أطلّ علينا مدير تحرير صحيفة ما بنص قصير يدور حول أضرار الحرب على الحرية ومدافعا عن حق الانسان بتكوين رأي مضاد للحرب والقتال، وضد الأيدولوجيات المقاومة وأحزابها، ومشككا في جدوى القتال في ظل عدم تكافؤ القوى والتمايز العظيم في حجم الخسائر البشرية والمادية بيننا وبين العدو، ومتعاملا مع الانتصار كأنه معادلة حسابية بسيطة وأمرا ماديا بشكل مطلق، وهذا إن نطق عن شيء فإنما ينطق عن ايدولوجيا هذا الشخص والصحيفة، والتي يعبر عنها بشكل واضح اسم هذه الصحيفة وهو العربي الجديد، وكأن العربي يحتاج أن يصبح نسخة متماهية مع الغرب وفاقدة للروح تتعامل مع الاشياء بمادية مطلقة وفردانية غبية، وكأن الأمور جميعا تقاس بمقارنات الارقام عبر احصائيات بسيطة.
وهنا أود أن أقول للاخوة العرب الجدد، أننا نحن العرب القدماء، لا نستطيع استيعاب هذا الجنون الذي تقولونه، أي سفه هذا، نحن العرب اللذين يموتون منذ بدء الخليقة دفاعا عن أرضهم وحياضهم ومائهم وعرضهم وكرامتهم، اللذين لا يفرق معهم كون خصمهم أقوى رجال الأرض أو أعظم امبراطورياته، نحن اللذين “نورد الرايات بيضا- ونصدرهن حمرا قد روينا” ونحن اللذين “نبكي حين قتلكم عليكم – ونقتلكم كأنا لا نبالي” ونحن الذين نحفظ وصايا الآباء بأن ” وقاتلوا القوم أن القتل مكرمة – إذا تلوى بكف المعصم العرف”، فنحن الذين قاتلنا الفرس وهم قوة عظمى من عالم ثنائي القطب في ذي قار وغيره قبل الاسلام، ونحن اللذين قاتلنا الروم ونحن قلة بعد الاسلام، فهل تعلم كم قتل من ابرياء العرب أو كم سبي لهم من نساء أو ذبحت أطفال وهدمت حواضر وبيوت في كل تلك المواقع، أوتعتقد أن الكرامة تقاس بعدد القتلى أو بحجم الخسائر بالدولار؟، بل والله لا تعقلون.
إن صراع الضعيف للقوي هو صراع الغزالة للسبع، فحيث يمتلك السبع كل قوة الدنيا بوجه الغزالة، إلا أن الغزال لا يحتاج سوى أن يتعب السبع أكثر بقليل مما يستطيع الاحتمال، فيتوقف عن الركض، وينهار متعبا، إن القدرة على التحمل كانت أهم ما يمتلك الانسان للبقاء في العالم القديم والازدهار، حيث أنك لا تحتاج أن تقاتل الثور أو الماموث حقيقة، انما تحتاج أن تحافظ على مشاغلته حتى ينهار من التعب، وهي معركة يفوز فيها من يمتلك القدرة على الإحتمال أكثر من الآخر، فهل يستطيع الاحتلال احتمال كلفة القتال المستمر لو لم تتوقف حالة المقاومة المستمرة عن التطور ومراكمة الانجازات، حسب ما أعلمنا التاريخ فالإجابة هي لا، وأن الحل الذي يتخذه المستعمر في هذه الحالات لتخفيف الضغط المتزايد عنه هو خلق نسخة جديدة من المستعمَر، تنادي بانعدام الجدوى من القتال، وإمكانية النضال بدون دماء، باروقة الدبلوماسية العالمية، وبالكتابة والغرافيتي والمظاهرات السلمية، وتفتيت الصراعات لصراعات فرعية، وهو ما يظهر لنا ضرورة وجود عربي جديد، وقد يكون هذا هو الهدف من امكانية اقامة مكاتب هذا العربي في عاصمة الاستعمار التاريخية.
إن أساسيات الحرية والتنوع في صفوف مجتمع ما هو تقبله للاختلافات الفكرية والايدولوجيات المختلفة المتواجدة فيه، ولن تجد شعبا أكثر تقبلا للاختلاف السياسي والديني من الشعب الفلسطيني، وعلى سبيل المثال، فإن عائلتي الممتدة تمتلك في داخلها منتمين وكوادر عاملة في جميع الأحزاب الفلسطينية تقريبا، يتفق الجميع على فلسطين ويختلفون على كل شيء آخر، ما عدا المقاومة كطريق للتحرير -أقصد المقاومة العنيفة أما مقاومة الشموع والغرافيتي فيمكنكم دفعها في أعمق نقطة يمكنكم الوصول لها في مؤخراتكم الليبرالية المسالمة- فما اللذي يمنح احدكم الحق في تقرير ما هو المناسب لطموح الشعب الفلسطيني في التحرر، حيث أن كل فلسطيني يمتلك طموحا وتصورا مختلفين عن الآخر، والميدان مفتوح لكي تعمل للتحرير بطريقتك وتصورك، أما نقاشات وصراعات ما بعد التحرير فهي سفسطة فارغة لا معنى لها قبل حصول فعل التحرير، ولو كانت مؤخرتك تستطيع تحريرها بدون ضحايا فحكها وأرنا ذلك لنصلي لك.
في النهاية، قد يقتلنا الاستعمار بالجملة، علينا أن لا ننسى أننا نقاتل العالم أجمع، وأن اليد التي تقاتل المخرز، ستخرج من المعركة مقطوعة الأصابع مدماة الكف، لكنها ستنتصر في النهاية، وستنبت خلفها أياد ناعمة طرية لم تعرف الموت، وستحمل بعدنا الأجيال منجل.