يحافظ النظام على التأكد من أنهن لا يستطعن الإفلات من سيطرته، تحصل النساء على أجور أقل، ويتوقع منهن واجبات إجتماعية أكثر، تقوم البطرياركيات بتقنين كل شيء، بما فيه المشاعر والجنس، تقوم بسن القوانين الإجتماعية، تسيطر على إمكانيات النساء بإتخاذ القرار وتحد منها ما استطاعت، ثم تبيع لهن وهم الحرية، تقوم الأنظمة بتحديد العدد المناسب من النساء في المواقع السياسية بأنظمة “الكوتا” ثم تقوم بتسويق المشاركة السياسية للنساء على أنها حق مضمون من النظام، بينما في الواقع، فإن الحصول على الحقوق بالعمل والترقي في سلم النظام البطرياركي ليس سوى مجرد وهم يحافظ عليه النظام نفسه حياً ومستحيلا في آن واحد.

تشترك البطرياركية والرأسمالية في عملية تسويق ضخمة، تضخ في حياتنا في كل مكان قصصاً كثيرة، يمتليء التلفاز وشبكة الإنترنت فيها، مسلسلات وأفلام ومقاطع “بورنوجرافي”، تخلق مخاوف جديدة، وآمال أكثر لدى كل منا، تعزز من شعورنا الدائم بعدم الإستحقاق، بضرورة العمل بدون توقف من أجل الترقي، بالخوف من الحب، بالشك في أنفسنا والآخرين، بالخيانات والآمال المحطمة، بالأحلام التي يحققها آخرون خلف الشاشات، بالأموال والأملاك، بالرفاهيات، تغرق أفكارنا الواعية واللاواعية، بالكثير من الرعب والأمل، وهي التوليفة التي تستخدمها هذه الأنظمة بنجاعة عالية للحفاظ علينا في حالة من الضبط، حيث يسيطر علينا جميعا باستخدام مخاوفنا وآمالنا، ولكننا يجب في كل الأوقات، أن نقف سوياً، وأن نحارب كوحدة واحدة، من أجل التخلص من كل الظلم في كل مكان في هذه الأرض، أن لا يمتلك شخص منا الآخر، وأن نصبح جميعاً أمة واحدة.

عن الحب، الموت والحياة تحت الإحتلال

يبدو الحديث عن الحب في واقع الشعب الفلسطيني ضربا من الرمسنة الخيالية، حيث يخيم موتنا اليومي على المشهد العام، وحيث أننا لا نملك سوى أن نقضي غالبية أوقاتنا في الركض خلف أبسط مقومات حياتنا، حيث أن الحياة -وهو ما لا تخبرنا عنه الروايات العاطفية- مكلفة في الحقيقة، وحيث أننا نشترك مع الغالبية العظيمة من سكان هذه الكرة، الهائمة في الفضاء الشاسع بكوننا نقبع تحت نير الرأسمال العالمي، وحيث يؤمن الكثيرون -للأسف- بوهم الحرية التي تسوقها الليبرالية، حيث يصبح كل فرد هو المسؤول، وحده، عن كل ما يحصل في حياته من خير أو شر، حيث أنك أنت، ولا أحد غيرك هو المسؤول عن كونك لا تجد ما يكفي لتأكل، وأنت وحدك المسؤول عن تحولك في لحظة ما، هدفا لجندي لم يبلغ العشرين من العمر، أراد أن يشعر بطعم الدم، يصبح كل شيء هنا متشابكاً بطريقة غريبة مع كل شيء آخر، وهكذا تصبح حياتنا الشخصية -عاطفية أو غير عاطفية- أمرا سياسيا بالضرورة.

نولد كفلسطينيين في هذا العالم، إثر تراكم الصدف منذ الاف الأعوام، حيث أنه وبطريقة ما لم تنه حياة أحد من أسلافنا المتعددين إحدى الحروب التي قامت على هذه الأرض، ويكاد يكون الموت في حرب ما قد أصبح جزءا أصيلا في تركيبنا البيولوجي، حيث تصبح كل ولادة جديدة لفلسطيني جديد ما يشبه المعجزة، وعندما يقوم أحدنا باتخاذ القرار -غير الواعي- بالزواج والإنجاب، يدرك في داخله أنه يقوم بنذر سلالته القادمة لدفع الثمن المستمر لبقائه الجمعي في هذه الأرض، ولربما كان من المثير للتعجب -لي على الأقل- استمرارنا في الحياة، وكأننا لا نموت.

الموت هنا صديق للجميع، يسير معنا كل يوم في طرقنا العادية، في الذهاب إلى الوظيفة التي نكره، في الطريق إلى المدرسة أو الجامعة، يزورنا حين يريد، لا يوجد في هذه البلاد وقت طبيعي للموت، قد تحيا لقرن من الزمان، وقد تقتلك رصاصة، أو صاروخ، قبل أن تتعلم المشي.

أذكر أنني منذ بداية حياتي أحاول أن أحيا حياة طبيعية -بمقاييس العالم- ولكن طبيعية الحياة التي نحاول أن نحياها ليست ممكنة في هذا الواقع الذي وجدنا أنفسنا فيه، ولربما كنت أوفر حظاً من كثير من أبناء هذا الشعب حيث أن الحياة التي عشتها حتى اللحظة أقرب للطبيعية من الكثير منهم. ولأن الفلسطيني هو إنسان عادي تماما كما أي شخص آخر في هذا العالم، فمن الطبيعي أن يبحث عن السعادة، الحب، والعلاقات الإجتماعية، من الطبيعي جدا أن يرغب في ممارسة أي متع دنيوية تافهة، وأن يسعى دائما للفرح، يرغب في السفر، في رؤية العالم، في لعب الورق على طاولة في مقهى، أو أن يخرج يوما لينصب خيمة في برية ما، ليراقب السماء ليلا، أو أن يمارس هوايته في صيد الأسماك.

خلال سنتي الاولى في الجامعة، تعرفت على مجموعة من الأصدقاء، قضينا أوقاتنا في الحديث عن السياسة، لعب الورق، مناقشة مسلسلات غبية، أو الذهاب لرحلات قصيرة لمدن مختلفة، قمنا بتناول طعامنا سويا، شربنا الكثير من القهوة والشاي، مشينا لكيلومترات من أجل طبق كنافة، ونمنا جميعا في غرفة لا تتسع لنصفنا في سكن أحدنا بسبب اقتحام الإحتلال للبلدة خلال وجودنا في مقهى، اليوم، بعد مرور أربعة عشر عاما على ذلك، لا يوجد لدي ثلاثة أصدقاء أقضي معهم يومي عندما أشعر بالملل، حيث سرقت بعضهم أمور الحياة، وغاب بعضهم في سجون الإحتلال، وهاجر من بقي على قيد الحياة منهم بحثاً عن خلاص فردي، أو حياة أفضل لأجيالهم القادمة.

أن تسافر، هو أن تقضي ساعات كثيرة على مقاعد الإنتظار في انتظار محقق ما ليستجوب رغباتك في السفر والحياة، وكأنما ليس من المسموح لك أن تخرج، أو كأنما كان وجودك في أي مكان في العالم هو جريمة عظمى، حيث يقاس الأمن الداخلي لهذه الدول التافهة بقدرتهم على منع الوجود الفلسطيني فيها، حيث يصبح الفلسطيني هو الوباء الذي تخشاه هذه الكيانات الهشة، ويصبح السفر بالنسبة له هو الطريق الشاق الذي لا يخوضه إلا مضطرا أو مرغما.

أن تحب -أقصد هنا ذلك الحب الذي ترغب خلاله بالموت بجانب من تحب- هو أن تشعر في داخلك بأنك لم تعد وحيداً بعد اللحظة، ونحن أبناء الوحدة نرغب على الدوام بأن لا نكون وحدنا، لكن أن تحب في هذه البلاد هو أمر شاق ومتعب، لا يكفي أن تشعر بشيء ما لكي تحب، لا يكفي أن تحب هنا، هذا الشعور التلقائي بالإعجاب خطر جداً في هذه البقعة من العالم، الحب هنا غريب ومعقد بغرابة حياتنا اللاطبيعية، ومن المطلوب منك بالضرورة، أن تسيطر على مشاعرك اللا إرادية إن كنت لا تريد أن تفقد قلبك. أن تجد من تستطيع أن تراه، من يمكنك لقاؤه، من يشاركك فلسطينيتك كما تراها، الحب هنا أمر سياسي تماما، كما هي الحياة، وستكون تعيساً يا صديقي لو تركت نفسك على هواها، فقد تقع في حب ما يستحيل عليك اللقاء به، أو يستحيل عليكما الحياة سوياً، أو -وهو الأسوأ- أن يكون من تحب من مؤيدي حركة فتح أو الرئيس أبو مازن.

نحاول على الدوام أن نعيش، يقوم الإحتلال بجعل الحياة الطبيعية غير ممكنة في وجوده، يقطعنا إلى مساحات متفرقة معزولة، يقوم بمنعنا من الحركة، قتلنا، حصرنا في سجون متفرقة، لا يعود للفلسطيني هنا إلا إختيار البقاء والقتال، التنازل والتعود، أو الهرب والبحث عن الخلاص الفردي في مكان آخر. يفقد الفلسطيني المتنازل فلسطينيته مع مرور الزمن، يصبح كائنا مختلفاً -فتحاوياً على الأغلب- يستمرئ المذلة والمهانة، يجري على الدوام ليرضى الإحتلال عنه من أجل أن يحصل على تصريح سياحي لزيارة البحر، ولكي يحافظ على ما يتصدق عليه به مشغله -المتعاون مع الإحتلال- من مال، يحاول فيه أن يحيا به حياة عبد سعيد، وهذا ما لا يشبهنا. يهرب المهاجر من وجه القضية، يبحث عن حرية ما، حرية بدون موت، ويموت هناك في أرض باردة لا تشبهنا، لا تقبله سوى أن يسلخ جلده ليشبهها، أن يفقد ما كان هو، ليحاول أن يصبح ما ليس يكون، أما نحن، الذين لا يطيقون أحد الخيارين، فإننا محكومون بلعنة أبدية، لكي لا نستريح، أن نشتهي الحياة، وأن نهرب منها، مدركين تماما لدورنا النهائي في هذه المعركة الدائرة منذ الأزل، كوقود خلق من أجل يحترق، وراغبين على الدوام بأن ننبت أشجاراً أخرى، على أمل أن لا تحترق.

عندما أصبح العامل رقاص ساعة.

اليوم صباحاً، لا أستطيع أن أملأ صدري بالهواء، أضلاعي مرضوضة إثر السعال الشديد في اليومين السابقين، لكنني أقوم لأستحم وأرتدي ثيابي وأخرج نحو الوظيفة التي لا أحبها، لا يمكنني الغياب لهذا اليوم، هناك أمور لا يستطيع غيري فعلها -وهذا كذب- حيث أن مهامي لهذا اليوم متطابقة تماما مع مهام موظفين آخرين يتشاركان معي نفس المسؤولية ولكن لتخصصات مختلفة -لكنه يبقى نفس العمل- ولو أنني متّ لن يتوقف العمل ولن تؤجل مواعيد الاجتماعات والمقابلات للتخصصات التي تقع تحت مسؤوليتي، أنا هنا قابل للاستبدال بكل بساطة، يمكن لأي قرد تم تدريبه لستة اشهر القيام بما يوازي الثمانين بالمئة من العمل الروتيني الذي نقوم به.
إذن لم أذهب إلى العمل في هذه الحالة؟، ما هو الدافع الذي يجبرني على القيام من فراشي بأضلاع موجوعة، ورئة متعبة، وأنف محتقن، ورغبة منعدمة في العمل. ذاهبا كمن يساق إلى مقصلة، إلى وظيفة لا معنى لها، في منظومة كاملة مبنية على اللامعنى.

يمتلك الموظفون مدراء، يمتلك المدراء مدراء آخرون، تمتلكنا جميعا المنظومة، كلنا أدوات تافهة تعمل بشكل غبي لإنتاج ادوات تافهة أخرى، كل منا عبارة عن ترس أو رقاص(بندول) بسيط يعيد نفس العمل البسيط بشكل متكرر، ويتم تحويل عمله من ترس آخر إلى شكل آخر لنصل للنتيجة النهائية وهي الدوران حول أنفسنا لدورة كاملة تساوي يوما كاملا في هذا العالم الممل، لا يمكنك كبندول من إدراك أو معرفة أثر العمل الذي تقوم به على المنظومة، يمتلك المدير وظيفة وحيدة، أن يحافظ على احساسك بأنك مهم، أن يخرج أول كل ساعة من باب مكتبه المكيف، ويصرخ:”كوكو، كوكو” ليستمر البندول والتروس والعقارب في حركاتهم التوافقية البسيطة، لا يمكنك أن تأخذ إجازة طويلة، من سوف يقوم بالعمل؟. سوف ننهار بدونك، يجب علينا أن نهتم بمصلحة المؤسسة، أنت مهم، هل ينقصك شيء ما، طلبت لك علاوة لكن الإدارة العليا لم توافق، إننا نمر في أزمة، يجب أن نجتاز الأزمة سوياً، يجب أن نكبر سوياً، سوف نتقدم معاً، وكل الجمل التي أصبحنا جميعا نعلم أنها بلا معنى، هم يكبرون وحدهم، نحن رقاصات ساعة ميكانيكة ذات كوخ في أعلاها يخرج منه طائر صغير أول كل ساعة ليقول لنا :”كوكو”.

نحن نعمل بشكل ميكانيكي، بدون إدراك لنتائج هذا العمل أو قيمته الإنتاجية النهائية، إنهم يخبرونك بأنك مهم، بأنه لا يمكن الاستغناء عنك، يخبرونك بأنهم يحتاجونك، لكنهم يخبرون ذلك للجميع من حولك، لكنك تشاهدهم يتخلصون من أي شخص لا يقوم بالعمل بالغباء الكافي، بالدقة الكافية، بالخضوع الكافي ليضمن استمرار عمل المنظومة، المنظومة التي تنتج المزيد والمزيد من المال لأصحاب رأس المال، هذا المال(القيمة) الناتج عن عمل الكثير من الموظفين، بشكل تلقائي ومستمر، بدون إدراك لقيمة العمل نفسه، بهدوء وصمت، يشعر كل منهم بلا جدوى ما يعمل، يأخذ كل منهم مبلغا دوريا من المال، يشعر أنه أكبر من قيمة عمله -حيث أنه لا ينتج الكثير حسبما يرى- هو يعيد نفس العمل بشكل متكرر، لا يحتاج للتفكير أو الإبداع، لا يحتاج لحل المشاكل، عمله هو أن يستمر في العمل نفسه، كل يوم، كل ساعة، إلى الأبد أو إلى أن يبلغ الستين من عمره -أيهما سبق- يتقاضى الموظف هذا المبلغ المحسوب بشكل دقيق لكي لا يؤدي به إلى الإحساس بأنه جزء من الطبقة الدنيا في المجتمع، هو موظف مرموق، يرتدي بدلة وربطة عنق، يقود مركبة جيدة، يحلم أن يقود واحدة أحدث منها في المستقبل، ولذلك يجب عليه أن يعمل أكثر، لينتج أكثر من أجل رأس المال، من أجل السيد الذي يملكه. في الطبيعة توجد تلك الحشرة المدعوة بالمن، تتغذى حشرة المن على أوراق الأشجار، يقوم النمل بحمل المن، نقله بين الأشجار، حمايته، ومن ثم يعود به إلى البيت، ليداعب بمجساته مؤخرة حشرة المن، لتقوم بافراز سائل سكري شبيه بالعسل، يتغذى عليه النمل، وعندما تتوقف الحشرة عن افراز هذا السائل اللذيذ، يقوم النمل بأكل الحشرة نفسها، التي كان يداعبها في اليوم الماضي، حيث أنها فقدت فائدتها بالنسبة له. تتجلى فائدة الموظف بالنسبة لرأس المال بأنه حشرة تفرز له السكر وتتغذى على الورق، وعندما تتوقف هذه الحشرة عن افراز مادته المفضلة، سيقوم بقضم رأسها وامتصاص روحها منها وتركها كغلاف فارغ مرمي بجانب المستعمرة.

يعرف كل من قام بزرع شجرة في يوم من الأيام، أو بأي عمل منتج بشكل مباشر، بأن قيمة العمل تتجلى في كون القيمة الناتجة عنه قابلة للقياس، قد تكون هذه القيم مادية أو معنوية في كثير من الأحيان، لكن ما يميزها في كل الحالات هو أن الشخص الذي يبذل الجهد العضلي أو العقلي المحتاج لهما العمل يستطيع أن يشاهد أو يستنتج قيمة العمل المبذول، وبالتالي فإن شعوره بالسعادة المنبعث من كونه عضو منتج في هذا المجتمع -أو العالم- سيتزايد بشكل طردي بالتناسب مع حجم العمل المبذول ونتائجه الملحوظة. في المقابل قد قامت المنظومة الرأسمالية للعمل بفصل العمل عن النتيجة، وذلك لخلق نوع من القيمة الوهمية للأجر مقارنة بالعمل، والذي أدى بالتالي لشعور العامل بأنه يأخذ ما لا يستحق، ويبذل جهده في ما لا ينفع، مما يؤدي لتعمق شعور الفرد في اللاجدوى من وجوده الفردي في المجتمع، وعليه يصبح ذهابه اليومي إلى العمل أشبه بجره إلى حبل المشنقة، والتي قد تبدو له في كثير من الأحيان خيار أفضل من هذا المسير اليومي إلى اللاشيء.

تؤدي حالة التحول من العمل بصورته الأولية -من زراعة وصناعة بسيطة وحرف- إلى صورته الحديثة -وظائف تقليدية في بنى مؤسسية ضخمة- إلى تعمق شعور الإنسان بإنعدام قيمته الذاتية وذلك كنتيجة طبيعية لفقده إدراكه بالنتيجة المباشرة أو القريبة لجهده المبذول، تتزايد هذه المشاعر السلبية حدة كلما زاد الفساد في المنظومة الإدارية التابع لها حدة، حيث أن نشر تقارير الأرباح والإنجازات وتقارير متابعة الخطط السنوية للمؤسسات تزيد من شعور الموظف بقيمة جهده المبذول -على الرغم من أنها لن تغير في واقعه- لكن من الممكن ملاحظة أن الموظفين في المؤسسات الأقل فساداً أكثر اعتزازاً بوظائفهم، وأكثر إجتماعية وسعادة مقارنة بأمثالهم في مؤسسات فاسدة. يؤدي تفشي هذه المشاعر السلبية في صفوف الموظفين، وتشكيل الموظفين للنسبة العليا من المجتمع، إلى ظهور مشاكل نفسية كثيرة جديدة على المجتمع، حيث أنك لم تكن تسمع بهذه المشاكل النفسية قبل تحول المنظومة إلى مدنيتها الحالية. تعتبر هذه المشاكل النفسية الجديدة مجالات إضافية لتسويق المنتجات المرتبطة بها حيث أن المنظومة الرأسمالية هي أفضل من يقوم بإعادة استثمار القيمة المنفقة على مكوناتها الفرعية.

في النهاية، ولأنني كاتب ملول، تقوم المنظومة على الحفاظ على حالة من الغباء الإجتماعي والإبداعي لدى الموظفين -المستعبدين- لديها، وهذا يتطلب منها الحفاظ على مسافة كافية بين الموظف والقيمة المنتجة من قبله والذي سيحافظ على احساسه بانعدام قيمة العمل الذي يقوم فيه، وبالتالي سيحافظ على شعوره الدائم بعدم الاستحقاق ومحافظته على نوع من الرضى السلبي في ما يحصل عليه، وهو ما سيحافظ عليه في حالة اللافعل -اللاثورة- الدائمة، والحفاظ عليه في صفوف المدافعين عن المنظومة حيث أنه يعتقد أنه في حالة انهيار المنظومة ستتناقص حصته من الانتاج لما يساوي حصته الحقيقية وهي الاقل -حسبما يعتقد- من حصته المستحقة. لكن في الواقع فإن قيمته الإنتاجية تفوق بكثير ما يحصل عليه، وهو ما يفسر القيمة المتراكمة في رأس المال والآتية من مجموع هوامش القيم للاعمال الفردية.
الشعور الدائم بعدم الإستحقاق لدى الأفراد المنصهرون في بوتقة المنظومة هو شعور منتشر يتجاوز الوظيفة والعمل وينتقل إلى شعور الشخص بعدم استحقاقه لأي شيء، وبالتالي يبدأ من المعاناة في علاقاته الاجتماعية والإنسانية، حيث أن شعوره الدائم بلا جدواه يؤدي لانخفاض تقديره الذاتي لنفسه وتفسير كل شيء آخر بصور قيمية مستنبطة من وجوده ونشوءه في هذه المنظومة الرأسمالية المعقدة والتي تؤدي بالمجتمعات إلى انسلاخ الروابط التاريخية والاجتماعية بين افرادها، واتجاههم الدائم نحو الانعزال والفردانية، وهو ما يودي بالمجتمع الى تفككه الى مكونات فردانية وضياع قيمة الجماعة العامة، وبهذا تبتكر المنظومة اسواقاً أخرى لاعادة امتصاص اكبر قدر ممكن من القيم الموزعة على الافراد وتعويضهم عن النقص الاجتماعي الذي اودت بهم فيه ممارسات المنظومة من الاساس. وإكتسابها نوع من المنعة ضد الفعل الجماعي الذي أصبح يواجه عقبات أكبر في نشأته من الأساس حيث أن الفردانية المنتشرة في المجتمع، وحالة الانطواء الجمعية والقلق الاجتماعي العام تشكلان عقبة نفسية في طريق أي فعل جماعي يحاول هدم المنظومة. وبذلك تكون الطبقة الوسطى قد قامت بدورها الأساس الذي إخترعتها من أجلها الرأسمالية، وهي حماية الرأسمالية من بطش الفقراء.

ثلاث اسئلة ولا إجابات واضحة

 منذ أن فتحت عيني على هذا العالم البسيط حيناً المعقد أحياناً أخرى، باتت تلاحقني الكثير من الاسئلة، بعضها بسيط لدرجة البلاهة والبعض الآخر معقد لدرجة الجنون، وحيث أني كنت طفلاً كثير التساؤل، فلقد أرهقت والداي بأسئلتي التي ليس لجزء كبير منها اجابة واضحة حسبما أعتقد، ويدلني على ذلك صوت أبي ناطقاً بالكلمة التي إعتدت سماعها كلما قلت له : ” ليش … ” ليرد كما العادة ب” بعرفش “، أو “من وين بتجيب كل هالاسئلة”.

كان جدي لأمي – معلم اللغة العربية المتقاعد – والمصاب بحب الأرض حتى النخاع، منقذي وملجأي في أسئلتي، لا أذكر أنه قال لي يوماً “بعرفش”، ولا رفض إجابة سؤال ما حتى عندما كانت تكون اسئلتي تافهة الى حد البلاهة، جدي الذي كان يقول لأمي كلما طلبت مني عدم ازعاجه باسئلتي “الهبلة” : ” اتركيه يسأل  ويتعلم”.

كان جدي يجيب على اسئلتي قدر استطاعته، وفي حالة لم يكن لديه جواب لسؤال ما كان يأخذني من يدي لمكتبته – التي اعتدت على سحب الكتب منها كلما اردت البحث عن إجابة ما بعد وفاته – لنبحث في الكتب عن الإجابة لسؤالي. ومنذ تلك اللحظة وأنا أحب الكتب كما أحب جدي، ولا أثق باجابة لم استطع الحصول عليها بدون مساعدة أحدهما، أو كلاهما.

قبل سنوات طويلة، غيب الموت جدي عنا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن الإجابات وحدي في كل مكان، أذكر أنني في البداية حاولت أن اسأل جدتي عن بعض الاسئلة ولم يكن جوابها يتغير في كل مرة : ” هذه مكتبة جدك خذ منها ما تريد ” وكنت أفعل، لكن الآن وأنا في آخر العشرينات من عمر قضيت أغلبه باحثاً عن الحقائق، لم يعد جدي موجوداً لاسأله عن ما يجول في خاطري، ولا مكتبته العظيمة التي قضيت عمري باحثاً فيها عن اجابات لاسئلتي، ولا زالت هناك اسئلة تدور في خاطري ولا استطيع الوصول لإجابة تبت الجدال الذي يدور في داخلي.

السؤال الأول :

قبل عدة سنوات كنت جالساً مع صديقة عزيزة علي، وفي وسط النقاش فاجأتني بالسؤال الذي لم أستطع اجابته حتى اللحظة، ” شو يعني وطن؟ “. ولصديقتي هذه في هذا اليوم أكتب ما لم أستطع قوله في تلك اللحظة.

الوطن، تلك المفردة التي لأ استطيع تحديد معنى لها سوى الكثير من المشاعر الغريبة، الوطن ليس مكاناً يمكن حصره في حدود ما، الوطن هو ذلك الشيء الذي يسكننا دوماً، الذي يحلو لنا الموت في سبيله، أو لربما لا تحلو لنا الحياة من دونه، هو الشيء المبهم الذي لا نعرفه حقاً ولكننا نشعر به في نسمة هواء عندما نقطع النهر، هو الفرق بين الذباب في ضفتي نهر، هو الفرح البسيط الذي يجتاح قلبي في لحظة قطعي لماء الأردن، والإبتسامة التي لا مسبب لها سوى أنني قد عدت. الوطن في رأيي الشخصي، هو ذلك الأمر الذي يجتاح القلب عندما تمتليء الرئة بهواء المرة الأولى، ذلك الهواء الذي اقتحم صدورنا عندما ولدنا، فاختلط في دمنا ولم نستطع بعدها التخلص منه.

الوطن هو أن نقف من دون أن نتسائل أين هو طريق البيت.

السؤال الثاني:

كنت أبلغ الرابعة من عمري عندما ماتت جدتي لأبي، أذكر أن ذلك حدث في الليل، في ليلة شتوية عادية، وقد كان ذلك في ليلة ميلاد أخي الأولى، عندما طرقت زوجة عمي باب بيتنا مستنجدة بأمي قائلة : “الحقي خالتي بتموت”.

أذكر أني ذهبت مع أمي الى بيت عمي المجاور لبيتنا في مخيم حطين، لأجد جدتي ممددة متعبة لا تقوى على رفع يدها، وأمي تفحصها بسرعة وتسألها: ” ايش بدك يا خالتي ” لترد عليها بكل هدوء : ” بدي أموت”. في تلك الليلة أخذوا جدتي للمشفى، وفي الغد أخذوها إلى مكان ما، يدعى المقبرة.

لا أذكر موت أحد قبل موت جدتي، لم أكن أعرف شيئاً عن الموت قبل ذلك، جدتي التي علمتني التصفيق كمصاب بالتهاب المفاصل. وفي العزاء عندما طلب منا نحن الأطفال أن نقرأ لها الفاتحة حتى نأخذ الحلوى، بكيت لا لموت جدتي ولكن لأنني لا أحفظ الفاتحة، وأنقذني أبي عندما قال لي: “شو بتعرف طيب؟” فأجبته بأنني أستطيع العد للعشرة بالإنجليزية. فوافق وفرحت لأنني استحقيت حصتي من الحلوى أسوة بابناء عمومتي. ومنذ ذلك اليوم ويطرق رأسي السؤال الذي لا إجابة له ” ما هو الموت ؟”.

أذكر أن ذلك السؤال أخذ من تفكيري الكثير، لم يكن من السهل علي ايجاد اجابة بسيطة لهكذا سؤال معقد، ولم تقنعني أي إجابة من أي شخص يكبرني كلما سألته عنه، لماذا نموت؟، وما هو الموت حقاً.

خلال سنين مراهقتي أذكر أني حاولت أن أموت لأعرف، لكنني لم أمت، فقط إختنقت حتى تفجرت الشعيرات الدموية في وجهي، وكذبت على الجميع عندما قلت لهم أن ذلك من أثر حساسية أصابتني، إذ كان وجهي مغطى بنمش أحمر. لم أمت يومها حقاً، إقتربت منه كثيراً لكنني لم أصل للطرف الآخر من النهر.

لم أعد أخاف الموت من يومها، كنت فتى صغيرا يبلغ من العمر ثلاثة أو أربعة عشر عاماً فقط، لكنني إقتحمت كل مكان يقربني للموت، وكان الموت محيطاً بي من كل جانب، لم أخف، ولم أهرب. وفي داخلي كنت أود معرفته حقاً، أذكر أني صافحت الموت عدة مرات، وكنت أرجع من لقاءه كل مرة، مزهوا سعيداً كأنما التقيت بصديق قديم.

في الحقيقة لا أعرف معنى الموت، لكنه ليس مرعباً كما يشاع عنه، في المرة الأخيرة التي صادفته، كنت نائماً، صحوت على صوت اختناقي، كنت اتشارك الغرفة مع أخي الأصغر، شعرت بصديقي يقترب مني ببطء، وقدرتي على القيام بأي فعل تقل، في البداية كنت أقدر على أخذ أنفاس قصيرة مما ساعدني على النهوض، لم أبحث ليلتها عن أي مساعدة، كل ما فكرت فيه، ما الذي سيفعله أخي إن وجدني ميتاً هنا؟. قمت بهدوء، ارتديت ملابساً غير ملابس النوم، لم يكن إرتداء الملابس صعباً قبل تلك الليلة، شكرت الله على أن نوم أخي ثقيل، وخرجت من الغرفة التي تجمعني به مجرجراً نفسي إلى غرفة الضيوف، اخترت أريكة ذات مسندين لتسندني حين أموت، جلست فيها وأنا أتصبب عرقاً وأنفاسي تتضائل، بدأت الدنيا تعتم من حولي، وعلمت أنه قد أتى، وعندما أعتمت الدنيا تماماً، لم أعد أرى سوى وجه فتاة رأيتها مرة واحدة قبل ذلك.

لماذا كانت هي، أو لم لم أمت، لا أعلم حقاً، لكنني صحوت لاحقاً على صوت شهيقي وألم يمزق رئتي كسكين، لم يكن الهواء لذيذاً من قبل، ولم أكن أشد رغبة بالحياة.

السؤال الثالث:

كنت مختلفاً عندما بدأت أتعرف على نفسي كشاب، كان أقراني مغرمين بالفتيات، بأجسادهن تحديداً، لا أذكر متى بدأت أحب النساء، لكنني أذكر أنني مسروق منذ طفولتي بابتسامة إحدى صديقات أمي، وبعيني إحدى قريباتي من خلف نظاراتها الطبية، وبالشعر القصير لتلك الطبيبة في المركز الطبي الذي كان يأخذني إليه أهلي لأجري فحوصات عديدة وذلك لأني كنت في طفولتي كثير المرض.

كانت تعجبني في صباي “سيمون”، كنت اطير فرحاً وهي تقول “بتكلم جد … متقولش لحد”، وبعد ذلك أذكر أني لم أحب الممثلات وعارضات الأزياء اللواتي كان زملائي في المدرسة يتبادلون صورهن على المجلات كأنها سجائر، وأعجبتني صبية خضراء العيون وأنا في سنتي التاسعة من المدرسة، لإنها كانت تبتسم لي كثيراً عندما كنا نلتقي في دورة اللغة الإنجليزية، وأذكر أني أحضرت لها هدية قبل عيد ميلادها الرابع عشر لأقدمها لها، ولم أرها بعدها، واحتفظت بالهدية بعدها لفترة طويلة.

حاولت كثيراً أن أعرف “ما هو الحب؟”، حاولت حقاً ولكنني لم أستطع حتى هذه اللحظة، كثيراً ما كنت أحاول أن أدخل في تجارب أعتقدها حباً، مع فتيات تعجبني عيونهن، أو ابتساماتهن، او أشياء أخرى، أطول التجارب في حياتي لم تتجاوز الثلاثة أشهر سوى تجربة واحدة، كانت التزاماً دام لأكثر من خمس سنوات، مدفوعا بالاحترام في كثير من الأحيان، والواجب في باقيها.

في جميع العلاقات التي مررت بها كنت رجلاً يقدم المباديء على كل شيء، ودائماً كنت أحاول أن أحب، وأن أعرف ماهية هذا الشعور الذي يدعى حباً، لم أقترب من هذا الشعور سوى مرتين، في المرة الأولى كنت طالباً في السنة الأولى للجامعة، لفتتني تلك الفتاة التي سرقتني لمدة ساعة إلا ربعا –هي طول المسافة من مدينتي إلى الجامعة – ولم أحدثها ولو بكلمة لمدة طويلة، ذلك الشعور الذي اجتاح قلبي في تلك الساعة، كان قادراً على اماتتي وإحيائي من جديد، رأيتها بعدها عندما كدت أموت وتعرفت عليها بعد نهاية تجربتي الأخرى. في المرة الثانية، كنت في جامعة ما في هذا الوطن، ومرت من أمامي فتاة، اجتاحني ذلك الشعور الذي شعرته مع الأولى، لم أستطع ترك خوفي يمنعني من التجربة هذه المرة، تعرفت عليها، وعرفتها بعد فوات الأوان، وما كدت أعرف ما هو الحب، حتى خطفها الموت مني، وخطف مني قدرتي على المجازفة.

هل أحببت حقاً في يوم من الأيام؟، هذا سؤال آخر لا إجابة له، كيف يمكنك أن تجيب على سؤال لا تعرف معناه؟، وكيف يمكن لشخص مثلي أن يحب؟، المشاعر التي تجتاحني دوماً متعبة، ولا أستطيع سبر أغوارها، لكنني في الغالب أحتاج شخصاً ما، يمسكني من يدي كطفل، ويأخذ دور جدي، ليقول لي :”هذا هو الحب”.

عن وهم الحكومة المقاومة في الضفة الغربية وجيوسياسية دولة الكلاب الدلماسية.

تقوم الحكومات في العالم -بالعادة- بإدارة مصالح وتوفير المتطلبات الأساسية -على الأقل- للأفراد الذين يتبعون لها إدارياً وإجتماعياً، وهذا الأمر يتطلب من الحكومات توفير خدمات معينة بشكل منهجي مثل الصحة، التعليم، حل الخلافات الداخلية بين مكونات المجتمع، السيطرة على الجريمة، وغيرها الكثير، وهذا ما يتطلب من الحكومة القدرة على توفير الموازنات اللازمة، انتاج أو استجلاب المواد الرئيسية المرتبطة بكل هذه الخدمات، وهو ما يتطلب نوع من السيطرة على الحدود وعلاقات دبلوماسية جيدة -نسبياً- مع الدولة/الدول التي تتشارك معها هذه الحدود، أو امتلاك ممر مائي حر يتصل بالمياه الإقليمية.

تحتاج الحركات المقاومة -على أقل تقدير- إلى الية لتوفير السلاح، حلفاء استراتيجيين، وامكانية تأمين الإمدادات اللوجستية اللازمة لاستمرارية عناصرها بالعمل المسلح ضد العدو، يتعقد الأمر أكثر عندما تكون هذه الحركة المقاومة تقوم بدور الحكومة أيضاً، حيث تضاف إلى احتياجاتها كحركة مقاومة، إحتياجات الحكومة -المشار إليها أعلاه- وذلك لقيامها بدور إدارة مصالح المجتمع في نفس الوقت الذي يجب عليها القيام بدورها المقاوم في مواجهة العدو.

في حالة السلطة الفلسطينية القائمة حالياً، فإن بناء المنظومة العامة لهذه السلطة يتطلب منها -للقيام بالحد الأدنى من واجباتها تجاه السكان- الحفاظ على علاقة جيدة مع حكومة الاحتلال وذلك انطلاقا من سيطرة الاحتلال التامة على المعابر والحدود، الموانيء البحرية والجوية، حركة الاستيراد والتصدير، والمياه الإقليمية. وحيث أن العلاقة الجيدة مع الإحتلال تتناقض بشكل جذري مع صفة المقاومة، فقدت السلطة -أو حركة المقاومة المرتبطة بها- صفتها الاساسية كحركة مقاومة. وأدى التعاون مع العدو -الكائن بالاحتلال- إلى اكتسابها تلقائيا صفة العمالة -حيث يتم تعريف العمالة بأنها التعاون مع العدو لتحقيق مصالح مشتركة- وهو ما تفعله هذه السلطة علنا وبلا خجل ولا استحياء.

تتصف المناطق التي تسيطر عليها -وهميا- السلطة الفلسطينية بكونها أشبه ببقع على فراء كلب دلماسي(أنظر الصورة أدناه)، بالمقابل يتمتع قطاع غزة بسيطرة تامة على الأرض، ووجود حدود مباشرة-على الرغم من السيطرة عليها من جهات أخرى- مما يمنحه أفضلية من ناحية امكانية حفاظ الجسم الإداري فيه على النهج المقاوم وإدارة مقدرات السكان وإحتياجاتهم، وهو ما يجعله يستطيع الصمود على الرغم من الحصار المفروض عليه. وفي الجهة المقابلة فإن جغرافيا السلطة في الضفة الغربية تمنعها حتى من التواصل بين البقع المتفرقة والمنفصلة منها بدون رضا الإحتلال عن هذا التواصل، مما يجعل من الضرورة الوجودية لأي حكومة تقوم بالسيطرة على المفاصل الإدارية لهذه البقع القيام بالتعاون المشترك مع الجسم الوحيد الذي يمتلك القدرة على قطع مصادرها الى حد الاختناق وهو الاحتلال، وعليه فإن من المستحيل قيام حكومة مقاومة في هذه الجغرافيا، وإن محاولة الوصول إلى مقاليد الحكم في هذه السلطة هو بمثابة انتحار سياسي للجهة التي تقوم به.

مناطق الحكم الذاتي الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة باللون الاخضر الغامق.

ونظرا إلى واقع وطبيعة دويلة بقع الكلاب الدلماسية الخصية(لمعلومات اكثر عن الكلب الدلماسي انظر الصورة أدناه)، فإن الرضا عن ممارسات هذه الدويلة من قبل الإحتلال هو الأساس الوحيد لاستمرارها بالبقاء، وعليه فإن قيام هذه الدويلة بقمع وملاحقة كل فعل مقاوم، ومحاولة هدم الوعي الشعبي الرافض للوجود الاحتلالي، وتمييع اللغة العامة -حيث أن الانسان لا يستطيع التفكير بما لا تستطيع لغته التعبير عنه- هي ممارسات طبيعية ومتوقعة منها، بل ومن المتوقع من أي جهة كانت -مهما كانت وطنية- في حالة وقوعها في فخ القبول بالإدارة السياسية لهذه الدويلة، أن ترضخ لهذه المحددات وأن تتحول -مع الوقت- إلى كيان سياسي خصي راضخ تحت أقدام المنظومة الإحتلالية.

كلب دلماسي

وقد يكون -برأيي الشخصي- ما حدث في 2007 من سيطرة عسكرية لحركة حماس في قطاع غزة، وانتزاعها -بالقوة- لجميع مقاليد الحكم والسيطرة على الواقع والجغرافيا هناك، هو المهرب الوحيد من المأزق الذي أودى بها فيه نجاحها الكاسح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني 2006، حيث آثرت الانفصال عن الجسم الكلي للوطن، وهو ما لم يكن من الممكن تنفيذه بدون إنسحاب الإحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، والذي وفر جغرافيا جديدة قابلة للتعامل معها كحركة مقاومة، على العكس من وضع الضفة المتردي بإطّراد، والذي سيستمر بالتردي طالما استمر وجود هذه المنظومة في هذه الجغرافيا.

وعليه وكتلخيص لما سبق، أعتقد جازماً باستحالة قيام كيان حكومي مقاوم قادر على الاستمرار في الجغرافيا الموجودة حالياً، حيث لا يمكن لهذه الحكومة تأمين ضرورات الحياة لأفراد المجتمع، ولا تأمين السلاح اللازم لمقاومة وفرض سيطرة دائمة على جغرافيا بديلة منتزعة من أيدي الإحتلال الممتدة في كل زوايا الوطن، وليس من الممكن تأسيس قوة منظمة فاعلة ضد الإحتلال في وجود هذه المنظومة التي تعمل على الدوام لملاحقة وانهاء كل من يفكر بمقاومة هذا الاحتلال، وعليه علينا -مع الأسف- العودة الى الوراء والتخلي عن وهم الحكم الذاتي في الضفة الغربية، والعودة الى جغرافيا الاشتباك الشامل، حيث يتواجد الشعب الفلسطيني في كل زوايا البلاد.

عن الذهاب المستمر إلى البلاد، العودة الدائمة والوصول المؤقت.

منذ أن وقعت أرضنا الفلسطينية تحت هذا الاحتلال الإحلالي، ومغادرة الكثير من ابناء شعبنا الفلسطيني لبلادهم السليبة، وحلم العودة إلى البلاد يجول على الدوام في خاطر كل فلسطيني أبعد عن أرضه قسرا، ومنذ البدايات وعمليات التسلل الى البلاد تؤرق هذا المحتل وتدفعه للبحث عن المتسللين وايقاف عمليات التسلل، التي لم يكن من الضرورة أن تكون لهدف نضالي حتى تسبب مشكلة لهذا الاحتلال، حيث يكفي للفلسطيني ان يحافظ على ارتباطه المكاني والعاطفي مع الارض لكي يخلق معضلة وجودية للمحتل الذي يحاول أن يحل مكانه، فوجود الفلسطيني المرتبط بالمكان يهدد هذا الاحتلال وجوديا كما يهدده الفلسطيني المقاتل تماما.

ومن هنا جرت قداسة الرحلة الى الأرض السليبة، الرحلة التي تخاطر بكل شيء في سبيلها، أن تضع حياتك ومستقبلك في سبيل رشفة ماء من عين البلد، حفنة تراب من ارض القسمة، حبة رمان من رمانة الحوش، او نفس هواء من هواء البلاد المقدس.

يتعرض الفلسطيني في رحلته المستمرة الى البلاد لمختلف المخاطر الممكنة، حيث أن اطلاق النار عليك أو احتجازك وأسرك هو أمر وارد الحدوث، على الرغم من سهولة الدخول النسبية -في الوقت الراهن- والذي يعزيه الجميع لنوع من محاولة تخفيف الضغط على الفلسطيني خوفا من انفجاره المحتوم، ومحاولة لانعاش الاقتصاد الراكد من وقت بداية الجائحة -وهي محاولة غبية برأيي الشخصي حيث أن الفلسطيني الحق لا يقوم بصرف امواله في الداخل-.

ان التسلل الى البلاد بالنسبة للفلسطيني هو تلك العودة المؤقتة للبلاد الحلم، وقد قام الفلسطيني منذ الازل بالتسلل الى فردوسه المفقود، من خلال الفتحات حاليا، من “طريق اللفة” سابقا، من داخل عبارات الصرف وقفزا عن الجدار، الفلسطيني يذهب على الدوام الى بلاده. في طقس روحي مستمر من العودة المؤقتة، تدريب مستمر للعودة الدائمة بديلا عن هذا الوصول المؤقت.

يذهب الكثير من “المرضي عنهم”، الى الداخل عن طريق تصاريح خاصة، بطاقات شخصيات، وتصاريح تجار، وبالعادة يكون هؤلاء من المرضي عنهم او من كبار المسؤولين في منظومة السلطة أو حركة فتح، حيث أن الارتباطين العسكري والمدني وهما اجهزة اصيلة في منظومة السلطة مرتبطان بشكل اساسي مع العدو الاسرائيلي بشكل مباشر، ومن المهزلة بمكان أن من اساسات سلطة تدعي نفسها بالوطنية هو انشاء اجهزة وظيفتها المعلنة هي العمالة وتبادل المعلومات مع اجهزة الاحتلال الامنية والادارية ولكن هذا حديث لوقت لاحق.

سيعود الفلسطيني الى ارضه المسلوبة، سيرجع وهو يحفظ طرقها بالقلب، لن يتوقف ليسأل أحدهم أين الطريق الى البلاد، فهي الطريق المستمر، وهو ابنها العائد على الدوام.

عن تيليجرام، الخراف، الثمن المدفوع وأشياء أخرى.

يدور في هذه الأيام أحد أنواع الهوس الجماعي بهجرة تطبيق التراسل الفوري المملوك لشركة فيسبوك واتساب، وذلك بسبب تعديل بنود سياسة الخصوصية الخاصة به والذي يسمح له بمشاركة بيانات المستخدمين مع الشركة الأم فيسبوك، والذي يعتبره الكثيرين انتهاكا جسيما لخصوصيتهم، وفي ظل هذا الهوس المحموم بالخصوصية والحصول عليها يعلن تطبيق تيليجرام المنافس لواتساب وصول عدد المشتركين فيه ل 500 مليون مستخدم، بواقع 25 مليون مستخدم خلال الأيام القليلة الماضية، وعليه فإنني أكتب هنا مدفوعًا بهذه الهجرة الجماعية التي تبدو اعتباطية بشكل ما، مما يسبب لي إزعاجًا طفيفًا أعزوه إلى واحدة من عقدي النفسية – التي لا حصر لها على الإطلاق – وذلك لأنني لا أستطيع إلا ذلك.

عن الهجرة إلى تيليجرام:

يملك أغلب المهاجرين من واتساب حسابات على كل من فيسبوك و إنستاجرام، يستخدم الأغلبية منهم التطبيقات الخاصة بهذه الشبكات على هواتفهم الذكية، تقوم هذه التطبيقات بجمع البيانات الخاصة بالمستخدمين لها واستخدامهم لكل منها ومشاركتها فيما بينها، بما يشمل البيانات التي يريد واتساب مشاركتها مع فيسبوك، وبذلك فإن عملية الهجرة إلى تيليجرام أو غيره لم تقم بعمل أي تغيير يذكر على كمية البيانات المجمعة عن كل منهم، بالمقابل فإن المستخدمين الذين قاموا باختيار تيليجرام بديلاً للواتساب قد تخلوا عن خاصية التشفير الطرفي المفعلة مسبقا في واتساب، واختاروا تيليجرام الذي لا يقوم بتشفير المحادثات إلا في حالة إنشاء محادثة سرية، ويقوم كلا التطبيقين بحفظ المحادثات بشكل غير مشفر في حالة عمل نسخة احتياطية عنها على خوادم شركة جوجل وابل وذلك حسب نوع هاتف المستخدم. يقوم تيليجرام بحفظ نسخة من رسائل المستخدمين ولوائح الاتصال الخاصة بهم على الخوادم الخاصة بالشركة (خوادم خاصة غير مفتوحة المصدر)، مما يعني أن أي اختراق لهذه الخوادم سيترك كافة بيانات ورسائل المستخدمين متاحة للبيع والشراء بكل الوسائل الممكنة، وبذلك يتفوق واتساب على تيليجرام من ناحية أمن الرسائل المتبادلة، حيث لا تملك شركة فيسبوك نسخة عن رسائلك الخاصة، وإن فعلت ستمتلكها بصورة مشفرة وذلك باستخدام بروتوكول سيجنال للتشفير الطرفي والذي يستخدمه تطبيق سيجنال للتواصل الفوري (وهو الخيار الأكثر أمانًا من التطبيقين الآخرين)، وعليه فإن ترك واتساب للذهاب إلى تيليجرام هو عبارة عن خيار سيء في أحسن الأحوال. وذلك بعيداً عن وهم الخصوصية الذي تخلى عنه أغلبيتنا في اللحظة التي قمنا بها بإقتناء هاتفٍ ذكي وقمنا بنشر جميع معلوماتنا على جميع وسائل التواصل الإجتماعي. 

عن الثمن المدفوع :

هناك ثلاث أنواع من التطبيقات المجانية في هذا العالم، التطبيقات التابعة لشركات ربحية، والتطبيقات المجانية مفتوحة المصدر – يمكننا اعتبار هذه التطبيقات شكلاً من أشكال الاشتراكية الالكترونية – أو تطبيقات مجانية مدعومة من جهات أخرى، ويمكن أن ننظر إلى تطبيقات المراسلة الثلاث من هذه الزاوية لنجد أن واتساب يتبع شركة رأسمالية كبرى مثل فيسبوك، وتيليجرام يتم تمويله بشكل شخصي من الأخوة دوروف، وسيجنال كتطبيق مجاني مفتوح المصدر تابع لمؤسسة غير ربحية يتم تمويلها عن طريق التبرعات وقرض طويل الأجل بفائدة صفرية من قبل أحد المؤسسين. وفي هذه الحالات الثلاث يمكننا القول أنه لا يوجد ما هو مجاني حقيقةً، في حالة واتساب وتيليجرام فإن معلوماتك هي التي تباع، الفرق بين التطبيقين أنه في الحالة الاولى نحن نعرف تمامًا ما الذي يتم بيعه، في حالة سيجنال فإن البعض يقومون بدفع الثمن عن الكل وطالما تقوم التبرعات بسداد النفقات الخاصة بالتطبيق يمكننا أن نتوقع بقاء التطبيق مجانيًا ومتاحًا للجميع. 

عن الخراف: 

تقوم قطعان الخراف حول العالم في حالات كثيرة بالقفز من فوق جرف عالٍ نحو الموت، يقول الباحثون في سيكولوجيا الخراف أن هذه الحالات ناتجة عن أن الخراف بطبيعتها حيوانات تابعة، لا تفكر كثيرًا في المكان التي تذهب إليه حيث يحاول كل خروف منها اللحاق بذيل الخروف الذي يسير أمامه، بغض النظر عن المكان الذي سيذهب إليه، وعليه فإن أحد الخراف السائرة في طليعة القطيع يقوم بإتخاذ خيار خاطئ في بعض الأحيان مما يؤدي به إلى التردي عن جرف سحيق متبوعًا بباقي القطيع، الذي يقفز ورائه بغير إدراك لنتائج قفزته المحمومة نحو ذيل خروف غبي يسبقه. في الكثير من الأحيان يتصرف البشر كخرافٍ بلهاء، ولربما يقفزون جميعا وراء قائد غُمّ على بصره إلى موتٍ محتوم. 

عن الرأي: 

تستخدم الكثير من الحكومات أو الجماعات شركات متخصصة للتأثير على رأي الجمهور في أمور محددة، وذلك باستخدام البيانات الضخمة التي تبيعها شركات التواصل الإجتماعي وتزويد الخدمات، وذلك لدفع الجمهور إلى القيام بخيارٍ معين في إنتخاباتٍ قادمة أو استفتاءٍ مهم ترغب هذه الحكومة أو الجماعة في الحصول على منفعة منها، وتعتبر شعوب العالم هذا الأمر هو أحد أخطر ما يمكن فعله باستخدام البيانات الخاصة بالمستخدمين، في عالمنا العربي الجميل يقوم الحكام بمصادرة رأيك من دون أن يسألك أحد عنه، وانتهاك خصوصيتك بدون أن تستطيع حتى الإعتراض على ذلك، يتم تفتيشك ذاتيا، تسجيل مكالماتك الهاتفية، تقصي وضعيتك المفضلة لممارسة الجنس، وتسجيلها في سجلات أجهزة الأمن.

عن التفاهة:

نحن تافهون.