ثلاث اسئلة ولا إجابات واضحة

 منذ أن فتحت عيني على هذا العالم البسيط حيناً المعقد أحياناً أخرى، باتت تلاحقني الكثير من الاسئلة، بعضها بسيط لدرجة البلاهة والبعض الآخر معقد لدرجة الجنون، وحيث أني كنت طفلاً كثير التساؤل، فلقد أرهقت والداي بأسئلتي التي ليس لجزء كبير منها اجابة واضحة حسبما أعتقد، ويدلني على ذلك صوت أبي ناطقاً بالكلمة التي إعتدت سماعها كلما قلت له : ” ليش … ” ليرد كما العادة ب” بعرفش “، أو “من وين بتجيب كل هالاسئلة”.

كان جدي لأمي – معلم اللغة العربية المتقاعد – والمصاب بحب الأرض حتى النخاع، منقذي وملجأي في أسئلتي، لا أذكر أنه قال لي يوماً “بعرفش”، ولا رفض إجابة سؤال ما حتى عندما كانت تكون اسئلتي تافهة الى حد البلاهة، جدي الذي كان يقول لأمي كلما طلبت مني عدم ازعاجه باسئلتي “الهبلة” : ” اتركيه يسأل  ويتعلم”.

كان جدي يجيب على اسئلتي قدر استطاعته، وفي حالة لم يكن لديه جواب لسؤال ما كان يأخذني من يدي لمكتبته – التي اعتدت على سحب الكتب منها كلما اردت البحث عن إجابة ما بعد وفاته – لنبحث في الكتب عن الإجابة لسؤالي. ومنذ تلك اللحظة وأنا أحب الكتب كما أحب جدي، ولا أثق باجابة لم استطع الحصول عليها بدون مساعدة أحدهما، أو كلاهما.

قبل سنوات طويلة، غيب الموت جدي عنا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن الإجابات وحدي في كل مكان، أذكر أنني في البداية حاولت أن اسأل جدتي عن بعض الاسئلة ولم يكن جوابها يتغير في كل مرة : ” هذه مكتبة جدك خذ منها ما تريد ” وكنت أفعل، لكن الآن وأنا في آخر العشرينات من عمر قضيت أغلبه باحثاً عن الحقائق، لم يعد جدي موجوداً لاسأله عن ما يجول في خاطري، ولا مكتبته العظيمة التي قضيت عمري باحثاً فيها عن اجابات لاسئلتي، ولا زالت هناك اسئلة تدور في خاطري ولا استطيع الوصول لإجابة تبت الجدال الذي يدور في داخلي.

السؤال الأول :

قبل عدة سنوات كنت جالساً مع صديقة عزيزة علي، وفي وسط النقاش فاجأتني بالسؤال الذي لم أستطع اجابته حتى اللحظة، ” شو يعني وطن؟ “. ولصديقتي هذه في هذا اليوم أكتب ما لم أستطع قوله في تلك اللحظة.

الوطن، تلك المفردة التي لأ استطيع تحديد معنى لها سوى الكثير من المشاعر الغريبة، الوطن ليس مكاناً يمكن حصره في حدود ما، الوطن هو ذلك الشيء الذي يسكننا دوماً، الذي يحلو لنا الموت في سبيله، أو لربما لا تحلو لنا الحياة من دونه، هو الشيء المبهم الذي لا نعرفه حقاً ولكننا نشعر به في نسمة هواء عندما نقطع النهر، هو الفرق بين الذباب في ضفتي نهر، هو الفرح البسيط الذي يجتاح قلبي في لحظة قطعي لماء الأردن، والإبتسامة التي لا مسبب لها سوى أنني قد عدت. الوطن في رأيي الشخصي، هو ذلك الأمر الذي يجتاح القلب عندما تمتليء الرئة بهواء المرة الأولى، ذلك الهواء الذي اقتحم صدورنا عندما ولدنا، فاختلط في دمنا ولم نستطع بعدها التخلص منه.

الوطن هو أن نقف من دون أن نتسائل أين هو طريق البيت.

السؤال الثاني:

كنت أبلغ الرابعة من عمري عندما ماتت جدتي لأبي، أذكر أن ذلك حدث في الليل، في ليلة شتوية عادية، وقد كان ذلك في ليلة ميلاد أخي الأولى، عندما طرقت زوجة عمي باب بيتنا مستنجدة بأمي قائلة : “الحقي خالتي بتموت”.

أذكر أني ذهبت مع أمي الى بيت عمي المجاور لبيتنا في مخيم حطين، لأجد جدتي ممددة متعبة لا تقوى على رفع يدها، وأمي تفحصها بسرعة وتسألها: ” ايش بدك يا خالتي ” لترد عليها بكل هدوء : ” بدي أموت”. في تلك الليلة أخذوا جدتي للمشفى، وفي الغد أخذوها إلى مكان ما، يدعى المقبرة.

لا أذكر موت أحد قبل موت جدتي، لم أكن أعرف شيئاً عن الموت قبل ذلك، جدتي التي علمتني التصفيق كمصاب بالتهاب المفاصل. وفي العزاء عندما طلب منا نحن الأطفال أن نقرأ لها الفاتحة حتى نأخذ الحلوى، بكيت لا لموت جدتي ولكن لأنني لا أحفظ الفاتحة، وأنقذني أبي عندما قال لي: “شو بتعرف طيب؟” فأجبته بأنني أستطيع العد للعشرة بالإنجليزية. فوافق وفرحت لأنني استحقيت حصتي من الحلوى أسوة بابناء عمومتي. ومنذ ذلك اليوم ويطرق رأسي السؤال الذي لا إجابة له ” ما هو الموت ؟”.

أذكر أن ذلك السؤال أخذ من تفكيري الكثير، لم يكن من السهل علي ايجاد اجابة بسيطة لهكذا سؤال معقد، ولم تقنعني أي إجابة من أي شخص يكبرني كلما سألته عنه، لماذا نموت؟، وما هو الموت حقاً.

خلال سنين مراهقتي أذكر أني حاولت أن أموت لأعرف، لكنني لم أمت، فقط إختنقت حتى تفجرت الشعيرات الدموية في وجهي، وكذبت على الجميع عندما قلت لهم أن ذلك من أثر حساسية أصابتني، إذ كان وجهي مغطى بنمش أحمر. لم أمت يومها حقاً، إقتربت منه كثيراً لكنني لم أصل للطرف الآخر من النهر.

لم أعد أخاف الموت من يومها، كنت فتى صغيرا يبلغ من العمر ثلاثة أو أربعة عشر عاماً فقط، لكنني إقتحمت كل مكان يقربني للموت، وكان الموت محيطاً بي من كل جانب، لم أخف، ولم أهرب. وفي داخلي كنت أود معرفته حقاً، أذكر أني صافحت الموت عدة مرات، وكنت أرجع من لقاءه كل مرة، مزهوا سعيداً كأنما التقيت بصديق قديم.

في الحقيقة لا أعرف معنى الموت، لكنه ليس مرعباً كما يشاع عنه، في المرة الأخيرة التي صادفته، كنت نائماً، صحوت على صوت اختناقي، كنت اتشارك الغرفة مع أخي الأصغر، شعرت بصديقي يقترب مني ببطء، وقدرتي على القيام بأي فعل تقل، في البداية كنت أقدر على أخذ أنفاس قصيرة مما ساعدني على النهوض، لم أبحث ليلتها عن أي مساعدة، كل ما فكرت فيه، ما الذي سيفعله أخي إن وجدني ميتاً هنا؟. قمت بهدوء، ارتديت ملابساً غير ملابس النوم، لم يكن إرتداء الملابس صعباً قبل تلك الليلة، شكرت الله على أن نوم أخي ثقيل، وخرجت من الغرفة التي تجمعني به مجرجراً نفسي إلى غرفة الضيوف، اخترت أريكة ذات مسندين لتسندني حين أموت، جلست فيها وأنا أتصبب عرقاً وأنفاسي تتضائل، بدأت الدنيا تعتم من حولي، وعلمت أنه قد أتى، وعندما أعتمت الدنيا تماماً، لم أعد أرى سوى وجه فتاة رأيتها مرة واحدة قبل ذلك.

لماذا كانت هي، أو لم لم أمت، لا أعلم حقاً، لكنني صحوت لاحقاً على صوت شهيقي وألم يمزق رئتي كسكين، لم يكن الهواء لذيذاً من قبل، ولم أكن أشد رغبة بالحياة.

السؤال الثالث:

كنت مختلفاً عندما بدأت أتعرف على نفسي كشاب، كان أقراني مغرمين بالفتيات، بأجسادهن تحديداً، لا أذكر متى بدأت أحب النساء، لكنني أذكر أنني مسروق منذ طفولتي بابتسامة إحدى صديقات أمي، وبعيني إحدى قريباتي من خلف نظاراتها الطبية، وبالشعر القصير لتلك الطبيبة في المركز الطبي الذي كان يأخذني إليه أهلي لأجري فحوصات عديدة وذلك لأني كنت في طفولتي كثير المرض.

كانت تعجبني في صباي “سيمون”، كنت اطير فرحاً وهي تقول “بتكلم جد … متقولش لحد”، وبعد ذلك أذكر أني لم أحب الممثلات وعارضات الأزياء اللواتي كان زملائي في المدرسة يتبادلون صورهن على المجلات كأنها سجائر، وأعجبتني صبية خضراء العيون وأنا في سنتي التاسعة من المدرسة، لإنها كانت تبتسم لي كثيراً عندما كنا نلتقي في دورة اللغة الإنجليزية، وأذكر أني أحضرت لها هدية قبل عيد ميلادها الرابع عشر لأقدمها لها، ولم أرها بعدها، واحتفظت بالهدية بعدها لفترة طويلة.

حاولت كثيراً أن أعرف “ما هو الحب؟”، حاولت حقاً ولكنني لم أستطع حتى هذه اللحظة، كثيراً ما كنت أحاول أن أدخل في تجارب أعتقدها حباً، مع فتيات تعجبني عيونهن، أو ابتساماتهن، او أشياء أخرى، أطول التجارب في حياتي لم تتجاوز الثلاثة أشهر سوى تجربة واحدة، كانت التزاماً دام لأكثر من خمس سنوات، مدفوعا بالاحترام في كثير من الأحيان، والواجب في باقيها.

في جميع العلاقات التي مررت بها كنت رجلاً يقدم المباديء على كل شيء، ودائماً كنت أحاول أن أحب، وأن أعرف ماهية هذا الشعور الذي يدعى حباً، لم أقترب من هذا الشعور سوى مرتين، في المرة الأولى كنت طالباً في السنة الأولى للجامعة، لفتتني تلك الفتاة التي سرقتني لمدة ساعة إلا ربعا –هي طول المسافة من مدينتي إلى الجامعة – ولم أحدثها ولو بكلمة لمدة طويلة، ذلك الشعور الذي اجتاح قلبي في تلك الساعة، كان قادراً على اماتتي وإحيائي من جديد، رأيتها بعدها عندما كدت أموت وتعرفت عليها بعد نهاية تجربتي الأخرى. في المرة الثانية، كنت في جامعة ما في هذا الوطن، ومرت من أمامي فتاة، اجتاحني ذلك الشعور الذي شعرته مع الأولى، لم أستطع ترك خوفي يمنعني من التجربة هذه المرة، تعرفت عليها، وعرفتها بعد فوات الأوان، وما كدت أعرف ما هو الحب، حتى خطفها الموت مني، وخطف مني قدرتي على المجازفة.

هل أحببت حقاً في يوم من الأيام؟، هذا سؤال آخر لا إجابة له، كيف يمكنك أن تجيب على سؤال لا تعرف معناه؟، وكيف يمكن لشخص مثلي أن يحب؟، المشاعر التي تجتاحني دوماً متعبة، ولا أستطيع سبر أغوارها، لكنني في الغالب أحتاج شخصاً ما، يمسكني من يدي كطفل، ويأخذ دور جدي، ليقول لي :”هذا هو الحب”.

عن وهم الحكومة المقاومة في الضفة الغربية وجيوسياسية دولة الكلاب الدلماسية.

تقوم الحكومات في العالم -بالعادة- بإدارة مصالح وتوفير المتطلبات الأساسية -على الأقل- للأفراد الذين يتبعون لها إدارياً وإجتماعياً، وهذا الأمر يتطلب من الحكومات توفير خدمات معينة بشكل منهجي مثل الصحة، التعليم، حل الخلافات الداخلية بين مكونات المجتمع، السيطرة على الجريمة، وغيرها الكثير، وهذا ما يتطلب من الحكومة القدرة على توفير الموازنات اللازمة، انتاج أو استجلاب المواد الرئيسية المرتبطة بكل هذه الخدمات، وهو ما يتطلب نوع من السيطرة على الحدود وعلاقات دبلوماسية جيدة -نسبياً- مع الدولة/الدول التي تتشارك معها هذه الحدود، أو امتلاك ممر مائي حر يتصل بالمياه الإقليمية.

تحتاج الحركات المقاومة -على أقل تقدير- إلى الية لتوفير السلاح، حلفاء استراتيجيين، وامكانية تأمين الإمدادات اللوجستية اللازمة لاستمرارية عناصرها بالعمل المسلح ضد العدو، يتعقد الأمر أكثر عندما تكون هذه الحركة المقاومة تقوم بدور الحكومة أيضاً، حيث تضاف إلى احتياجاتها كحركة مقاومة، إحتياجات الحكومة -المشار إليها أعلاه- وذلك لقيامها بدور إدارة مصالح المجتمع في نفس الوقت الذي يجب عليها القيام بدورها المقاوم في مواجهة العدو.

في حالة السلطة الفلسطينية القائمة حالياً، فإن بناء المنظومة العامة لهذه السلطة يتطلب منها -للقيام بالحد الأدنى من واجباتها تجاه السكان- الحفاظ على علاقة جيدة مع حكومة الاحتلال وذلك انطلاقا من سيطرة الاحتلال التامة على المعابر والحدود، الموانيء البحرية والجوية، حركة الاستيراد والتصدير، والمياه الإقليمية. وحيث أن العلاقة الجيدة مع الإحتلال تتناقض بشكل جذري مع صفة المقاومة، فقدت السلطة -أو حركة المقاومة المرتبطة بها- صفتها الاساسية كحركة مقاومة. وأدى التعاون مع العدو -الكائن بالاحتلال- إلى اكتسابها تلقائيا صفة العمالة -حيث يتم تعريف العمالة بأنها التعاون مع العدو لتحقيق مصالح مشتركة- وهو ما تفعله هذه السلطة علنا وبلا خجل ولا استحياء.

تتصف المناطق التي تسيطر عليها -وهميا- السلطة الفلسطينية بكونها أشبه ببقع على فراء كلب دلماسي(أنظر الصورة أدناه)، بالمقابل يتمتع قطاع غزة بسيطرة تامة على الأرض، ووجود حدود مباشرة-على الرغم من السيطرة عليها من جهات أخرى- مما يمنحه أفضلية من ناحية امكانية حفاظ الجسم الإداري فيه على النهج المقاوم وإدارة مقدرات السكان وإحتياجاتهم، وهو ما يجعله يستطيع الصمود على الرغم من الحصار المفروض عليه. وفي الجهة المقابلة فإن جغرافيا السلطة في الضفة الغربية تمنعها حتى من التواصل بين البقع المتفرقة والمنفصلة منها بدون رضا الإحتلال عن هذا التواصل، مما يجعل من الضرورة الوجودية لأي حكومة تقوم بالسيطرة على المفاصل الإدارية لهذه البقع القيام بالتعاون المشترك مع الجسم الوحيد الذي يمتلك القدرة على قطع مصادرها الى حد الاختناق وهو الاحتلال، وعليه فإن من المستحيل قيام حكومة مقاومة في هذه الجغرافيا، وإن محاولة الوصول إلى مقاليد الحكم في هذه السلطة هو بمثابة انتحار سياسي للجهة التي تقوم به.

مناطق الحكم الذاتي الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة باللون الاخضر الغامق.

ونظرا إلى واقع وطبيعة دويلة بقع الكلاب الدلماسية الخصية(لمعلومات اكثر عن الكلب الدلماسي انظر الصورة أدناه)، فإن الرضا عن ممارسات هذه الدويلة من قبل الإحتلال هو الأساس الوحيد لاستمرارها بالبقاء، وعليه فإن قيام هذه الدويلة بقمع وملاحقة كل فعل مقاوم، ومحاولة هدم الوعي الشعبي الرافض للوجود الاحتلالي، وتمييع اللغة العامة -حيث أن الانسان لا يستطيع التفكير بما لا تستطيع لغته التعبير عنه- هي ممارسات طبيعية ومتوقعة منها، بل ومن المتوقع من أي جهة كانت -مهما كانت وطنية- في حالة وقوعها في فخ القبول بالإدارة السياسية لهذه الدويلة، أن ترضخ لهذه المحددات وأن تتحول -مع الوقت- إلى كيان سياسي خصي راضخ تحت أقدام المنظومة الإحتلالية.

كلب دلماسي

وقد يكون -برأيي الشخصي- ما حدث في 2007 من سيطرة عسكرية لحركة حماس في قطاع غزة، وانتزاعها -بالقوة- لجميع مقاليد الحكم والسيطرة على الواقع والجغرافيا هناك، هو المهرب الوحيد من المأزق الذي أودى بها فيه نجاحها الكاسح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني 2006، حيث آثرت الانفصال عن الجسم الكلي للوطن، وهو ما لم يكن من الممكن تنفيذه بدون إنسحاب الإحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، والذي وفر جغرافيا جديدة قابلة للتعامل معها كحركة مقاومة، على العكس من وضع الضفة المتردي بإطّراد، والذي سيستمر بالتردي طالما استمر وجود هذه المنظومة في هذه الجغرافيا.

وعليه وكتلخيص لما سبق، أعتقد جازماً باستحالة قيام كيان حكومي مقاوم قادر على الاستمرار في الجغرافيا الموجودة حالياً، حيث لا يمكن لهذه الحكومة تأمين ضرورات الحياة لأفراد المجتمع، ولا تأمين السلاح اللازم لمقاومة وفرض سيطرة دائمة على جغرافيا بديلة منتزعة من أيدي الإحتلال الممتدة في كل زوايا الوطن، وليس من الممكن تأسيس قوة منظمة فاعلة ضد الإحتلال في وجود هذه المنظومة التي تعمل على الدوام لملاحقة وانهاء كل من يفكر بمقاومة هذا الاحتلال، وعليه علينا -مع الأسف- العودة الى الوراء والتخلي عن وهم الحكم الذاتي في الضفة الغربية، والعودة الى جغرافيا الاشتباك الشامل، حيث يتواجد الشعب الفلسطيني في كل زوايا البلاد.

عن الذهاب المستمر إلى البلاد، العودة الدائمة والوصول المؤقت.

منذ أن وقعت أرضنا الفلسطينية تحت هذا الاحتلال الإحلالي، ومغادرة الكثير من ابناء شعبنا الفلسطيني لبلادهم السليبة، وحلم العودة إلى البلاد يجول على الدوام في خاطر كل فلسطيني أبعد عن أرضه قسرا، ومنذ البدايات وعمليات التسلل الى البلاد تؤرق هذا المحتل وتدفعه للبحث عن المتسللين وايقاف عمليات التسلل، التي لم يكن من الضرورة أن تكون لهدف نضالي حتى تسبب مشكلة لهذا الاحتلال، حيث يكفي للفلسطيني ان يحافظ على ارتباطه المكاني والعاطفي مع الارض لكي يخلق معضلة وجودية للمحتل الذي يحاول أن يحل مكانه، فوجود الفلسطيني المرتبط بالمكان يهدد هذا الاحتلال وجوديا كما يهدده الفلسطيني المقاتل تماما.

ومن هنا جرت قداسة الرحلة الى الأرض السليبة، الرحلة التي تخاطر بكل شيء في سبيلها، أن تضع حياتك ومستقبلك في سبيل رشفة ماء من عين البلد، حفنة تراب من ارض القسمة، حبة رمان من رمانة الحوش، او نفس هواء من هواء البلاد المقدس.

يتعرض الفلسطيني في رحلته المستمرة الى البلاد لمختلف المخاطر الممكنة، حيث أن اطلاق النار عليك أو احتجازك وأسرك هو أمر وارد الحدوث، على الرغم من سهولة الدخول النسبية -في الوقت الراهن- والذي يعزيه الجميع لنوع من محاولة تخفيف الضغط على الفلسطيني خوفا من انفجاره المحتوم، ومحاولة لانعاش الاقتصاد الراكد من وقت بداية الجائحة -وهي محاولة غبية برأيي الشخصي حيث أن الفلسطيني الحق لا يقوم بصرف امواله في الداخل-.

ان التسلل الى البلاد بالنسبة للفلسطيني هو تلك العودة المؤقتة للبلاد الحلم، وقد قام الفلسطيني منذ الازل بالتسلل الى فردوسه المفقود، من خلال الفتحات حاليا، من “طريق اللفة” سابقا، من داخل عبارات الصرف وقفزا عن الجدار، الفلسطيني يذهب على الدوام الى بلاده. في طقس روحي مستمر من العودة المؤقتة، تدريب مستمر للعودة الدائمة بديلا عن هذا الوصول المؤقت.

يذهب الكثير من “المرضي عنهم”، الى الداخل عن طريق تصاريح خاصة، بطاقات شخصيات، وتصاريح تجار، وبالعادة يكون هؤلاء من المرضي عنهم او من كبار المسؤولين في منظومة السلطة أو حركة فتح، حيث أن الارتباطين العسكري والمدني وهما اجهزة اصيلة في منظومة السلطة مرتبطان بشكل اساسي مع العدو الاسرائيلي بشكل مباشر، ومن المهزلة بمكان أن من اساسات سلطة تدعي نفسها بالوطنية هو انشاء اجهزة وظيفتها المعلنة هي العمالة وتبادل المعلومات مع اجهزة الاحتلال الامنية والادارية ولكن هذا حديث لوقت لاحق.

سيعود الفلسطيني الى ارضه المسلوبة، سيرجع وهو يحفظ طرقها بالقلب، لن يتوقف ليسأل أحدهم أين الطريق الى البلاد، فهي الطريق المستمر، وهو ابنها العائد على الدوام.

الإستعداد للموت من أجل الحياة، والحالة الذهنية السائدة في حالة الاشتباك مع القوى القمعية.

يسود في حالات الإشتباك الجماعي في مواجهة السلطات حالة من عدم الإدراك لخطورة المعركة القائمة، حيث لا يتوقع الجمع البشري أن تقوم السلطات باستخدام القوة بغرض القتل -في العادة- ضد هذه الجموع البشرية المطالبة بالعادة بأمور تتعلق بمستقبل المجتمع ككل، وحيث أنه من الصعب لدى هذه الجموع عزل الأفراد المستأثرين بالسلطة عن الجسم المجتمعي نفسه، حيث أنهم يكونون -عادة- نتيجة افرازات داخلية مختلفة -أو دملاً في مؤخرة المجتمع- فإن المجتمع كما هو الانسان يفضل التعامل مع هذا المفرز الداخلي بدون الاتجاه نحو الحل الراديكالي الكائن بالبتر والاجتثاث لكل ما هو مريض.

في الواقع قد تبدو السلطات مسالمة تارة وعنيفة أخرى في محاولة لامتصاص حالة الغضب الشعبية من خلال استخدام نظرية العصا والجزرة، فقد يقوم عناصر قوى الأمن بتكسير عظامنا بهراواتهم وخنقنا باستخدام الغاز في مرة، وتوزيع الماء البارد على المتظاهرين في المرة التالية، وتعتبر هذه الافعال بشكل عام أفعالا مدروسة وممنهجة من أجل بث الخوف من الخروج ضد السلطات، وابقاء السلطات في خانة الشعب في ذات الوقت، حيث أن ظهور العنصر الامني في مظهر المنتمي للمجتمع والمهتم بسلامة أبنائه هو في الواقع محاولة للحفاظ على المجتمع في حالة اللا عداء للمنظومة، والحفاظ على الشعرة التي تحافظ على أمن المنظومة وتحميها من الانهيار في وجه العنف الثوري واللذي سوف يظهر فور تحول هذه المنظومة الى خانة العدو في وعي الشعب الجمعي.

تعتبر حالة المظاهرات الدورية المستمرة باتجاه محدد، أقرب الى حرب الاستنزاف منها الى المعارك التقليدية، حيث يحاول كل طرف من الاطراف انهاك الطرف الاخر وإصابته بالارهاق النفسي والاقتصادي، وفي العادة يكون الشعب البسيط هو الأضعف في هذه المعارك ما لم يكن هناك قيادة جامعة للفعل الجمعي، أو أفراد واعين لطبيعة المعركة ومستعدين للحفاظ على استمراريتها مهما بدت طويلة ومتعبة، حيث أن استمرارية حالة الاستنزاف هذه سوف تؤدي في السلطات لاتخاذ خطوات غبية -وهو ما يحدث دائما- لمحاولة انهائها والعودة الى حالة الاستقرار النسبي السابقة.

على الرغم من ادراك النواة المحركة لحالة التوتر الجمعي لضرورة انتقال المعركة من حالة الاستنزاف الطويل الأمد الى حالة الاشتباك والمواجهة المباشرة، لكن عملية الانتقال هذه قد تكون عملية معقدة في حالة تم الاستعجال بها قبل أن ينضج الشارع، وحيث أن الشوارع عاطفية بطبيعتها، فإن عملية بناء وعي ثوري جمعي قد تكون أبطأ مما يمكن تطبيقه، يبقى على هذه النواة أن تعمل على ابقاء حالة التوتر السائدة، ومحاولة رفع مستوى التوتر -تدريجياً- والمراهنة على غباء وقصر نظر الجسم السلطوي والذي سيقوم من خلال ممارساته الغبية بتسريع عملية إنضاج الحالة الشعبية المعادية له، ويعتبر أكبر المحفزات لحالات اكتمال الغضب الشعبي في تاريخنا الفلسطيني خاصة والثورات الشعبية في العالم عامة هو الدم، عندما يفقد المتسلط السيطرة على نفسه لبضع لحظات، ويقوم بكل غباء القوي بفتح نيرانه على الجموع البشرية الخارجة للمطالبة بحياة ومستقبل أفضل.

من هنا قد يبرز السؤال الأعقد في هذا النص -وربما في الخروج الدائم الى الشارع ايضا- وهو هل نحن مستعدون للموت؟ وهل من المجدي أن نموت من أجل أن ينضج الشارع ويعي أن منظومات القمع لم ولن تكون جزءا من نسيجه المجتمعي؟.

في الواقع إن السير إلى حياة أفضل هو مشي بثبات في وسط حقل الغام، وعلينا أن نضع امكانية موتنا في الطريق الى هذه الحياة نصب أعيننا على الدوام، وأن نكون على أتم الاستعداد في كل مرة نتوجه بها الى الشارع لأن نواجه بطش منظومات القمع البوليسية، والثبات على الدوام في وجه القوة الغاشمة، أن نموت واقفين بهدوء، باطمئنان لأن هذا الموت سيذهب بالآخرين إلى مستقبلهم الأفضل، أن نموت لأن موتنا هو الحل الوحيد الذي يؤدي بهذه المعركة إلى الإكتمال، آملين أن ينتصر الباقون.