ثلاث اسئلة ولا إجابات واضحة

 منذ أن فتحت عيني على هذا العالم البسيط حيناً المعقد أحياناً أخرى، باتت تلاحقني الكثير من الاسئلة، بعضها بسيط لدرجة البلاهة والبعض الآخر معقد لدرجة الجنون، وحيث أني كنت طفلاً كثير التساؤل، فلقد أرهقت والداي بأسئلتي التي ليس لجزء كبير منها اجابة واضحة حسبما أعتقد، ويدلني على ذلك صوت أبي ناطقاً بالكلمة التي إعتدت سماعها كلما قلت له : ” ليش … ” ليرد كما العادة ب” بعرفش “، أو “من وين بتجيب كل هالاسئلة”.

كان جدي لأمي – معلم اللغة العربية المتقاعد – والمصاب بحب الأرض حتى النخاع، منقذي وملجأي في أسئلتي، لا أذكر أنه قال لي يوماً “بعرفش”، ولا رفض إجابة سؤال ما حتى عندما كانت تكون اسئلتي تافهة الى حد البلاهة، جدي الذي كان يقول لأمي كلما طلبت مني عدم ازعاجه باسئلتي “الهبلة” : ” اتركيه يسأل  ويتعلم”.

كان جدي يجيب على اسئلتي قدر استطاعته، وفي حالة لم يكن لديه جواب لسؤال ما كان يأخذني من يدي لمكتبته – التي اعتدت على سحب الكتب منها كلما اردت البحث عن إجابة ما بعد وفاته – لنبحث في الكتب عن الإجابة لسؤالي. ومنذ تلك اللحظة وأنا أحب الكتب كما أحب جدي، ولا أثق باجابة لم استطع الحصول عليها بدون مساعدة أحدهما، أو كلاهما.

قبل سنوات طويلة، غيب الموت جدي عنا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن الإجابات وحدي في كل مكان، أذكر أنني في البداية حاولت أن اسأل جدتي عن بعض الاسئلة ولم يكن جوابها يتغير في كل مرة : ” هذه مكتبة جدك خذ منها ما تريد ” وكنت أفعل، لكن الآن وأنا في آخر العشرينات من عمر قضيت أغلبه باحثاً عن الحقائق، لم يعد جدي موجوداً لاسأله عن ما يجول في خاطري، ولا مكتبته العظيمة التي قضيت عمري باحثاً فيها عن اجابات لاسئلتي، ولا زالت هناك اسئلة تدور في خاطري ولا استطيع الوصول لإجابة تبت الجدال الذي يدور في داخلي.

السؤال الأول :

قبل عدة سنوات كنت جالساً مع صديقة عزيزة علي، وفي وسط النقاش فاجأتني بالسؤال الذي لم أستطع اجابته حتى اللحظة، ” شو يعني وطن؟ “. ولصديقتي هذه في هذا اليوم أكتب ما لم أستطع قوله في تلك اللحظة.

الوطن، تلك المفردة التي لأ استطيع تحديد معنى لها سوى الكثير من المشاعر الغريبة، الوطن ليس مكاناً يمكن حصره في حدود ما، الوطن هو ذلك الشيء الذي يسكننا دوماً، الذي يحلو لنا الموت في سبيله، أو لربما لا تحلو لنا الحياة من دونه، هو الشيء المبهم الذي لا نعرفه حقاً ولكننا نشعر به في نسمة هواء عندما نقطع النهر، هو الفرق بين الذباب في ضفتي نهر، هو الفرح البسيط الذي يجتاح قلبي في لحظة قطعي لماء الأردن، والإبتسامة التي لا مسبب لها سوى أنني قد عدت. الوطن في رأيي الشخصي، هو ذلك الأمر الذي يجتاح القلب عندما تمتليء الرئة بهواء المرة الأولى، ذلك الهواء الذي اقتحم صدورنا عندما ولدنا، فاختلط في دمنا ولم نستطع بعدها التخلص منه.

الوطن هو أن نقف من دون أن نتسائل أين هو طريق البيت.

السؤال الثاني:

كنت أبلغ الرابعة من عمري عندما ماتت جدتي لأبي، أذكر أن ذلك حدث في الليل، في ليلة شتوية عادية، وقد كان ذلك في ليلة ميلاد أخي الأولى، عندما طرقت زوجة عمي باب بيتنا مستنجدة بأمي قائلة : “الحقي خالتي بتموت”.

أذكر أني ذهبت مع أمي الى بيت عمي المجاور لبيتنا في مخيم حطين، لأجد جدتي ممددة متعبة لا تقوى على رفع يدها، وأمي تفحصها بسرعة وتسألها: ” ايش بدك يا خالتي ” لترد عليها بكل هدوء : ” بدي أموت”. في تلك الليلة أخذوا جدتي للمشفى، وفي الغد أخذوها إلى مكان ما، يدعى المقبرة.

لا أذكر موت أحد قبل موت جدتي، لم أكن أعرف شيئاً عن الموت قبل ذلك، جدتي التي علمتني التصفيق كمصاب بالتهاب المفاصل. وفي العزاء عندما طلب منا نحن الأطفال أن نقرأ لها الفاتحة حتى نأخذ الحلوى، بكيت لا لموت جدتي ولكن لأنني لا أحفظ الفاتحة، وأنقذني أبي عندما قال لي: “شو بتعرف طيب؟” فأجبته بأنني أستطيع العد للعشرة بالإنجليزية. فوافق وفرحت لأنني استحقيت حصتي من الحلوى أسوة بابناء عمومتي. ومنذ ذلك اليوم ويطرق رأسي السؤال الذي لا إجابة له ” ما هو الموت ؟”.

أذكر أن ذلك السؤال أخذ من تفكيري الكثير، لم يكن من السهل علي ايجاد اجابة بسيطة لهكذا سؤال معقد، ولم تقنعني أي إجابة من أي شخص يكبرني كلما سألته عنه، لماذا نموت؟، وما هو الموت حقاً.

خلال سنين مراهقتي أذكر أني حاولت أن أموت لأعرف، لكنني لم أمت، فقط إختنقت حتى تفجرت الشعيرات الدموية في وجهي، وكذبت على الجميع عندما قلت لهم أن ذلك من أثر حساسية أصابتني، إذ كان وجهي مغطى بنمش أحمر. لم أمت يومها حقاً، إقتربت منه كثيراً لكنني لم أصل للطرف الآخر من النهر.

لم أعد أخاف الموت من يومها، كنت فتى صغيرا يبلغ من العمر ثلاثة أو أربعة عشر عاماً فقط، لكنني إقتحمت كل مكان يقربني للموت، وكان الموت محيطاً بي من كل جانب، لم أخف، ولم أهرب. وفي داخلي كنت أود معرفته حقاً، أذكر أني صافحت الموت عدة مرات، وكنت أرجع من لقاءه كل مرة، مزهوا سعيداً كأنما التقيت بصديق قديم.

في الحقيقة لا أعرف معنى الموت، لكنه ليس مرعباً كما يشاع عنه، في المرة الأخيرة التي صادفته، كنت نائماً، صحوت على صوت اختناقي، كنت اتشارك الغرفة مع أخي الأصغر، شعرت بصديقي يقترب مني ببطء، وقدرتي على القيام بأي فعل تقل، في البداية كنت أقدر على أخذ أنفاس قصيرة مما ساعدني على النهوض، لم أبحث ليلتها عن أي مساعدة، كل ما فكرت فيه، ما الذي سيفعله أخي إن وجدني ميتاً هنا؟. قمت بهدوء، ارتديت ملابساً غير ملابس النوم، لم يكن إرتداء الملابس صعباً قبل تلك الليلة، شكرت الله على أن نوم أخي ثقيل، وخرجت من الغرفة التي تجمعني به مجرجراً نفسي إلى غرفة الضيوف، اخترت أريكة ذات مسندين لتسندني حين أموت، جلست فيها وأنا أتصبب عرقاً وأنفاسي تتضائل، بدأت الدنيا تعتم من حولي، وعلمت أنه قد أتى، وعندما أعتمت الدنيا تماماً، لم أعد أرى سوى وجه فتاة رأيتها مرة واحدة قبل ذلك.

لماذا كانت هي، أو لم لم أمت، لا أعلم حقاً، لكنني صحوت لاحقاً على صوت شهيقي وألم يمزق رئتي كسكين، لم يكن الهواء لذيذاً من قبل، ولم أكن أشد رغبة بالحياة.

السؤال الثالث:

كنت مختلفاً عندما بدأت أتعرف على نفسي كشاب، كان أقراني مغرمين بالفتيات، بأجسادهن تحديداً، لا أذكر متى بدأت أحب النساء، لكنني أذكر أنني مسروق منذ طفولتي بابتسامة إحدى صديقات أمي، وبعيني إحدى قريباتي من خلف نظاراتها الطبية، وبالشعر القصير لتلك الطبيبة في المركز الطبي الذي كان يأخذني إليه أهلي لأجري فحوصات عديدة وذلك لأني كنت في طفولتي كثير المرض.

كانت تعجبني في صباي “سيمون”، كنت اطير فرحاً وهي تقول “بتكلم جد … متقولش لحد”، وبعد ذلك أذكر أني لم أحب الممثلات وعارضات الأزياء اللواتي كان زملائي في المدرسة يتبادلون صورهن على المجلات كأنها سجائر، وأعجبتني صبية خضراء العيون وأنا في سنتي التاسعة من المدرسة، لإنها كانت تبتسم لي كثيراً عندما كنا نلتقي في دورة اللغة الإنجليزية، وأذكر أني أحضرت لها هدية قبل عيد ميلادها الرابع عشر لأقدمها لها، ولم أرها بعدها، واحتفظت بالهدية بعدها لفترة طويلة.

حاولت كثيراً أن أعرف “ما هو الحب؟”، حاولت حقاً ولكنني لم أستطع حتى هذه اللحظة، كثيراً ما كنت أحاول أن أدخل في تجارب أعتقدها حباً، مع فتيات تعجبني عيونهن، أو ابتساماتهن، او أشياء أخرى، أطول التجارب في حياتي لم تتجاوز الثلاثة أشهر سوى تجربة واحدة، كانت التزاماً دام لأكثر من خمس سنوات، مدفوعا بالاحترام في كثير من الأحيان، والواجب في باقيها.

في جميع العلاقات التي مررت بها كنت رجلاً يقدم المباديء على كل شيء، ودائماً كنت أحاول أن أحب، وأن أعرف ماهية هذا الشعور الذي يدعى حباً، لم أقترب من هذا الشعور سوى مرتين، في المرة الأولى كنت طالباً في السنة الأولى للجامعة، لفتتني تلك الفتاة التي سرقتني لمدة ساعة إلا ربعا –هي طول المسافة من مدينتي إلى الجامعة – ولم أحدثها ولو بكلمة لمدة طويلة، ذلك الشعور الذي اجتاح قلبي في تلك الساعة، كان قادراً على اماتتي وإحيائي من جديد، رأيتها بعدها عندما كدت أموت وتعرفت عليها بعد نهاية تجربتي الأخرى. في المرة الثانية، كنت في جامعة ما في هذا الوطن، ومرت من أمامي فتاة، اجتاحني ذلك الشعور الذي شعرته مع الأولى، لم أستطع ترك خوفي يمنعني من التجربة هذه المرة، تعرفت عليها، وعرفتها بعد فوات الأوان، وما كدت أعرف ما هو الحب، حتى خطفها الموت مني، وخطف مني قدرتي على المجازفة.

هل أحببت حقاً في يوم من الأيام؟، هذا سؤال آخر لا إجابة له، كيف يمكنك أن تجيب على سؤال لا تعرف معناه؟، وكيف يمكن لشخص مثلي أن يحب؟، المشاعر التي تجتاحني دوماً متعبة، ولا أستطيع سبر أغوارها، لكنني في الغالب أحتاج شخصاً ما، يمسكني من يدي كطفل، ويأخذ دور جدي، ليقول لي :”هذا هو الحب”.