يمتلئ العالم اليوم بالكثير من الآمال الواسعة، والأحلام العريضة، مدعمة بخيال لا ينضب، وإدراك غير واقعي للواقع مستقًى من الكثير من الأفلام السينمائية وألعاب الفيديو، حيث يعتقد الفرد الجالس خلف الشاشة في معزل عن الحدث بجدارته في الحكم على الحدث والمشاركين فيه من خلال معطيات منقوصة تنحصر جميعها داخل كادر فيديو متوسط الجودة لا يتجاوز الدقيقة من الزمن، بدون إيلاء أي أهمية لأي من الظروف المحيطة والتي يجتزأ منها هذا الكادر، أو الأحداث السابقة واللاحقة لهذه الدقيقة، أو للوضع العام المحيط بالحدث أو الظروف الخاصة بموقع ومكان الحدث أو بالظروف الموضوعية والذاتية للحدث نفسه.
يقوم الأفراد في المجتمعات البشرية حيث أن البشر كائنات اجتماعية بالطبيعة، باستنباط قيمتهم الذاتية وشعورهم بالأهمية بناء على قيمة وأهمية المجتمع المنتمين له، وهو ما يجعل من التعصبات أمرا طبيعيا حيث لا يتجاوز انتماء الفرد الذاتي حدود الدائرة الضيقة التي تحيط بمجتمعه المختار، وحيث يمكن للفرد الانتماء لعدة مجتمعات مختلفة من نواح تصنيفية إلا أن تعامل الأفراد مع الانتماءات الخاصة بهم لا يختلف بشكله العام باختلاف هذا الانتماء، لكنما يتمايز بحديته اعتمادا على قوة الارتباط بينه وبين الجماعة التي ينتمي لها، حيث قد يغلب الانتماء الطائفي للفرد انتمائه السياسي أو الوطني أحياناً، وقد يتغلب انتمائه المناطقي على كل انتماءاته في أحيان أخرى.
إن رغبة المرء في التعالي في القيمة والمقام، تجعل العمل من أجل إرتفاع قيمة ومقام الجماعة التي ينتمي لها شغلاً يشغله، فيجعل الفرد يسعى بكل ما أوتي من قوة، للإسهام الفاعل في عزة ورفعة الجماعة، وهو فعل جماعي بالضرورة، حيث يمكن للكثير من الأفراد الذين لا يستطيع الواحد منهم إنجاز الأمر العظيم وحيداً منفرداً، في حال توفرت لهم قيادة فاعلة، القيام بالأمور المعجزة، والتحف المبهرة، رافعين من مجتمعاتهم فوق باقي الأمم عزة وفخاراً.
تعاني الجماعات اليوم في دواخلها من مرض الفردانية، حيث لا يدرك الفرد أن العمل الجماعي هو الطريق الوحيد للفعل المعجز، ويحاول كل من الأفراد أن يجد قيمة لذاته خارج جماعته، لكن طبيعته البشرية تأبى أن تترفع عن استقاء القيمة من الانتماء لجماعة، على الرغم من تضاؤل فعل الفرد في سبيل هذه الجماعة، فيجد الفرد نفسه في دوامة من انعدام جدوى الفعل الفردي في إعلاء شأن الجماعة، والرغبة في التسامي على الجماعات المنافسة له، لا يجد الفرد طريقاً سهلا لإعلاء قيمته الفردية سوى التقليل من أفعال الجماعات الأخرى، نازعاً عنها قيماً يدّعيها في جماعته، وهذا الفعل الفردي، على الرغم من فرديته العملية، إلا أنه لا يفتأ أن يتحول جماعياً، حيث تجد الأفراد العاجزين الضعفاء، ينقضون على الجماعة المستهدفة كذباب على جثة، وهو فعل على الرغم من قبحه إلا أن الأفراد القائمين به قد تدفعهم العاطفة أو الرغبة بالتخلص من شعور العجز، أو عدم القدرة على إحتمال الواقع، بالإضافة إلى سوء النية التي يحمله الجزء الأقبح منهم، والذين يجعلون من مهاجمة مبادئ وأخلاق وقيم المجتمعات الأخرى شغلاً شاغلاً وسبيلاً وحيدا للترقي.
فيديو طويل جدا في ثلاثين ثانية، أحدنا يقتل في بلدة حوارة برصاص جندي بعد اشتباك بالأيدي حيث يحاول الجندي اعتقاله، ويحاول شبان آخرون تخليصه من يدي الجندي، يسحب الجندي مسدسه من جرابه، يطلق النار على الشاب، يسقط بندقيته وهو يفعل ذلك، لا تتجاوز مدة بقاء البندقية في الأرض خمس ثوان، في شارع حوارة الرئيسي، لتضج شبكات التواصل الاجتماعي بعد ذلك بحالة غريبة من الاستشراف على الشبان الموجودين في الموقع، والإشراف على الأفعال الحاصلة في المقطع، يبرز فيها آلاف الخبراء العسكريون، الابطال الخارقون، بالإضافة للكثير من ردود الفعل العاطفية المدفوعة بالصدمة والرغبة في العمل، حيث يتجاهل الجميع بطريقة أو بأخرى الحقيقة الواقعة وراء المقطع، وهي أننا نقتل في كل وقت، وبكل الطرق الممكنة.
عودة للواقع، تقع بلدة حوارة بين حاجزين احتلاليين، محاطة بالمستوطنات من كل الجهات، متخمة بالجنود والمستوطنين المدججين بالسلاح على الدوام، حيث أن المسافة بين التصرف والمجزرة لا تتعدى الدقائق في أحسن الأحوال، حيث قيام أحد الموجودين بالاستيلاء على السلاح الملقى في الأرض، وإطلاق النار على الجندي ستؤدي بالضرورة إلى مجزرة حيث يتواجد العشرات من الجنود المدججون بالسلاح في محيط عشر ثوان من الحدث، بدون احتساب المئات من المستوطنين الذين يسكنون المستوطنات المجاورة، بعيدا عن انعدام فرصة الانسحاب من فكي الكماشة الاحتلالية المحيطة بحوارة من كل الجوانب.
يحتاج الفرد المعتاد على الفعل أو المدرب عليه لمدة تتراوح ما بين ثلثي الثانية والثلاث ثواني ليقوم بتصرف في حالة حصول حادثة غير متوقعة، ما يترك للفرد المدرب ثانيتين من الخمس ثوان التي لامست فيها البندقية الأرض ليقوم بالوصول لها، حملها وتصويبها تذخيرها واطلاق النار منها باتجاه الجندي، وعليه فعل كل ذلك تحت مرمى الجندي المدرب وسلاحه الملقم والجاهز لاطلاق النار على كل ما يتحرك حوله، وهو وقت غير كاف ووضع شبه مستحيل حال كون الشبان الموجودين في المقطع متدربين تدريبا كافيا للتصرف والتعامل مع السلاح، وذلك لو أهملنا كل العوامل الأخرى المحيطة بالحدث، ولو افترضنا أساسا إدراك الشباب لوجود السلاح على الأرض، وتجاهلنا دور الصدمة الكائنة بقتل الشاب الذي كانوا يحاولون باستماتة تخليصه من بين يدي الجندي، وضيق مساحة التفكير عند التعرض للخطر المفاجيء، وتأثير فوران الأدرينالين في دمائهم على قدرتهم على اتخاذ القرار، بعيدا عن أن مجرد محاولتهم تخليص الشاب من الاعتقال في ظل جميع الظروف المحيطة بالموقع الذي يتواجد فيه كل منهم، هو مخاطرة حقيقية بحياتهم أو حريتهم جميعاً.
نود جميعاً عندما نشاهد مقطعاً مثل هذا المقطع، لو ننقض على الجندي بأظافرنا وأسناننا، أن نقتله قتلة ما بعدها قتلة، تجتاحنا العاطفة البحتة والرغبة العارمة بالإنتقام من موتنا اليومي، نرى في كل شهيد يسقط أخوتنا وأبنائنا، أحبتنا الذين نذود عنهم بكل ما نملك من حياة، يخنقنا عجزنا، نطالب الذين كانوا هناك أن يقوموا بما لا نستطيع فعله، متناسين أو متجاهلين أننا هم، وأننا لو كنا في نفس المكان، لربما لم نأت بمثل ما فعل الواحد منهم، تطغى مشاعرنا على حسن تقديرنا للأمور، وننسى في كل ذلك، أن الحرب طويلة جداً، وأن البقاء من أجل القتال أدعى من الموت بدون القيام بشيء، وأن التمني لا يغني عن القدرة، وأن الإستعداد للمعركة جزء لا يتجزأ من المعركة نفسها، وأنه لا لوم علينا لو لم نمت.