عن التشكيلات المحاربة فطرياً وموت العجائز.

يمتلك الشعب الفلسطيني أكبر عدد من الفصائل بالمقارنة بعدد السكان في العالم تقريباً، حيث يمكن لما يقارب العشرين فلسطينيا الالتقاء في مكان واحد من دون أن يتلاقى منهم اثنان في الانتماء السياسي، تعاني معظم الفصائل الفلسطينية من حالة شيخوخة سياسية وترهل مزمن في الفعل الوطني – وهو طبيعي عندما تصبح قيادتك العليا بهذا العمر – حيث أن البقاء في الصف الأعلى من القيادة بدون انجازات وطنية يتسبب بالضرورة بالتصاق مزمن في المؤخرة وصعوبة بالغة في التقدم. تنضوي غالبية هذه الفصائل تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية والتي أصبحت تعنى بالكثير من الأشياء إلا التحرير -وهو ما يحصل عندما تقوم بالصمت الموافق على اتفاقية سلام مع المحتل بالضرورة- وحيث أن فتحنة السلطة وسلطنة فتح هي امتداد طبيعي لعملية فتحنة المنظمة، فقد أصبحت غالبية الفصائل هذه عبارة عن كيانات تابعة لحركة فتح ومنظومة السلطة بشكل عملي وفي داخل العقل الجمعي الفلسطيني حيث يمكنك سؤال فرد ما عن انتماء الأمين العام لأحد هذه الفصائل -في حينه- فيجيبك بدون تردد أنه فتح -مش ياسر عبد ربه- وهو ما يعني بكل بساطة تحول كل ما هو بجانب فتح الى فتح بشكل لا ارادي في داخل الوجدان الفلسطيني.

إن ارتباط الفصيل بالسلطة يودي بالفصيل نفسه الى تحمل تبعات كل اخفاقات هذه السلطة بشكل تلقائي، وحيث قامت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالذوبان شبه الكلي في منظومة السلطة وتحولت من حالة القتال من أجل اثبات نفسها في الشارع الفلسطيني الى القتال من أجل حصة من مكتسبات ومنافع المنصب السلطوي، فقد كان من الطبيعي انفلات الشعب الفلسطيني عن الفصائل بشكل تدريجي، حيث لا تجد اليوم من بين الشباب الفلسطيني من هو معبأ تنظيمياً بشكل حقيقي إلا نادراً ، حيث يتوارث الغالبية العظمى من الشباب غير النشط سياسياً معتقدات آبائهم التنظيمية بشكل عاطفي وبدون إدراك لأدبيات -أو لا أدبيات- الحزب او الحركة التي يحملون رايتها، وقد زاد من فداحة حالة اللاوعي السياسي هذه توقف عمليات التعبئة الفكرية من قبل الأحزاب تجاه أفراد الشعب حيث لم يعد مهما للحزب عدد أو نوعية المنتسبين له بعد أن ضمن حصته من وزارات الحكومة القادمة.

إن الرابط بين الشعب والسلطة -أي شعب وأي سلطة- مبني بشكل أساس على الدفاع عن حقوق الشعب وحياته، الحفاظ على كرامته، والعمل من أجل مصلحته، وعندما ينتفي أي من هذه الصفات عن السلطة تكون هذه السلطة قد وضعت نفسها في الخندق المقابل للشعب، وأصبحت في حالة من الخطر قد تودي بها لاعتبارها عدوا للشعب، وهو ما يودي بالشعب في النهاية إلى القيام بخلع السلطة من مكانها وانشاء سلطة أخرى، إن كان بشكل من اشكال الديمقراطية الدورية، أو بثورة دموية، حيث يمتليء التاريخ بالكثير من الأمثلة على كل منها. وفي الحالة الفلسطينية، تقوم السلطة منذ ما يزيد على عقد من الزمان -منذ انتهاء الانتفاضة الثانية- بالتنكر لكل من هذه الصفات، وتقوم بشكل واضح ومباشر بالقيام بما كانت تقوم به بالخفاء خلال فترتها الأولى -من أوسلو إلى الانتفاضة- حيث تقوم بحماية العدو والعمل من أجل مصلحته، وتجاهل متطلبات الشعب الفلسطيني الأساسية، واستفزاز ذكاؤه بتصرفات بهلوانية غبية من حين إلى آخر -تركيب حمايات لشبابيك المواطنين في مكان ما على سبيل المثال- في حين تمتلك هذه السلطة القوة اللازمة لقمع الشعب المحتج ضد تصرف ما -أو حتى استقبال أسير محرر- بالحديد والنار، في الوقت نفسه التي تقوم باخلاء الشوارع من منتصف سيادة السلطة في مدينة ما لمجرد اقتحامها بوحدة من ثلاثة جنود في عربة غير مصفحة.

تعاني الفصائل المعارضة لمنظومة السلطة جموداً تنظيمياً عاما في الضفة الغربية، حيث أن التشكيلات القيادية التقليدية الجامدة تعتبر أكثر تأثراً بالملاحقة الحثيثة التي يمارسها العدو وأدواته لقنوات الدعم والتخطيط والإدارة الخاصة بالعمل التنظيمي، وبنفس الوقت فإن القيادة التنظيمية لهذه الفصائل ليست مدركة بالضرورة لإختلاف الظروف الموضوعية في واقع الضفة الغربية عن مجال عملها الرئيس في غزة، وحيث أن عملية استنساخ اليات العمل القائمة في غزة لتطبيقها في الضفة الغربية هي عملية محكومة بالفشل بالضرورة، فإن العمل المقاوم لهذه الفصائل في الضفة الغربية لا يتعدى عملية تبني أعمال شبه فردية بمجهود شخصي من القائمين عليها، حيث ينتمي الأفراد المنفذين لهذه الفصائل بدون وجود دعم حقيقي على أرض الواقع أو شحه في أكثر الحالات تفاؤلاً، وهو ما يجعل من عمل فصائل المقاومة في الضفة الغربية بحقيقته عملاً شعبياً بتخطيط وتنفيذ فردي أو ميداني في أكثر حالاته إتساعاً.

يمارس الطفل الفلسطيني في طفولته المنتشرة في حارات وأزقة وشوارع الضفة الغربية طفولة مبنية بشكل فطري على حالة الحرب، حيث تعتبر لعبة “عرب ويهود” أكثر العاب الشوارع الجماعية انتشارا في فلسطين، وهي لعبة ينقسم فيها الأطفال الى فريقين يخوضان معركة وهمية ببنادق خشبية وحجارة في أزقة الحارات، والتي قد يشارك فيها أطفال من حارات مجاورة لتمتد وتصبح ساحة معركة تشمل كل زقاق وحاكورة في البلدة أو المخيم، يخوض فيها الأطفال تدريبا عمليا على القتال، القيادة، التخطيط والاستراتيجيا العسكرية، التمترس ونصب الكمائن، وحيث تنتشر هذه الالعاب بالعادة في صفوف الأطفال من الأسر الأقل قدرة على توفير اساليب اللعب الحديثة لاطفالها، فإنه من الممكن ملاحظة مدى انخراط هذه المناطق في العمل المقاوم وقدرتها على المناورة والاشتباك، وهو أمر طبيعي.

من أكثر الالعاب التي أثارت اهتمامي في خلال طفولتي في المخيم، هي لعبة كنا ندعوها الخارطة، حيث كانت تشبه اللعبة الاشهر في وقتها “عرب ويهود” مع اضافة بعد استخباراتي لها، حيث كان يجب على كل فريق من الفريقين اختيار موقع يرسم به خارطة للخطة الخاصة به، والتي يجب عليه الالتزام بها من دون أي يستطيع الفريق الاخر اكتشافها والوصول لها، وفي نفس الوقت عليك محاولة الحصول على خارطة العدو عن طريق التغلب عليه واكتشاف واقتحام مقره الموجودة به الخارطة، وحيث كان يوجد لكل فريق قائد يجب عليه ان يقوم بالتعديل على الخطة وتحديد المهام القادمة فكان لا بد من وجود خط اتصال فعلي بين القائد والفريق المقاتل، وهو ما يؤدي لاكتشاف المقر الخاص بالعدو، لكن ما كان أكثر اثارة للإهتمام في جميع هذه الالعاب العسكرية هو مرونة القيادة، حيث تتحول القيادة من حالة الجمود الى حالة السيولة في شوارع المخيم -وأعتقد أنها كذلك في شوارع البلدات القديمة والقرى في الضفة- فعندما كان يضطر القائد لمغادرة الفريق لأي سبب كان -أن تناديه أمه مثلا- كان يحل محله فرد آخر بدون أن يؤدي ذلك إلى اختلال في الية عمل الفريق، فلم يكن تحييد القائد مؤثرا على سير المعركة بالشكل الذي يؤدي للخسارة.

إن واقع الضفة اليوم، يجعل من الواضح بما لا يقبل الشك ضرورة موت القيادات الفصائلية بصورتها الهرمية الجامدة، وهو ما يعني في الواقع الموت الاكلينيكي للفصائل والتنظيمات الفلسطينية وتحولها الى مجرد أفكار عامة واطارات نظرية لا تؤثر على وحدة الجماعة المقاتلة، والخروج من صندوق الفصيل والحركة والتوجه نحو الحالة الفطرية التي يمارسها اطفالنا من القتال، نشاهد اليوم أطفال الأمس اللاهين بالعاب عسكرية، وقد امتشقوا بنادقهم، وخلقوا من اللاشيء اشياءا تضيء قلوب الشعب الفلسطيني كله، رافضين الخضوع للأمر الواقع، متخلين عن رايات فصائلهم، ليخلقوا لنا حلماً من اللا شيء، مختارين لأنفسهم اسماء مشابهة لما كنا نسمي بها جماعات لعبنا في شوارع المخيم، فيصبحون عشا للدبابير حينا، وعريناً للأسود حيناً آخر، يعرف كل منهم الآخر كما يعرف نفسه، يخرجون من لحم الشعب ليحاربوا من أجله، وليجعلوا من أكثر أيام تاريخنا عتمة، نوراً يخطف الأبصار، بتمويل ذاتي، وقيادات سائلة، ومواقع آمنة يدافع عنها بشراسة من قبل الجميع، وتنتقل بانتقال الجميع الى مكان آخر، حيث شب الأطفال سوياً، محاربين كتفاً إلى كتف، استعداداً لهذه المعركة التي تشتعل اليوم في جميع أنحاء الضفة الغربية، بعتاد عسكري اشتراه الفقراء، لحرب يخوضونها سوياً، منذ الأزل.