عن الموت، الحب، الحياة والرغبة.

لقد كان الموت يحيط بي من كل جانب مذ كنت جنينا في رحم أمي، فأنا التوأم الحي لطفلة ولدت ميتة قبلي ببضع أيام، والطفل الذي ولد قبل ميقاته بشهرين كاملين وأمضى أول أسبوعين من عمره في حاضنة المستشفى لكي يعيش، وقد ولدت بكبد وطحال متضخمين، ومناعة سيئة للغاية، ولم يستطع الأطباء إيجاد حل لمشكلتي فتوقعوا لي أن لا أعيش لأكمل الخمسة سنوات من عمري، وانقذتني أمي من قنبلة غاز سقطت على حجري وأنا في باحة البيت، وتوقف قلبي لاثنتي عشرة دقيقة عندما كنت ابن ثلاث سنوات اثر سقوطي من علِ، وأصابني الصرع مؤقتاً بدون تحذير عندما كنت ابن ست، وكانت ستقتلني نوبة ربو شديدة وأنا ابن سبع، ونوبة حساسية أشد بعمر الثماني، وكأن الحياة حاولت منذ البداية جداً لفظي خارجها، وبقيت عالقا في حلقها رغما عني وعنها على حد سواء، وعلى الرغم من كل هذه التجارب المبكرة إلا أن معرفتي الحقيقية للموت بدأت بعد ذلك ببضع سنين، عندما كنت بعمر العاشرة تقريبا، وبدأت الدنيا من حولي بالاشتعال لتصنع ناراً يوقدها الغضب العظيم والرغبة العميقة في التحرر، وكما يتوقع من شعب يواجه جميع آليات الموت الحديثة بصدر ابنائه العاري، والقليل من السلاح البسيط، سينبت الموت فيه كعشب بري في ربيع الأرض، ويحيط بكل زواياه منبتاً دحنوناً أحمر في كل الزوايا الممكنة.

لقد كنت فتى عادياً بعمر العاشرة عندما اندلعت الانتفاضة، وكما أي فتى في مخيم لاجئين في تلك الفترة، لم تمنحني الحياة الفرصة لكي أكبر بهدوء، وقد ضعت بين الحرب والعاب الفتيان، فأصبحت الحرب لعبة وأصبح الموت رفيق لعب، يأخذ أحدنا أحيانا، وتلاشت بسرعة الفوارق العمرية بين الأجيال، وأصبح الجميع رفاقا في نفس الملعب، لنحتسي الشاي في فترات الراحة فوق أكياس الرمل، أو في بيت لم يكتمل بناؤه، وكانوا يذهبون مع الموت فرادى، ونحملهم للقبور جماعات، ولا يمهلنا الموت أن ننسى طريق المقبرة. ومع الوقت ألفنا الموت، توقعناه ضيفاً ثقيل الظل يأتي فجأة، فوضعنا له كأسا وطبق على كل مائدة، وتركنا له كرسياً في كل جلسة، ومع مرور الأيام، عندما يصبح الرفاق الذين رافقوه أكثر من الذين بقوا في حياتك، ستعلم أن البقاء حياً قد يكون في الكثير من الأحيان خيار أسوأ من الذهاب برفقة الموت.

عندما تكبر بسرعة، وتعتقد أنك ستموت بسرعة أيضاً، تسعى بنفس تلك السرعة لأن تغنم من الحياة أي جزء ممكن، ستجري نحو الحب بسرعة، ستقع كثيراً، وتجرح كثيراً، وقد تزيد جراح قلبك عن جراح جسدك ألما وفداحة، هناك عندما يكون الموت هو الرفيق الذي يأخذ الجميع من حولك، يصبح الحب هو مأمنك المأمول، فهناك يمكنك أن تنتصر على الموت.

لقد كان عمري أربع عشرة سنة عندما وقعت أول مرة، قد يكون ذلك مضحكا في هذه الأيام، لكن في أيامي تلك، كنت قد دفنت ما يزيد على عشر رفاق، ولم أكن أتوقع من نفسي أن أتم الثمانية عشر عاما من العمر، وبذلك فقد كنت متأخرا عن الحياة، ومتلهفاً لها، وقد دخلت الحب كل مرة بنفس اللهفة والشجاعة، وقد كنت جاداً على الدوام، فعلى الرغم من كون العلاقات العاطفية محض العاب شد وجذب متوترة بين شخصين، إلا أنني لم أخن إحداهن البتة، ولم أبتغ سواها معها، فقد كنت على الدوام مقتنعا باختياري ومؤمنا به -وهو أمر غبي في الحقيقة- وحيث أنني لم أتمرس الكذب أو اللعب، ففي العادة لم تدم علاقاتي طويلاً، فلقد تركني جميع من أحببت، وأحببت كل مرة كما لو أنني لم أحبب من قبل، وقد كنت وحيداً معهن جميعاً.

لا أعلم بحق ما هي الحياة، أعرف أنها مرتبطة بالموت، أو بالأصح أنها غيابه، ولكنني في غياب الموت لا أشعر أنني حي بالحقيقة، ما الذي يعنيه أن نحيا؟، هل هي أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس؟، أم أن نحارب ونقاتل ونموت؟، هل هي أن نحب؟، هل هي أن نكتب؟، أن نرقص؟، أن نصلي؟، ما الذي تعنيه هذه الملعنة التي تدعى حياة، ها أنا في نهاية النصف الأول من ثلاثينيات عمري، لا أعرف ما الذي يعنيه أن أعيش حقاً، ولا أعلم كيف يمكنني أن أعيش، لكنني أعلم أنني أحتاج القليل القليل من الأشياء في هذه الدنيا، وأعلم أنني تعب جدا ومرهق، وكلما مددت يدي لرفيق يؤنس وحدتي، كسر أصابعها وردها إلي، وأنا الذي فقد الطاقة اللازمة للعتاب، أكتب كثيراً لأنني لا أملك شخصا واحدا أتحدث اليه بدون خوف، ولا حضن آوي إليه كما أنا فيحتوي كل ما أنا فيه من تناقض، ويخبرني بأنني لست وحدي.

أشتهي على الدوام أن أمتلك من الأرض ما يكفيني لأزرع بستانا واسعا من كل ما يمكن أن يثمر، وشاطيء اصطاد السمك عليه، أشتهي أن لا يكون هناك مواعيد سوى مواعيد السماء والأرض، تنضج الحبة فنقطفها، أشتهي أن يشاركني هذه الحياة إحداهن، لا يهمني الكثير في الحقيقة، أشتهي أن تستطيع فهمي، أن تكون معي، أن تسمعني عندما أشعر برغبة في الكلام، أن لا توافقني الرأي على الدوام، أن تحاورني بما تريد، وأن تكون صادقة حقاً، هل كثير أن أشتهي الصدق؟، أليس من الجميل أن يكون أحدهم صادقاً معك على الدوام!. أشتهي أن لا أكون وحيداً بعد اليوم، وأن أمتلك أرضي، وقتي وحياتي، وأن أكون حراً كطير، وبسيطا ككأس ماء، واشتهي أن أحِبّ، وأن أحَبّ، وأن أعيش، وأن أموت. 

عن البيت، شجرة التوت وطعم الحب.

منذ أن وعيت على هذا العالم، والبيت مرتبط في ذاكرتي بشجرة توت كبيرة، نقتطف حباتها برفق، تصبغ ثيابنا ليلاحقنا توبيخ أمي الدائم بسبب تلويثنا الثياب المغسولة حديثاً بلون التوت البنفسجي، وشجرة التوت لمن لا يعلم، هي شجرة عظيمة الحجم، كثيرة الاغصان، تهبط اغصانها الطرية برفق نحو الأرض عندما يقترب نضج الثمار، وتحمل ثمارا كثيرة جداً، تكفي لكي نأكل منها نحن وعصافير البرية والدجاجات الفجعة، ويبقى الكثير من التوت تحت الشجرة مهما قامت أمي أو جدتي بالتنظيف تحتها، حيث يكفي الحبة الناضجة مرور نسمة هواء عليلة من قربها لتقفز عن الغصن منطلقة ككرة صباغ بنفسجية في لعبة (paintball) لتقوم بتلوين اي شخص او سطح تقع عليه، ولك أن تتخيل منظرنا بعد خروجنا من معركة قطف التوت، وقد هززنا الاغصان بما يكفي لتنطلق الف حبة توت بكل الاتجاهات الممكنة ومسحنا ايدينا بقمصاننا النظيفة.

على الرغم من أن حياتي لم تكن يوما مستقرة في مكان واحد -منذ أن جئت الى هذه الدنيا- إلا أن جميع البيوت التي شعرت بها بدفء البيت حقاً، كان يوجد في زاوية منها شجرة توت ضخمة، وكأنما هي ضرورة في كل بيوتنا، كما هي دالية العنب، أو كأن كل كبار العائلة في كل مكان قطنوا فيه، يحاولون خلق صورة مشابهة للبلاد، في المنفى القريب والبعيد على حد سواء، وهو ما قمت انا بفعله بدوري عندما وصلت الرحلة الطويلة من تبديل البيوت والمناطق، والترحل من سقف الى سقف الى نهايتها المفترضة، حيث قمت بزراعة توتة جديدة، وثلاث شتلات من العنب قبل أي اشجار أخرى، وكأنما هذا هو الفعل الطبيعي وإعلان أن هذا المكان هو البيت -على الأقل مؤقتا-

في طفولتي في المنفى البعيد، كانت هناك شجرتا توت تعلنان البيت، شجرة التوت الواقفة في وسط ساحة بيت جدي في المخيم، وشجرة التوت فوق المخزن في بيت خالتي في الضاحية القريبة منه، وحيث أن طفولتي كانت عملية انتقال متكرر بين هذين البيتين، حيث كانت بنت خالتي تقوم برعايتي خلال فترة عمل أمي في المركز الصحي، ومن ثم نعود مساءا الى بيتنا في المخيم بجانب بيت جدي، فقد كنت امارس هوايتي القديمة والدائمة في قطف التوت وتلويث الثياب بشكل شبه يومي على طول موسم التوت.

عندما انتهت فترة النفي المؤقت التي غادرت بسببها البلاد أنا وأمي، وعدنا أخيرا الى المنفى القريب في مخيمات الوطن، وجدت بجانب بيت جدي هنا شجرة توت هي الأعظم في ذاكرتي، والأكثر كرماً، حيث لم يقتصر عطاؤها على التوت الذي يطعم كل مخلوقات الأرض، بل وكان ينبت الفطر اللذيذ تحتها وبين اوراقها المتساقطة، وقد كنت استيقظ يوميا للبحث عن الفطر تحت التوتة لكي احضره لجدتي لتصنع لي فطوري المفضل (بيض وفقع) بعد أن احضر لها البيض من عند الدجاج.

عندما كبرت التوتة في بيتنا الحالي وعظمت، وأصبحت تطعمنا بعد أن تشبع عصافير المنطقة، أصبح البيت بيتاً، دفء غريب يمكن لشجرة بسيطة أن تمدنا اياه، بالاضافة للكثير من الثمار الصغيرة سريعة التلف لذيذة الطعم، وكأنما هي طعم الجنة أو الحب، وحيث كاد جمال بخيت يصل السماء في قصيدته (شباك النبي) برأيي بسبب مقطع بسيط يبدأه ب”على باب الجنة يا طعم التوت” ولم يكن هناك تشبيه أبلغ من هذا في قلبي، وقد يكون أكثر أفعال المحبة التي قمت بها في حياتي تجاه إحداهن هي دعوتي لها بأن تقطف التوت من توتة بيتنا، وكأنما كل كلمات الحب في الحياة، تصبح بلا معنى إن لم تكن احداها (تعي نلقط توت).

لماذا نقاتل.

يقاتل البشر بعضهم بعضاً منذ أن قرر أحد ما قبل التاريخ المكتوب أن يسيطر على أكبر مساحة من الأرض ويمنع الآخرين من استغلالها، وحيث بدأت الحرب بالملكية الفردية، فإن انتهاء الحروب سينتهي بالضرورة بانتهائها، ويمكننا أن نرى في الواقع أن غالبية الحروب في التاريخ كانت تدفعها المصالح المادية بشكل أساسي، وعلى الرغم من مادية الحروب بحقيقتها البسيطة، إلا أن القتال بصورته الأكثر وضوحاً وبدائية ليس مدفوعا بذلك النوع من المصالح الذي يتراءى للغالبية العظمى منا عندما يفكر بماديتها، ومع أن القتال بطبيعته يجلب الكثير من الفوائد المادية للقليل من البشر، إلا أن المستفيدين من القتال بالعادة هم الذين لا يقاتلون.

تقاتل الأمم بعضها بعضاً من أجل زيادة حصتها من الموارد الطبيعية -النفط مثالا- أو من أجل زيادة قوة الايديولوجيا التي تعتنقها -الحروب الدينية مثلا- أو من أجل خليط من هذا وذاك، ويمكننا مشاهدة ذلك بشكل واضح في غالبية الاستعمارات الحديثة التي اكتشفت أن استبدال الثقافة الأصيلة لدى المستعمَر يؤدي لانتاج شعب جديد يتشابه ثقافياً -بالمظهر فقط- مع المستعمِر، وهو ما يتيح للمستعمِر إستمرار سيطرته على الموارد بدون أن يكون مضطراً للتعامل مع تبعات استعمار مجموعات بشرية ضخمة، حيث يقوم بنقل السلطة بشكل رسمي الى كيان سياسي هجين يتكون من طبقة نخبوية ترى في شعبها وثقافته الأصيلة مرضاً معدياً، وتتقزز من حقيقة انتمائها للشعب نفسه، فتقوم بممارسة ما كان يمارسه الاستعمار عليه، مع المحافظة على خطوط امداد المركز الاستعماري بالمواد الخام، مقابل خطوط توريد المنتجات الاستعمارية نحو الطرف المستعمَر، وهو ما يحقق للمركز الية لتصريف فائض الإنتاج لديه، مع ضمان مراكمته المستمرة لرأس المال والسيطرة عن بعد على الاطراف الاستعمارية التابعة له وضمان عدم صيرورة الأمور الى ما يؤدي به الى فقدان هذه السيطرة. وحيث يؤدي فشل النخبة التابعة في ضمان السيطرة الدائمة على اختلاجات التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار الى ظهور الثورات التحررية في المجتمع المستعمَر، والتي تكون عنيفة ودموية بطبيعة الحال، حيث لا يمكن للمرء خلع أظافره المتعفنة بدون اجتثاث لحمه معها.

خلال عصور الحروب القديمة، بعد انتهاء المعركة بتشتت صفوف العدو المقابل، كانت فرق الخيالة تتولى مهمة مطاردة العدو الهارب، وعلى الرغم من قدرة الحصان على الركض بسرعة أكبر من سرعة الجريح الهارب من القتال، إلا أن فرسان الطرف المنتصر لم يكونوا يحاولون اللحاق بالهاربين في الحقيقة، حيث إكتشف البشر منذ بداية زمن الحروب، أن انعدام الأمل بالنجاة، والتواجد في موقف لا فوز فيه قد يودي بالانسان للفوز، فحيث يعلم المرء أنه مقتول مهما فعل، سيتجاوز حدود المنطق البشري، ويقاتل كمن لا شيء لديه ليخسره، وهو ما يجعله أكثر خطورة بمراحل من ذلك الرجل الهارب من معركة ليوصل مأمنه، وأن فعل الملاحقة في الواقع يحمل في ثناياه هدفاً استراتيجياً مختلفاً عما يبدو عليه، حيث لا يحاول المنتصر القضاء على المهزوم في الواقع بل يحاول أن لا يمنحه الفرصة لإعادة تنظيم صفوفه، فيقوم بملاحقته بالقدر الكافي ليشتت جماعته ويوهمه بأنه سيقتله إن لحق به، ولا يدرك الخائف بأن الحصان لا يزال محافظاً على مسافة آمنة منه إلى أن لا يعود ممكناً أن ينتظم ورفاقه في صف مقاتل مرة أخرى، وتحسم المعركة.

على الرغم من كل أسباب القتال الماضية، حيث يتزايد زخم الفعل العسكري الفلسطيني بتغير المعطيات المحيطة، فقد يقاتل الفلسطيني أملاً بافتراجة مادية أو يأساً من موت أكيد، قد يقاتل للخلاص من إظفر متعفن في لحمه، أو من أجل الدفاع عن أيديولوجياته وثقافته، إلا أن الشعب الفلسطيني يقاتل لأسباب أخرى بالاضافة للقليل من هذا وذاك، وقد يكون من الصواب أن نقول أننا نقاتل في الحقيقة لأننا نحلم، يقاتل الفلسطيني لأنه يحلم بأن لا يكون كل ما قد كان، نحارب هنا بلحمنا ودمناً، وسلاحنا الفردي، بحجارة أرضنا، نحارب بالحياة والموت، لأننا نحلم أن لا تكون الحرب، نحن الذين نقتل في كل حين حتى لم يعد الموت يعنينا، نقاتل هنا من أجلكم جميعاً، نقاتل من أجل كل ابن عاهرة في هذا الكوكب،نقاتل لأننا نعلم بأن فلسطين هي البداية، وأن القضاء على الإحتلال، هو البداية في معركتنا الأزلية، للقضاء على كل شرور هذا العالم.

هنا في هذه الأرض المسماة فلسطين، شعب كامل يموت كل يوم، ويولد كل يوم، يمترس الحرب حتى لم يعد يعرف بدونها من هو، يقاتل ليحمي شعوب العالم أجمع من أن يلتهمهم وحش الإمبريالية المفترس، يقاتل لكي يجد يوماً ما، في أرضه السليبة، مكانا يستطيع فيه أبناء هذا الشعب المنتشرون في كل أصقاع الأرض، أن يحلموا بشيء آخر، سوى أن يموت الواحد منهم وهو يقاتل.

عن النفس الذي عاش ليعم البلاد

في أيار من العام الحادي والعشرين بعد الالف الثانية للميلاد، اضائت غزة قلوب الشعوب المتفرقة، لتصبح شعبا واحداً، واستلت سيفاً لتدافع عن عاصمة البلاد وجوهرة تاجها، المدينة التي وسمت بالسلام ولم تر يوماً سلاما، وقد يكون من الممكن لنا كشعب فلسطيني أن نؤرخ للتاريخ الفلسطيني بما قبل وما بعد هذه الحادثة -وكل أمور الكون حوادث- فحيث أصبح التحرير أمراً واقعا في قلوب كل من شكك بحتميته، حيث انهارت كل محاولات التدجين والترويض المستمرة في الضفة وغزة والداخل، هناك عندما شعرنا بالوحدة للمرة الأولى منذ أن فرقتنا الإتفاقيات، والهوس المستمر للسلطة، أصبحت فلسطين كلاً واحداً، وأصبح التحرير حلماً للجميع -ليس عندما تتحرر بل عندما نحررها- ونراه قريباً.

خلال هذا الشهر نفسه، شاب يقاتل برفقة رفاق منتقين منذ ما يربو على العام بقليل، يخاطب كل من يحمل البنادق، بنفس واثق ورأي سديد، مطالباً كل من يحمل السلاح باداء امانته، وتصويب فوهة بنادقهم إلى العدو، حيث المعركة الحقة، لا مع طيور الجو وغيومه. في الشهر اللاحق، يستيقظ العالم على “عاش النفس”، صوت في خلفية الرصاص المشتبك في جنين، فيديو قصير وثلاثة شهداء، من ضمنهم جميل العموري، المقاتل الذي رأى أن إهانة الرصاص في ارساله للهواء بينما تمتلك عدوا تقاتله، فخاض بشريفته معركة تصويب البوصلة.

بعد معركة سيف القدس، تغير العالم أجمع -في نظر الفلسطيني على الأقل- لقد آمننا بحرب تحرير تنطلق من غزة، تفتح فيها جبهات النار على العدو من جميع الإتجاهات، يساندنا فيها كل الحلفاء، لنعمل سويا من أجل تحرير بلادنا المسلوبة، والإنتصار على عدونا المشترك، وقد يكون أكثر ما قدمته لنا المعركة سوءاً، هو الإيمان القاطع بأننا لن نهزم، أو بأن غزة لن تهزم، وستحرر العالم كله لو أرادت، لكنها معادلات الدم، والرغبة في منع الموت عن الأطفال الذين سيبنون بلادنا بعد التحرير، “بعد التحرير” كانت الجملة الأكثر تداولا بين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم خلال السنة الماضية، هناك حيث ينتظر الجميع المعركة الفاصلة.

في انتظار المعركة، يختلف الدور الذي يقوم به الأفراد باختلاف اهوائهم وطباعهم، يقوم البعض بممارسة حياته كأنما لن تأت الحرب، يقوم الآخرون بانتظار المعركة والتفكير بها لحد يمنعهم من القيام بأي فعل آخر، تقوم القلة القليلة الباقية بالقتال في محاولة مستميتة لاستعجال الحرب، هنا حيث تصبح الحرب هي الخلاص الوحيد من حالة السكون القاتلة، حيث نقتل فرادى، يخنقنا الموت من كل جانب، ويقتلنا جنود خائفين، أو لاهين بأرواحنا، لا فرق في الحالتين سوى أن هذا ليس الموت الذي يعجبنا، وأن المهانة أن تموت جبانا، فيقومون باختيار موتهم المشتهى، في لظى المعارك، ويرسمون لنا حلماً آخر نحلمه جميعاً، شعب كامل يحلم أن يموت وهو يقاتل.

قد تكون أعظم مثالب الإيمان أنه يدعو للخمول، وقد تكون أعظم مثالب اليأس أنه مدعاة للاستسلام، وهنا في البلاد التي يقطع أوصالها المستوطنون يمنة ويسرة، حيث يدفع المقاتلون ثمن القتال من دمهم وخبز أولادهم، يمكنك أن ترى أثر ثنائية اليأس والأمل واضحا حيثما وليت وجهك، حيث يستلهم الناس دورهم اليومي في المعارك من أثرها المباشر عليهم. فحيث رأى الناس التحرير واقعا في سيف القدس، قام الشعب كله ليدعم من يقاتل، وعندما انتهت الحرب، عاد السواد الأعظم منهم لتدبير شؤون حياتهم منتظرين الحرب القادمة.

بعد ما يزيد على العام بقليل، انتهت معركة ما بسرعة لم نعهدها من قبل، معركة خرج منها الشعب كله ضائعا منكسراً، هناك حيث هزمنا في المعركة -ولا معنى لتسمية الهزيمة انتصارا إلا في الخطابات والقصائد- تلقى كل منا صفعة لا زالت تطن في أذنه حتى اللحظة، هناك حيث عرفنا أن غزة لن تستطيع تحريرنا وحدها، وحيث تكسرت قلوبنا التي رأتنا نحن لا أولادنا في شوارع حيفا بدون أن يزاحمنا فيها آخرون بعيون زرقاء وشعر أصفر، هنا حيث غص كل منا بحلمه، واستيقظ الجميع، وكان اليأس ينتشر في القلوب.

في السادس من شهر أيلول الأول بعد الهزيمة، تشرق على البلاد ستة أقمار وشمس واحدة، تتمدد في البلاد معيدة للقلوب نبضها، مؤكدة لنا أن النصر ممكن، وأن الحرية ممكنة، وأن العمل من أجل النصر أجدى من الخمول، وأن لن يهزم يوماً من كان يقاوم، هناك من تحت أرض جنين، استعاد الشعب حلمه، بدون يأس من النصر، ولا ركون لحتميته، وهناك في تلك اللحظات، عرف جميع أفراد الشعب، أن الوحوش غبار. ما بين معركة ومعركة، كان شبان صغار يبنون أحلامهم على إرث شوارعهم، يرون أن الحرب لن تخرج من غير أيديهم، يزرعون الأرض رصاصا وبنادق، ويقاتلون المحتل بشكل يومي، هم من رأى أن الأحلام إذا عظمت لن تصبح واقعا بدون دماء، حيث استمر الرصاص الذي اطلقه جميل بالتوالد في بنادق رفاقه، والإنتشار في البلاد تذروه الرياح، لينبت في كل مكان. عندما بدأ جميل الرصاص، كان أن عرفه طريقاً أوحداً للنصر، عندما أكمل رفاقه الدرب، كان الثأر وحنين الرفاق للرفاق.

يقاتل الفلسطيني مدفوعاً على الدوام بمشاعر فطرية قد لا يعرفها سواه، حيث لا يستطيع أحد ما تصور أن القتال -على صعوبته في كل مكان- يمكن أن يصبح أسلوباً وحيداً للبقاء، وأن يقوم فرد ما بالسعي المستمر للإقتراب من الموت رغبة في الحياة، وحيث تحاول كل جيوش الأرض إبعاد مقاتليها عن المعركة المباشرة، يسعى الفلسطيني للوقوف في أول الصفوف، قد يقتحم أحدهم النيران، أو يطلق رصاص مسدسه على دباب -على الرغم من عبثية الفعل- إلا أن الفلسطيني يقاتل لأنه الفعل الوحيد الذي يضمن وجوده الجمعي، حيث يعلم أن البقاء في أرضه وتحريرها لا يكون سوى أن يفتدي بنفسه أهله وأخوته، رفاق سلاحه، وكل فلسطيني على وجه البسيطة. واليوم، في العام الثاني والعشرين بعد الالف الثانية لميلاد الفلسطيني المصلوب، لا زال الفلسطيني يصلب، كل يوم، لكنه اليوم أصبح شعباً كاملاً يقاتل ليفتدي كل شعوب الكون، فهنا فقط يمكن للإنسان أن يكون.

قبل قرابة الألف عام، عندما جاء الغزاة الاوائل، سقط دم فلسطيني على أرض فلسطين، فأصبح جيشاً من أبناء البلاد، يتنفس الطفل منهم في شهيقه الأول نفس القتال، النفس الذي حاربنا به الغزاة جميعاً، حيث رحلوا وبقينا، ويرحلون، ويبقى النفس ممتدا من عبر البلاد، جاعلا من ابنائها زيتونا لها، ينزفون لها دمهم لتوقد به قناديلها، ويعيشون نفساً ممتداً، منتشراً ويقاتل.