منذ أن وعيت على هذا العالم، والبيت مرتبط في ذاكرتي بشجرة توت كبيرة، نقتطف حباتها برفق، تصبغ ثيابنا ليلاحقنا توبيخ أمي الدائم بسبب تلويثنا الثياب المغسولة حديثاً بلون التوت البنفسجي، وشجرة التوت لمن لا يعلم، هي شجرة عظيمة الحجم، كثيرة الاغصان، تهبط اغصانها الطرية برفق نحو الأرض عندما يقترب نضج الثمار، وتحمل ثمارا كثيرة جداً، تكفي لكي نأكل منها نحن وعصافير البرية والدجاجات الفجعة، ويبقى الكثير من التوت تحت الشجرة مهما قامت أمي أو جدتي بالتنظيف تحتها، حيث يكفي الحبة الناضجة مرور نسمة هواء عليلة من قربها لتقفز عن الغصن منطلقة ككرة صباغ بنفسجية في لعبة (paintball) لتقوم بتلوين اي شخص او سطح تقع عليه، ولك أن تتخيل منظرنا بعد خروجنا من معركة قطف التوت، وقد هززنا الاغصان بما يكفي لتنطلق الف حبة توت بكل الاتجاهات الممكنة ومسحنا ايدينا بقمصاننا النظيفة.
على الرغم من أن حياتي لم تكن يوما مستقرة في مكان واحد -منذ أن جئت الى هذه الدنيا- إلا أن جميع البيوت التي شعرت بها بدفء البيت حقاً، كان يوجد في زاوية منها شجرة توت ضخمة، وكأنما هي ضرورة في كل بيوتنا، كما هي دالية العنب، أو كأن كل كبار العائلة في كل مكان قطنوا فيه، يحاولون خلق صورة مشابهة للبلاد، في المنفى القريب والبعيد على حد سواء، وهو ما قمت انا بفعله بدوري عندما وصلت الرحلة الطويلة من تبديل البيوت والمناطق، والترحل من سقف الى سقف الى نهايتها المفترضة، حيث قمت بزراعة توتة جديدة، وثلاث شتلات من العنب قبل أي اشجار أخرى، وكأنما هذا هو الفعل الطبيعي وإعلان أن هذا المكان هو البيت -على الأقل مؤقتا-
في طفولتي في المنفى البعيد، كانت هناك شجرتا توت تعلنان البيت، شجرة التوت الواقفة في وسط ساحة بيت جدي في المخيم، وشجرة التوت فوق المخزن في بيت خالتي في الضاحية القريبة منه، وحيث أن طفولتي كانت عملية انتقال متكرر بين هذين البيتين، حيث كانت بنت خالتي تقوم برعايتي خلال فترة عمل أمي في المركز الصحي، ومن ثم نعود مساءا الى بيتنا في المخيم بجانب بيت جدي، فقد كنت امارس هوايتي القديمة والدائمة في قطف التوت وتلويث الثياب بشكل شبه يومي على طول موسم التوت.
عندما انتهت فترة النفي المؤقت التي غادرت بسببها البلاد أنا وأمي، وعدنا أخيرا الى المنفى القريب في مخيمات الوطن، وجدت بجانب بيت جدي هنا شجرة توت هي الأعظم في ذاكرتي، والأكثر كرماً، حيث لم يقتصر عطاؤها على التوت الذي يطعم كل مخلوقات الأرض، بل وكان ينبت الفطر اللذيذ تحتها وبين اوراقها المتساقطة، وقد كنت استيقظ يوميا للبحث عن الفطر تحت التوتة لكي احضره لجدتي لتصنع لي فطوري المفضل (بيض وفقع) بعد أن احضر لها البيض من عند الدجاج.
عندما كبرت التوتة في بيتنا الحالي وعظمت، وأصبحت تطعمنا بعد أن تشبع عصافير المنطقة، أصبح البيت بيتاً، دفء غريب يمكن لشجرة بسيطة أن تمدنا اياه، بالاضافة للكثير من الثمار الصغيرة سريعة التلف لذيذة الطعم، وكأنما هي طعم الجنة أو الحب، وحيث كاد جمال بخيت يصل السماء في قصيدته (شباك النبي) برأيي بسبب مقطع بسيط يبدأه ب”على باب الجنة يا طعم التوت” ولم يكن هناك تشبيه أبلغ من هذا في قلبي، وقد يكون أكثر أفعال المحبة التي قمت بها في حياتي تجاه إحداهن هي دعوتي لها بأن تقطف التوت من توتة بيتنا، وكأنما كل كلمات الحب في الحياة، تصبح بلا معنى إن لم تكن احداها (تعي نلقط توت).