لماذا نقاتل.

يقاتل البشر بعضهم بعضاً منذ أن قرر أحد ما قبل التاريخ المكتوب أن يسيطر على أكبر مساحة من الأرض ويمنع الآخرين من استغلالها، وحيث بدأت الحرب بالملكية الفردية، فإن انتهاء الحروب سينتهي بالضرورة بانتهائها، ويمكننا أن نرى في الواقع أن غالبية الحروب في التاريخ كانت تدفعها المصالح المادية بشكل أساسي، وعلى الرغم من مادية الحروب بحقيقتها البسيطة، إلا أن القتال بصورته الأكثر وضوحاً وبدائية ليس مدفوعا بذلك النوع من المصالح الذي يتراءى للغالبية العظمى منا عندما يفكر بماديتها، ومع أن القتال بطبيعته يجلب الكثير من الفوائد المادية للقليل من البشر، إلا أن المستفيدين من القتال بالعادة هم الذين لا يقاتلون.

تقاتل الأمم بعضها بعضاً من أجل زيادة حصتها من الموارد الطبيعية -النفط مثالا- أو من أجل زيادة قوة الايديولوجيا التي تعتنقها -الحروب الدينية مثلا- أو من أجل خليط من هذا وذاك، ويمكننا مشاهدة ذلك بشكل واضح في غالبية الاستعمارات الحديثة التي اكتشفت أن استبدال الثقافة الأصيلة لدى المستعمَر يؤدي لانتاج شعب جديد يتشابه ثقافياً -بالمظهر فقط- مع المستعمِر، وهو ما يتيح للمستعمِر إستمرار سيطرته على الموارد بدون أن يكون مضطراً للتعامل مع تبعات استعمار مجموعات بشرية ضخمة، حيث يقوم بنقل السلطة بشكل رسمي الى كيان سياسي هجين يتكون من طبقة نخبوية ترى في شعبها وثقافته الأصيلة مرضاً معدياً، وتتقزز من حقيقة انتمائها للشعب نفسه، فتقوم بممارسة ما كان يمارسه الاستعمار عليه، مع المحافظة على خطوط امداد المركز الاستعماري بالمواد الخام، مقابل خطوط توريد المنتجات الاستعمارية نحو الطرف المستعمَر، وهو ما يحقق للمركز الية لتصريف فائض الإنتاج لديه، مع ضمان مراكمته المستمرة لرأس المال والسيطرة عن بعد على الاطراف الاستعمارية التابعة له وضمان عدم صيرورة الأمور الى ما يؤدي به الى فقدان هذه السيطرة. وحيث يؤدي فشل النخبة التابعة في ضمان السيطرة الدائمة على اختلاجات التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار الى ظهور الثورات التحررية في المجتمع المستعمَر، والتي تكون عنيفة ودموية بطبيعة الحال، حيث لا يمكن للمرء خلع أظافره المتعفنة بدون اجتثاث لحمه معها.

خلال عصور الحروب القديمة، بعد انتهاء المعركة بتشتت صفوف العدو المقابل، كانت فرق الخيالة تتولى مهمة مطاردة العدو الهارب، وعلى الرغم من قدرة الحصان على الركض بسرعة أكبر من سرعة الجريح الهارب من القتال، إلا أن فرسان الطرف المنتصر لم يكونوا يحاولون اللحاق بالهاربين في الحقيقة، حيث إكتشف البشر منذ بداية زمن الحروب، أن انعدام الأمل بالنجاة، والتواجد في موقف لا فوز فيه قد يودي بالانسان للفوز، فحيث يعلم المرء أنه مقتول مهما فعل، سيتجاوز حدود المنطق البشري، ويقاتل كمن لا شيء لديه ليخسره، وهو ما يجعله أكثر خطورة بمراحل من ذلك الرجل الهارب من معركة ليوصل مأمنه، وأن فعل الملاحقة في الواقع يحمل في ثناياه هدفاً استراتيجياً مختلفاً عما يبدو عليه، حيث لا يحاول المنتصر القضاء على المهزوم في الواقع بل يحاول أن لا يمنحه الفرصة لإعادة تنظيم صفوفه، فيقوم بملاحقته بالقدر الكافي ليشتت جماعته ويوهمه بأنه سيقتله إن لحق به، ولا يدرك الخائف بأن الحصان لا يزال محافظاً على مسافة آمنة منه إلى أن لا يعود ممكناً أن ينتظم ورفاقه في صف مقاتل مرة أخرى، وتحسم المعركة.

على الرغم من كل أسباب القتال الماضية، حيث يتزايد زخم الفعل العسكري الفلسطيني بتغير المعطيات المحيطة، فقد يقاتل الفلسطيني أملاً بافتراجة مادية أو يأساً من موت أكيد، قد يقاتل للخلاص من إظفر متعفن في لحمه، أو من أجل الدفاع عن أيديولوجياته وثقافته، إلا أن الشعب الفلسطيني يقاتل لأسباب أخرى بالاضافة للقليل من هذا وذاك، وقد يكون من الصواب أن نقول أننا نقاتل في الحقيقة لأننا نحلم، يقاتل الفلسطيني لأنه يحلم بأن لا يكون كل ما قد كان، نحارب هنا بلحمنا ودمناً، وسلاحنا الفردي، بحجارة أرضنا، نحارب بالحياة والموت، لأننا نحلم أن لا تكون الحرب، نحن الذين نقتل في كل حين حتى لم يعد الموت يعنينا، نقاتل هنا من أجلكم جميعاً، نقاتل من أجل كل ابن عاهرة في هذا الكوكب،نقاتل لأننا نعلم بأن فلسطين هي البداية، وأن القضاء على الإحتلال، هو البداية في معركتنا الأزلية، للقضاء على كل شرور هذا العالم.

هنا في هذه الأرض المسماة فلسطين، شعب كامل يموت كل يوم، ويولد كل يوم، يمترس الحرب حتى لم يعد يعرف بدونها من هو، يقاتل ليحمي شعوب العالم أجمع من أن يلتهمهم وحش الإمبريالية المفترس، يقاتل لكي يجد يوماً ما، في أرضه السليبة، مكانا يستطيع فيه أبناء هذا الشعب المنتشرون في كل أصقاع الأرض، أن يحلموا بشيء آخر، سوى أن يموت الواحد منهم وهو يقاتل.

عن النفس الذي عاش ليعم البلاد

في أيار من العام الحادي والعشرين بعد الالف الثانية للميلاد، اضائت غزة قلوب الشعوب المتفرقة، لتصبح شعبا واحداً، واستلت سيفاً لتدافع عن عاصمة البلاد وجوهرة تاجها، المدينة التي وسمت بالسلام ولم تر يوماً سلاما، وقد يكون من الممكن لنا كشعب فلسطيني أن نؤرخ للتاريخ الفلسطيني بما قبل وما بعد هذه الحادثة -وكل أمور الكون حوادث- فحيث أصبح التحرير أمراً واقعا في قلوب كل من شكك بحتميته، حيث انهارت كل محاولات التدجين والترويض المستمرة في الضفة وغزة والداخل، هناك عندما شعرنا بالوحدة للمرة الأولى منذ أن فرقتنا الإتفاقيات، والهوس المستمر للسلطة، أصبحت فلسطين كلاً واحداً، وأصبح التحرير حلماً للجميع -ليس عندما تتحرر بل عندما نحررها- ونراه قريباً.

خلال هذا الشهر نفسه، شاب يقاتل برفقة رفاق منتقين منذ ما يربو على العام بقليل، يخاطب كل من يحمل البنادق، بنفس واثق ورأي سديد، مطالباً كل من يحمل السلاح باداء امانته، وتصويب فوهة بنادقهم إلى العدو، حيث المعركة الحقة، لا مع طيور الجو وغيومه. في الشهر اللاحق، يستيقظ العالم على “عاش النفس”، صوت في خلفية الرصاص المشتبك في جنين، فيديو قصير وثلاثة شهداء، من ضمنهم جميل العموري، المقاتل الذي رأى أن إهانة الرصاص في ارساله للهواء بينما تمتلك عدوا تقاتله، فخاض بشريفته معركة تصويب البوصلة.

بعد معركة سيف القدس، تغير العالم أجمع -في نظر الفلسطيني على الأقل- لقد آمننا بحرب تحرير تنطلق من غزة، تفتح فيها جبهات النار على العدو من جميع الإتجاهات، يساندنا فيها كل الحلفاء، لنعمل سويا من أجل تحرير بلادنا المسلوبة، والإنتصار على عدونا المشترك، وقد يكون أكثر ما قدمته لنا المعركة سوءاً، هو الإيمان القاطع بأننا لن نهزم، أو بأن غزة لن تهزم، وستحرر العالم كله لو أرادت، لكنها معادلات الدم، والرغبة في منع الموت عن الأطفال الذين سيبنون بلادنا بعد التحرير، “بعد التحرير” كانت الجملة الأكثر تداولا بين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم خلال السنة الماضية، هناك حيث ينتظر الجميع المعركة الفاصلة.

في انتظار المعركة، يختلف الدور الذي يقوم به الأفراد باختلاف اهوائهم وطباعهم، يقوم البعض بممارسة حياته كأنما لن تأت الحرب، يقوم الآخرون بانتظار المعركة والتفكير بها لحد يمنعهم من القيام بأي فعل آخر، تقوم القلة القليلة الباقية بالقتال في محاولة مستميتة لاستعجال الحرب، هنا حيث تصبح الحرب هي الخلاص الوحيد من حالة السكون القاتلة، حيث نقتل فرادى، يخنقنا الموت من كل جانب، ويقتلنا جنود خائفين، أو لاهين بأرواحنا، لا فرق في الحالتين سوى أن هذا ليس الموت الذي يعجبنا، وأن المهانة أن تموت جبانا، فيقومون باختيار موتهم المشتهى، في لظى المعارك، ويرسمون لنا حلماً آخر نحلمه جميعاً، شعب كامل يحلم أن يموت وهو يقاتل.

قد تكون أعظم مثالب الإيمان أنه يدعو للخمول، وقد تكون أعظم مثالب اليأس أنه مدعاة للاستسلام، وهنا في البلاد التي يقطع أوصالها المستوطنون يمنة ويسرة، حيث يدفع المقاتلون ثمن القتال من دمهم وخبز أولادهم، يمكنك أن ترى أثر ثنائية اليأس والأمل واضحا حيثما وليت وجهك، حيث يستلهم الناس دورهم اليومي في المعارك من أثرها المباشر عليهم. فحيث رأى الناس التحرير واقعا في سيف القدس، قام الشعب كله ليدعم من يقاتل، وعندما انتهت الحرب، عاد السواد الأعظم منهم لتدبير شؤون حياتهم منتظرين الحرب القادمة.

بعد ما يزيد على العام بقليل، انتهت معركة ما بسرعة لم نعهدها من قبل، معركة خرج منها الشعب كله ضائعا منكسراً، هناك حيث هزمنا في المعركة -ولا معنى لتسمية الهزيمة انتصارا إلا في الخطابات والقصائد- تلقى كل منا صفعة لا زالت تطن في أذنه حتى اللحظة، هناك حيث عرفنا أن غزة لن تستطيع تحريرنا وحدها، وحيث تكسرت قلوبنا التي رأتنا نحن لا أولادنا في شوارع حيفا بدون أن يزاحمنا فيها آخرون بعيون زرقاء وشعر أصفر، هنا حيث غص كل منا بحلمه، واستيقظ الجميع، وكان اليأس ينتشر في القلوب.

في السادس من شهر أيلول الأول بعد الهزيمة، تشرق على البلاد ستة أقمار وشمس واحدة، تتمدد في البلاد معيدة للقلوب نبضها، مؤكدة لنا أن النصر ممكن، وأن الحرية ممكنة، وأن العمل من أجل النصر أجدى من الخمول، وأن لن يهزم يوماً من كان يقاوم، هناك من تحت أرض جنين، استعاد الشعب حلمه، بدون يأس من النصر، ولا ركون لحتميته، وهناك في تلك اللحظات، عرف جميع أفراد الشعب، أن الوحوش غبار. ما بين معركة ومعركة، كان شبان صغار يبنون أحلامهم على إرث شوارعهم، يرون أن الحرب لن تخرج من غير أيديهم، يزرعون الأرض رصاصا وبنادق، ويقاتلون المحتل بشكل يومي، هم من رأى أن الأحلام إذا عظمت لن تصبح واقعا بدون دماء، حيث استمر الرصاص الذي اطلقه جميل بالتوالد في بنادق رفاقه، والإنتشار في البلاد تذروه الرياح، لينبت في كل مكان. عندما بدأ جميل الرصاص، كان أن عرفه طريقاً أوحداً للنصر، عندما أكمل رفاقه الدرب، كان الثأر وحنين الرفاق للرفاق.

يقاتل الفلسطيني مدفوعاً على الدوام بمشاعر فطرية قد لا يعرفها سواه، حيث لا يستطيع أحد ما تصور أن القتال -على صعوبته في كل مكان- يمكن أن يصبح أسلوباً وحيداً للبقاء، وأن يقوم فرد ما بالسعي المستمر للإقتراب من الموت رغبة في الحياة، وحيث تحاول كل جيوش الأرض إبعاد مقاتليها عن المعركة المباشرة، يسعى الفلسطيني للوقوف في أول الصفوف، قد يقتحم أحدهم النيران، أو يطلق رصاص مسدسه على دباب -على الرغم من عبثية الفعل- إلا أن الفلسطيني يقاتل لأنه الفعل الوحيد الذي يضمن وجوده الجمعي، حيث يعلم أن البقاء في أرضه وتحريرها لا يكون سوى أن يفتدي بنفسه أهله وأخوته، رفاق سلاحه، وكل فلسطيني على وجه البسيطة. واليوم، في العام الثاني والعشرين بعد الالف الثانية لميلاد الفلسطيني المصلوب، لا زال الفلسطيني يصلب، كل يوم، لكنه اليوم أصبح شعباً كاملاً يقاتل ليفتدي كل شعوب الكون، فهنا فقط يمكن للإنسان أن يكون.

قبل قرابة الألف عام، عندما جاء الغزاة الاوائل، سقط دم فلسطيني على أرض فلسطين، فأصبح جيشاً من أبناء البلاد، يتنفس الطفل منهم في شهيقه الأول نفس القتال، النفس الذي حاربنا به الغزاة جميعاً، حيث رحلوا وبقينا، ويرحلون، ويبقى النفس ممتدا من عبر البلاد، جاعلا من ابنائها زيتونا لها، ينزفون لها دمهم لتوقد به قناديلها، ويعيشون نفساً ممتداً، منتشراً ويقاتل.

عن التشكيلات المحاربة فطرياً وموت العجائز.

يمتلك الشعب الفلسطيني أكبر عدد من الفصائل بالمقارنة بعدد السكان في العالم تقريباً، حيث يمكن لما يقارب العشرين فلسطينيا الالتقاء في مكان واحد من دون أن يتلاقى منهم اثنان في الانتماء السياسي، تعاني معظم الفصائل الفلسطينية من حالة شيخوخة سياسية وترهل مزمن في الفعل الوطني – وهو طبيعي عندما تصبح قيادتك العليا بهذا العمر – حيث أن البقاء في الصف الأعلى من القيادة بدون انجازات وطنية يتسبب بالضرورة بالتصاق مزمن في المؤخرة وصعوبة بالغة في التقدم. تنضوي غالبية هذه الفصائل تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية والتي أصبحت تعنى بالكثير من الأشياء إلا التحرير -وهو ما يحصل عندما تقوم بالصمت الموافق على اتفاقية سلام مع المحتل بالضرورة- وحيث أن فتحنة السلطة وسلطنة فتح هي امتداد طبيعي لعملية فتحنة المنظمة، فقد أصبحت غالبية الفصائل هذه عبارة عن كيانات تابعة لحركة فتح ومنظومة السلطة بشكل عملي وفي داخل العقل الجمعي الفلسطيني حيث يمكنك سؤال فرد ما عن انتماء الأمين العام لأحد هذه الفصائل -في حينه- فيجيبك بدون تردد أنه فتح -مش ياسر عبد ربه- وهو ما يعني بكل بساطة تحول كل ما هو بجانب فتح الى فتح بشكل لا ارادي في داخل الوجدان الفلسطيني.

إن ارتباط الفصيل بالسلطة يودي بالفصيل نفسه الى تحمل تبعات كل اخفاقات هذه السلطة بشكل تلقائي، وحيث قامت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالذوبان شبه الكلي في منظومة السلطة وتحولت من حالة القتال من أجل اثبات نفسها في الشارع الفلسطيني الى القتال من أجل حصة من مكتسبات ومنافع المنصب السلطوي، فقد كان من الطبيعي انفلات الشعب الفلسطيني عن الفصائل بشكل تدريجي، حيث لا تجد اليوم من بين الشباب الفلسطيني من هو معبأ تنظيمياً بشكل حقيقي إلا نادراً ، حيث يتوارث الغالبية العظمى من الشباب غير النشط سياسياً معتقدات آبائهم التنظيمية بشكل عاطفي وبدون إدراك لأدبيات -أو لا أدبيات- الحزب او الحركة التي يحملون رايتها، وقد زاد من فداحة حالة اللاوعي السياسي هذه توقف عمليات التعبئة الفكرية من قبل الأحزاب تجاه أفراد الشعب حيث لم يعد مهما للحزب عدد أو نوعية المنتسبين له بعد أن ضمن حصته من وزارات الحكومة القادمة.

إن الرابط بين الشعب والسلطة -أي شعب وأي سلطة- مبني بشكل أساس على الدفاع عن حقوق الشعب وحياته، الحفاظ على كرامته، والعمل من أجل مصلحته، وعندما ينتفي أي من هذه الصفات عن السلطة تكون هذه السلطة قد وضعت نفسها في الخندق المقابل للشعب، وأصبحت في حالة من الخطر قد تودي بها لاعتبارها عدوا للشعب، وهو ما يودي بالشعب في النهاية إلى القيام بخلع السلطة من مكانها وانشاء سلطة أخرى، إن كان بشكل من اشكال الديمقراطية الدورية، أو بثورة دموية، حيث يمتليء التاريخ بالكثير من الأمثلة على كل منها. وفي الحالة الفلسطينية، تقوم السلطة منذ ما يزيد على عقد من الزمان -منذ انتهاء الانتفاضة الثانية- بالتنكر لكل من هذه الصفات، وتقوم بشكل واضح ومباشر بالقيام بما كانت تقوم به بالخفاء خلال فترتها الأولى -من أوسلو إلى الانتفاضة- حيث تقوم بحماية العدو والعمل من أجل مصلحته، وتجاهل متطلبات الشعب الفلسطيني الأساسية، واستفزاز ذكاؤه بتصرفات بهلوانية غبية من حين إلى آخر -تركيب حمايات لشبابيك المواطنين في مكان ما على سبيل المثال- في حين تمتلك هذه السلطة القوة اللازمة لقمع الشعب المحتج ضد تصرف ما -أو حتى استقبال أسير محرر- بالحديد والنار، في الوقت نفسه التي تقوم باخلاء الشوارع من منتصف سيادة السلطة في مدينة ما لمجرد اقتحامها بوحدة من ثلاثة جنود في عربة غير مصفحة.

تعاني الفصائل المعارضة لمنظومة السلطة جموداً تنظيمياً عاما في الضفة الغربية، حيث أن التشكيلات القيادية التقليدية الجامدة تعتبر أكثر تأثراً بالملاحقة الحثيثة التي يمارسها العدو وأدواته لقنوات الدعم والتخطيط والإدارة الخاصة بالعمل التنظيمي، وبنفس الوقت فإن القيادة التنظيمية لهذه الفصائل ليست مدركة بالضرورة لإختلاف الظروف الموضوعية في واقع الضفة الغربية عن مجال عملها الرئيس في غزة، وحيث أن عملية استنساخ اليات العمل القائمة في غزة لتطبيقها في الضفة الغربية هي عملية محكومة بالفشل بالضرورة، فإن العمل المقاوم لهذه الفصائل في الضفة الغربية لا يتعدى عملية تبني أعمال شبه فردية بمجهود شخصي من القائمين عليها، حيث ينتمي الأفراد المنفذين لهذه الفصائل بدون وجود دعم حقيقي على أرض الواقع أو شحه في أكثر الحالات تفاؤلاً، وهو ما يجعل من عمل فصائل المقاومة في الضفة الغربية بحقيقته عملاً شعبياً بتخطيط وتنفيذ فردي أو ميداني في أكثر حالاته إتساعاً.

يمارس الطفل الفلسطيني في طفولته المنتشرة في حارات وأزقة وشوارع الضفة الغربية طفولة مبنية بشكل فطري على حالة الحرب، حيث تعتبر لعبة “عرب ويهود” أكثر العاب الشوارع الجماعية انتشارا في فلسطين، وهي لعبة ينقسم فيها الأطفال الى فريقين يخوضان معركة وهمية ببنادق خشبية وحجارة في أزقة الحارات، والتي قد يشارك فيها أطفال من حارات مجاورة لتمتد وتصبح ساحة معركة تشمل كل زقاق وحاكورة في البلدة أو المخيم، يخوض فيها الأطفال تدريبا عمليا على القتال، القيادة، التخطيط والاستراتيجيا العسكرية، التمترس ونصب الكمائن، وحيث تنتشر هذه الالعاب بالعادة في صفوف الأطفال من الأسر الأقل قدرة على توفير اساليب اللعب الحديثة لاطفالها، فإنه من الممكن ملاحظة مدى انخراط هذه المناطق في العمل المقاوم وقدرتها على المناورة والاشتباك، وهو أمر طبيعي.

من أكثر الالعاب التي أثارت اهتمامي في خلال طفولتي في المخيم، هي لعبة كنا ندعوها الخارطة، حيث كانت تشبه اللعبة الاشهر في وقتها “عرب ويهود” مع اضافة بعد استخباراتي لها، حيث كان يجب على كل فريق من الفريقين اختيار موقع يرسم به خارطة للخطة الخاصة به، والتي يجب عليه الالتزام بها من دون أي يستطيع الفريق الاخر اكتشافها والوصول لها، وفي نفس الوقت عليك محاولة الحصول على خارطة العدو عن طريق التغلب عليه واكتشاف واقتحام مقره الموجودة به الخارطة، وحيث كان يوجد لكل فريق قائد يجب عليه ان يقوم بالتعديل على الخطة وتحديد المهام القادمة فكان لا بد من وجود خط اتصال فعلي بين القائد والفريق المقاتل، وهو ما يؤدي لاكتشاف المقر الخاص بالعدو، لكن ما كان أكثر اثارة للإهتمام في جميع هذه الالعاب العسكرية هو مرونة القيادة، حيث تتحول القيادة من حالة الجمود الى حالة السيولة في شوارع المخيم -وأعتقد أنها كذلك في شوارع البلدات القديمة والقرى في الضفة- فعندما كان يضطر القائد لمغادرة الفريق لأي سبب كان -أن تناديه أمه مثلا- كان يحل محله فرد آخر بدون أن يؤدي ذلك إلى اختلال في الية عمل الفريق، فلم يكن تحييد القائد مؤثرا على سير المعركة بالشكل الذي يؤدي للخسارة.

إن واقع الضفة اليوم، يجعل من الواضح بما لا يقبل الشك ضرورة موت القيادات الفصائلية بصورتها الهرمية الجامدة، وهو ما يعني في الواقع الموت الاكلينيكي للفصائل والتنظيمات الفلسطينية وتحولها الى مجرد أفكار عامة واطارات نظرية لا تؤثر على وحدة الجماعة المقاتلة، والخروج من صندوق الفصيل والحركة والتوجه نحو الحالة الفطرية التي يمارسها اطفالنا من القتال، نشاهد اليوم أطفال الأمس اللاهين بالعاب عسكرية، وقد امتشقوا بنادقهم، وخلقوا من اللاشيء اشياءا تضيء قلوب الشعب الفلسطيني كله، رافضين الخضوع للأمر الواقع، متخلين عن رايات فصائلهم، ليخلقوا لنا حلماً من اللا شيء، مختارين لأنفسهم اسماء مشابهة لما كنا نسمي بها جماعات لعبنا في شوارع المخيم، فيصبحون عشا للدبابير حينا، وعريناً للأسود حيناً آخر، يعرف كل منهم الآخر كما يعرف نفسه، يخرجون من لحم الشعب ليحاربوا من أجله، وليجعلوا من أكثر أيام تاريخنا عتمة، نوراً يخطف الأبصار، بتمويل ذاتي، وقيادات سائلة، ومواقع آمنة يدافع عنها بشراسة من قبل الجميع، وتنتقل بانتقال الجميع الى مكان آخر، حيث شب الأطفال سوياً، محاربين كتفاً إلى كتف، استعداداً لهذه المعركة التي تشتعل اليوم في جميع أنحاء الضفة الغربية، بعتاد عسكري اشتراه الفقراء، لحرب يخوضونها سوياً، منذ الأزل.

من جنين الى العرين، الإنفصال المناطقي في الطريق إلى التحرير الكامل

في الفترة اللاحقة لإتفاقية اوسلو بين منظمة التحرير والإحتلال الاسرائيلي، تم تسليم السيطرة الأمنية في جزء من الضفة الغربية والمصنف كمناطق ذات سيادة فلسطينية كاملة أو جزئية بالتدريج لقوات الأمن الفلسطينية المبتكرة حديثا وذلك في عملية من مراحل يطلق عليها اصطلاحا عملية اعادة الانتشار، وهي الخطوة اللاحقة للاتفاق القاضي بكون غزة، آريحا أولاً، وفور تنفيذ اعادة الانتشار، اصطدمت السلطة الحديثة في أراضي الضفة الغربية بوجود المعارضة المكونة بشكل أساسي من عناصر حركتي حماس والجهاد الاسلامي، والتي ترفض جملة وتفصيلا الإتفاقية السلام المذلة الموقعة من قبل المنظمة ممثلة لعموم فصائلها المختلفة، وقد واجهت السلطة هذه المعارضة بالحديد والنار حينا وبالدبلوماسية حينا، وبتوفير المعلومات وتسهيل عملية تحييد المجموعات من قبل العدو أحيانا أخرى، مما أدى إلى تدهور في مقدرات المقاومة ونطاقات عملها، ومع بقاء المقاومة الشعبية كفعل مقاوم غير قابل للإنهاء، حيث لا يستطيع الفلسطيني ألفة الجندي المدجج بالسلاح على أرضه بدون أن يقاوم وجوده كجسم غريب في جسده.

خلال الفترة الممتدة من سنة 1994 الى سنة 2000 قامت هبة شعبية وعسكرية قصيرة الأمد (هبة النفق) وعلى الرغم من تبني المستوى الرسمي لحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة والدفاع عن مقدساته، إلا أن نفس المستوى الرسمي قام باصدار أوامره لضباطه في المناطق التي تشهد عمليات اشتباك مسلح مع قوات العدو، أن تقوم باطلاق النار على كل من يقوم باطلاق النار نحو المناطق المسيطر عليها من قبل العدو، وحصر الاشتباك المسلح فقط في حالة الاقتحام الاسرائيلي للمناطق المسيطر عليها فلسطينياً، وقد تم معاقبة الضباط الرافضين للأوامر هذه بشكل فردي وبدون اثارة أي ضجيج على ذلك.

لقد كان من المستبعد على من شاهد الوضع العام في فلسطين في السنين ما بين 1998 و 2000 من توقع انفجار البلاد في انتفاضة مسلحة خارجة عن أي سيطرة، حيث كان يبدو للمراقب من الخارج أن السلام قد تم، حيث كانت المركبات الفلسطينية تصل الى باب العامود في القدس بدون أن تتوقف على حواجز اسرائيلية في الكثير من الأحيان، أو يتم تفتيشها بشكل روتيني وتافه في أحيان أخرى، وكانت الرحلة من رام الله الى غزة لا تتطلب منك سوى أن تركب في سيارة تمر بك من وسط الاراضي المحتلة عام 1948 الى غزة، بشكل فاق توقعات أكثر دعاة الحل السلمي تفاؤلاً، وفي نفس الوقت، كنا في مدرستنا الابتدائية، نشتبك بشكل شبه يومي مع جنود الاحتلال الذين يخرجون من المعسكر المقابل في احدى ضواحي القدس.

عندما انفجرت الانتفاضة كرد فعل شعبي على الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والتي كان اقتحام رئيس وزراء الاحتلال اريئيل شارون للمسجد الاقصى القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى الانفجار المتسارع في الأحداث، كانت السلطة الفلسطينية تعاني من تدهور في أفق المكتسبات المتوقعة من عملية السلام، وهو ما أدى بقيادتها السياسية إلى محاولة الإستفادة من حالة التوتر الشعبي والغضب للحصول على أكبر مكاسب ممكنة مقابل السيطرة على الشارع مرة أخرى وإعادته لمربع السلام الذي كان يبدو ممكنا قبله، مراهنة على قدرتها على ضبط الأمور عندما يلزم ذلك، وفي المقابل، فقد أدت تصريحات هذه القيادة السياسية، بالاضافة لسيطرة عدد كبير من الضباط المقاتلين في صفوف المنظمة سابقاً على مقاليد الأمور في الميدان، إلى تسارع الإشتعال وخروجه عن السيطرة بشكل غير مسبوق، وقد أدى وجود السلاح الفلسطيني -بسبب وجود قوات الأمن الفلسطينية بشكل أساس- وضعف امكانيات السيطرة على وروده الى البلاد، الى توفر السلاح بشكل مختلف عن المعتاد، وهو ما أدى إلى قيام الكثير من الأفراد المتلهفين للقتال، والمتشبعين بخيال المقاتل الفدائي الذي قاتل الدنيا في بيروت، إلى الإنضمام وتشكيل المجموعات المسلحة المختلفة، والتي بقيت تابعة بشكل سياسي وتنظيمي الى التنظيمات السياسية التي ينتمي لها كل منهم، وكانت تشكل هذه التنظيمات بشكل أو بآخر نوعا من الإطار المرجعي المركزي لكل المجموعات المسلحة المنضوية تحت جناحها. وبذلك ظهر نوع من الهرمية الغير منتظمة في تشكيلات القرارات العسكرية، مع وجود اختلالات احصائية خارجة عن القرارات المركزية وناجمة عن وجود القيادات الميدانية القوية.

لقد شكلت انتفاضة الأقصى والمقاومة المسلحة المشاركة فيها الكثير من العقبات والمشاكل الوجودية للقيادة السياسية والامنية لدى الاحتلال الاسرائيلي، وحيث أدى فشل الصف الأعلى من القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية من فرض الهدوء عندما حاول ذلك مرات متعددة الى تشكل قناعة بانعدام أهلية هذه القيادة للسيطرة على الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث ظهرت طموحات الأفراد الآخرين داخل هذا الصف القيادي للوصول الى قمة الهرم فقد قام الاحتلال باتخاذ القرار الأمني بالقضاء فيزيائيا على المقاومة المسلحة في فلسطين حيثما أمكن، وتحييد دورها حيث لا يمكن القضاء عليها، بالاضافة الى تحجيم والسيطرة على القيادة الغير مؤهلة حسبما يرون في السلطة الفلسطينية، حيث قامت قوات الاحتلال الاسرائيلي بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة ومتوحشة في كل المحافظات الفلسطينية، مسندة بعمليات اغتيال محددة الأهداف للقضاء على القيادات الميدانية للمقاومة، وضرب الحواضن الشعبية لها، وايقاف التدهور السريع في الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث شكلت المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، العقبة الأساسية في وجه الأهداف الاستراتيجية لهذه العمليات، بالاضافة لمراكز المدن الرئيسية، فقد تم ضرب جيوب المقاومة وحواضنها الشعبية خلال هذه العمليات بكل القوة العسكرية الممكنة والتي وصلت الى تسوية مخيم جنين بشكل شبه كلي بالارض.

في الفترة الممتدة بين نهاية العام 2004 والعام 2005، كانت العملية العسكرية الواسعة التي ينفذها جيش الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية المنتشرة في كل مواقع الالتحام قد وصلت الى نهاية العمر الافتراضي القابل للاحتمال من قبله، حيث لم يعد يستطيع الجيش الاسرائيلي مواصلة التعبئة اللازمة لامداد مواقع الاشتباك بالجنود والعتاد اللازم، وهو ما أدى به إلى اتخاذ قرار الانسحاب أحادي الجانب للحد من الخسائر المادية والمعنوية في المناطق الأكثر حرارة، وهو ما أدى به الى اخلاء قطاع غزة بالكامل من المستوطنات، بالاضافة الى ثلاث مستوطنات في منطقة جنين والتي شهدت نشاطا مقاوما مستمرا على الرغم من كل محاولات القضاء على الأعمدة الفقرية للمقاومة فيها وحواضنها الشعبية.

وحيث تزامنت عملية نهاية العمر الافتراضي للحملة العسكرية الواسعة ضد المقاومة الفلسطينية، مع التغير في صف القيادة السياسية الأعلى للسلطة الفلسطينية، وظهور قمة هرم بديلة تقوم بالعمل بشكل علني لتدمير مقدرات المقاومة بدلا عن سابقه والذي كان يحاول اكتساب المكاسب من وجودها، واثباته قدرته على قمع المقاومة المتعبة بعد سنين القتال الطويلة في مواجهة الترسانة العسكرية المتوحشة لجيش الاحتلال، وغياب القيادة الميدانية عن الكثير من المواقع وتدهور قدرات المقاومة فيها، فقد وجدت قوات الاحتلال الفرصة مواتية للقيام بانهاء العمليات بشكل يضمن لها الحد الأدنى من الأمن، فقامت بتوجيه ضربات جراحية لباقي الجيوب المقاومة الصامدة، وترك المجال للقيادة الفلسطينية لتنفيذ خططها وفرض الأمن بطرقها الخاصة، واستغلال عملية الفراغ السياسي المؤقت لفرض معادلات أمر واقع جديدة على الضفة الغربية، والخلاص من خطر قطاع غزة بشكل نهائي.

قامت حركة حماس في عام 2005 بالخطوة الأخطر في تاريخها السياسي حيث قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية التي عقدت في العام التالي، والتي أدت بشكل مفاجيء -وأعتقد أن حركة حماس قد كانت أكثر من تفاجأ- لفوز الحركة بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو ما يضعها في الموقف الذي يجب عليها فيه القيام بدور إداري واضح وتحميلها واجبات محددة لإدارة أمور الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وهو ما يجعل منها في قلب السلطة الموجودة في واقع جيوسياسي يتطلب منها القيام بالتعاون بشكل مباشر مع الاحتلال الاسرائيلي لتوفير المقدرات اللازمة لادارة أمور الحياة الأساسية تحت ظلها من صحة وتعليم وخلافه، وقد أدى عداء الحركة ورفضها للاتفاقيات التي قامت عليها السلطة الفلسطينية الى حصارها ماليا وسياسياً من قبل مؤسسة الرئاسة، حيث وجدت الرئاسة الفلسطينية في نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة فرصة لا تعوض لاغراقها بالواجبات وسحب الرضى الشعبي عنها، وهو ما أدى بحركة حماس لاتخاذ الخطوة التالية وفرض سيطرتها بالقوة على قطاع غزة، والذي أدى الانسحاب الاسرائيلي منه لمنحه أفضلية جيوسياسية عن الضفة الغربية والتي لا يمكن لسلطة ما أن تحكمها بشكل حقيقي من دون الاستسلام الجزئي على الاقل للاحتلال الاسرائيلي (راجع المقال التالي).

وحيث أدى انفصال قطاع غزة السياسي والاداري عن الضفة الغربية الى تعاظم مقدرات المقاومة هناك، وظهور تشكيلات عسكرية شبه نظامية وذات وظائف محددة وواضحة، إلا أنه أدى في ذات الوقت إلى حالة من الإنقطاع السياسي والعسكري لحركات وأحزاب المقاومة عن عناصرها والمنتمين لها في الضفة الغربية، وقد يكون ما زاد من حدة هذا الانفصال هو الحرب الاستخباراتية والأمنية التي تشنها السلطة معاونة الإحتلال على كل قنوات التسليح والتجهيز المساندة للعمل المقاوم، وقيامها بتدمير القيادات السياسية والاستراتيجية باستخدام الإنفصال الغزي كذريعة وتهمة تقوم باستخدامها بمراقبة ومعاقبة الكوادر النشطة في كل من حركات المقاومة الفاعلة في غزة، بالاضافة الى تطبيقها خطة مالية واجتماعية أدت لتقييد الكثير من أفراد الشعب الفلسطيني وارتهان اسباب عيشهم للمؤسسات المصرفية وهو ما حد من حرية الحركة الوطنية بكثير وأودى بالمقاومة في الضفة الغربية إلى التدهور لمستويات أدنى بمراحل من أي مستويات كانت قد وصلتها من قبل.

وأدى التوسع المضطرد للمستوطنات والتجمعات الاستيطانية في أراضي الضفة الغربية إلى انقسام المناطق الفلسطينية بعضها عن بعض، حيث لا يمكنك الانتقال من مدينة لأخرى تقريبا دون المرور تحت السيطرة الإحتلالية المباشرة. بالإضافة لحالة التجاهل شبه الكلي من قبل السلطة الفلسطينية لمحافظات الضفة خارج نطاق قصر الرئاسة (مبنى المقاطعة) ومجمع الوزارات الخاص بها، إلى تنامي الشعور بإنعدام وجود الإدارة المركزية للمناطق الفلسطينية لدى أفراد الشعب، وحيث أدى غياب الفعل الحزبي والإهتمام القيادي من قبل هذه الاحزاب بالضفة الغربية كجزء مهم من المعركة الدائمة، الى فقدان الثقة الشعبية بالاحزاب كمكونات سياسية مقاومة، حيث أصبحت الأحزاب أقرب للأيدولوجيات التي يعتنقها الأفراد بدون أي التزام سياسي أو انطواء تحت هرمية حزبية.

وقد تنامى الشعور بالأمان لدى قطعان المستوطنين في السنين الأخيرة لدرجة سمحت لهم بتشكيل العصابات ومهاجمة المواطنين في المناطق الفلسطينية، وهو ما يدرك كل طفل فلسطيني أنه نتيجة حتمية لإنعدام الفعل المقاوم الذي يضع هذه القطعان في دائرة الاستهداف، ومع تكرار المحاولات الفاشلة لاستنهاض العمل الحزبي في المدن والمحافظات لتحقيق انجازات مقاومة وحماية أمن الحواضن الشعبية من القطعان الاستيطانية الهائجة، فقد وصلت القناعات الفردية لدى ابناء هذا الشعب من الأجيال الجديدة، التي لم تر فترة قوة للأحزاب لتؤمن بها، وإنما عرفت أن المقاومة فقط هي السبيل لتحقيق الأمن الشخصي والعام، وهو ما أدى بالأفراد الاوائل من المقاومين الجدد في مخيم جنين الى بذل الغالي والرخيص في سبيل الحصول على العتاد، وحيث أصبحت الأحزاب مجرد شعارات وخطوط عريضة في رؤوس كل منهم فإننا لا نجد لدى أي منهم مشكلة في التعاون مع جميع الايدولوجيات من اجل الوصول الى هدفه العام ومراكمة المقدرات اللازمة من أجله فنجد افرادا حملت جميع الرايات، وقاتلت تحت جميع الالوية، وهنا يمكننا أن نرى بوضوح أن القتال هو الطريق.

يعاني كل من التجمعات الفلسطينية الموزعة كبقع جرباء على ظهر جمل أبلق من مشاكله الخاصة، والتي تنجم بشكل أو بآخر عن سببين لا ثالث لهما، وهو تغول الاحتلال وقطعانه واعتدائهم المستمر على مقدراته واسباب انتاجه وأمنه اليومي، وتخاذل السلطة وتجاهلها المستمر لأمن الشعب الفلسطيني وعملها المستمر من أجل اجهاض العمل المقاوم، وهو ما أوصل كل من الأفراد المقاومين بشكل فردي أو جماعي إلى النتيجة الحتمية، بكون الخندق المقابل يشترك فيه كل من السلطة الفلسطينية – أو صفها القيادي الأعلى على الأقل- والإحتلال، وأن الطريق الوحيد لتحقيق أمنه وحفظ جماعته هي في تجاوز الخلافات ورص الصفوف، والقتال، القتال الذي يطمح لتحقيق أهداف خاصة بمجتمعه الصغير وحيزه المكاني، مع ضرورة التعاون والدعم -المعنوي على الاقل- للمجموعات المشابهة في المواقع الأخرى، وهنا نرى جيوشا صغيرة تولد، في مناطق مختلفة، مجموعات تعلم أنها تقاتل وحدها في أرضها، لكنها تقاتل مع أفراد مجتمعها القريب، حيث يعرف كل فرد منهم إخوته ورفاقه في القتال، ينزفون معا، ويعملون معاً، وكأنما انفصلت المدن والمخيمات فصارت دولاً مستقلة، متحررة من كل ثقل قيادي خارج عنها، رافضة لقيادة لا تشترك معها بدم، وعاملة من أجل الإستقلال الصغير، وحرية المخيم والبلدة القديمة، كخطوة كبيرة في سبيل التحرير الكامل.