من العربي القديم إلى العربي الجديد.

أطلّ علينا مدير تحرير صحيفة ما بنص قصير يدور حول أضرار الحرب على الحرية ومدافعا عن حق الانسان بتكوين رأي مضاد للحرب والقتال، وضد الأيدولوجيات المقاومة وأحزابها، ومشككا في جدوى القتال في ظل عدم تكافؤ القوى والتمايز العظيم في حجم الخسائر البشرية والمادية بيننا وبين العدو، ومتعاملا مع الانتصار كأنه معادلة حسابية بسيطة وأمرا ماديا بشكل مطلق، وهذا إن نطق عن شيء فإنما ينطق عن ايدولوجيا هذا الشخص والصحيفة، والتي يعبر عنها بشكل واضح اسم هذه الصحيفة وهو العربي الجديد، وكأن العربي يحتاج أن يصبح نسخة متماهية مع الغرب وفاقدة للروح تتعامل مع الاشياء بمادية مطلقة وفردانية غبية، وكأن الأمور جميعا تقاس بمقارنات الارقام عبر احصائيات بسيطة.

وهنا أود أن أقول للاخوة العرب الجدد، أننا نحن العرب القدماء، لا نستطيع استيعاب هذا الجنون الذي تقولونه، أي سفه هذا، نحن العرب اللذين يموتون منذ بدء الخليقة دفاعا عن أرضهم وحياضهم ومائهم وعرضهم وكرامتهم، اللذين لا يفرق معهم كون خصمهم أقوى رجال الأرض أو أعظم امبراطورياته، نحن اللذين “نورد الرايات بيضا- ونصدرهن حمرا قد روينا” ونحن اللذين “نبكي حين قتلكم عليكم – ونقتلكم كأنا لا نبالي” ونحن الذين نحفظ وصايا الآباء بأن ” وقاتلوا القوم أن القتل مكرمة – إذا تلوى بكف المعصم العرف”، فنحن الذين قاتلنا الفرس وهم قوة عظمى من عالم ثنائي القطب في ذي قار وغيره قبل الاسلام، ونحن اللذين قاتلنا الروم ونحن قلة بعد الاسلام، فهل تعلم كم قتل من ابرياء العرب أو كم سبي لهم من نساء أو ذبحت أطفال وهدمت حواضر وبيوت في كل تلك المواقع، أوتعتقد أن الكرامة تقاس بعدد القتلى أو بحجم الخسائر بالدولار؟، بل والله لا تعقلون.

إن صراع الضعيف للقوي هو صراع الغزالة للسبع، فحيث يمتلك السبع كل قوة الدنيا بوجه الغزالة، إلا أن الغزال لا يحتاج سوى أن يتعب السبع أكثر بقليل مما يستطيع الاحتمال، فيتوقف عن الركض، وينهار متعبا، إن القدرة على التحمل كانت أهم ما يمتلك الانسان للبقاء في العالم القديم والازدهار، حيث أنك لا تحتاج أن تقاتل الثور أو الماموث حقيقة، انما تحتاج أن تحافظ على مشاغلته حتى ينهار من التعب، وهي معركة يفوز فيها من يمتلك القدرة على الإحتمال أكثر من الآخر، فهل يستطيع الاحتلال احتمال كلفة القتال المستمر لو لم تتوقف حالة المقاومة المستمرة عن التطور ومراكمة الانجازات، حسب ما أعلمنا التاريخ فالإجابة هي لا، وأن الحل الذي يتخذه المستعمر في هذه الحالات لتخفيف الضغط المتزايد عنه هو خلق نسخة جديدة من المستعمَر، تنادي بانعدام الجدوى من القتال، وإمكانية النضال بدون دماء، باروقة الدبلوماسية العالمية، وبالكتابة والغرافيتي والمظاهرات السلمية، وتفتيت الصراعات لصراعات فرعية، وهو ما يظهر لنا ضرورة وجود عربي جديد، وقد يكون هذا هو الهدف من امكانية اقامة مكاتب هذا العربي في عاصمة الاستعمار التاريخية.

إن أساسيات الحرية والتنوع في صفوف مجتمع ما هو تقبله للاختلافات الفكرية والايدولوجيات المختلفة المتواجدة فيه، ولن تجد شعبا أكثر تقبلا للاختلاف السياسي والديني من الشعب الفلسطيني، وعلى سبيل المثال، فإن عائلتي الممتدة تمتلك في داخلها منتمين وكوادر عاملة في جميع الأحزاب الفلسطينية تقريبا، يتفق الجميع على فلسطين ويختلفون على كل شيء آخر، ما عدا المقاومة كطريق للتحرير -أقصد المقاومة العنيفة أما مقاومة الشموع والغرافيتي فيمكنكم دفعها في أعمق نقطة يمكنكم الوصول لها في مؤخراتكم الليبرالية المسالمة- فما اللذي يمنح احدكم الحق في تقرير ما هو المناسب لطموح الشعب الفلسطيني في التحرر، حيث أن كل فلسطيني يمتلك طموحا وتصورا مختلفين عن الآخر، والميدان مفتوح لكي تعمل للتحرير بطريقتك وتصورك، أما نقاشات وصراعات ما بعد التحرير فهي سفسطة فارغة لا معنى لها قبل حصول فعل التحرير، ولو كانت مؤخرتك تستطيع تحريرها بدون ضحايا فحكها وأرنا ذلك لنصلي لك.

في النهاية، قد يقتلنا الاستعمار بالجملة، علينا أن لا ننسى أننا نقاتل العالم أجمع، وأن اليد التي تقاتل المخرز، ستخرج من المعركة مقطوعة الأصابع مدماة الكف، لكنها ستنتصر في النهاية، وستنبت خلفها أياد ناعمة طرية لم تعرف الموت، وستحمل بعدنا الأجيال منجل.

عن الإشراف والإستشراف.

يمتلئ العالم اليوم بالكثير من الآمال الواسعة، والأحلام العريضة، مدعمة بخيال لا ينضب، وإدراك غير واقعي للواقع مستقًى من الكثير من الأفلام السينمائية وألعاب الفيديو، حيث يعتقد الفرد الجالس خلف الشاشة في معزل عن الحدث بجدارته في الحكم على الحدث والمشاركين فيه من خلال معطيات منقوصة تنحصر جميعها داخل كادر فيديو متوسط الجودة لا يتجاوز الدقيقة من الزمن، بدون إيلاء أي أهمية لأي من الظروف المحيطة والتي يجتزأ منها هذا الكادر، أو الأحداث السابقة واللاحقة لهذه الدقيقة، أو للوضع العام المحيط بالحدث أو الظروف الخاصة بموقع ومكان الحدث أو بالظروف الموضوعية والذاتية للحدث نفسه.
يقوم الأفراد في المجتمعات البشرية حيث أن البشر كائنات اجتماعية بالطبيعة، باستنباط قيمتهم الذاتية وشعورهم بالأهمية بناء على قيمة وأهمية المجتمع المنتمين له، وهو ما يجعل من التعصبات أمرا طبيعيا حيث لا يتجاوز انتماء الفرد الذاتي حدود الدائرة الضيقة التي تحيط بمجتمعه المختار، وحيث يمكن للفرد الانتماء لعدة مجتمعات مختلفة من نواح تصنيفية إلا أن تعامل الأفراد مع الانتماءات الخاصة بهم لا يختلف بشكله العام باختلاف هذا الانتماء، لكنما يتمايز بحديته اعتمادا على قوة الارتباط بينه وبين الجماعة التي ينتمي لها، حيث قد يغلب الانتماء الطائفي للفرد انتمائه السياسي أو الوطني أحياناً، وقد يتغلب انتمائه المناطقي على كل انتماءاته في أحيان أخرى.
إن رغبة المرء في التعالي في القيمة والمقام، تجعل العمل من أجل إرتفاع قيمة ومقام الجماعة التي ينتمي لها شغلاً يشغله، فيجعل الفرد يسعى بكل ما أوتي من قوة، للإسهام الفاعل في عزة ورفعة الجماعة، وهو فعل جماعي بالضرورة، حيث يمكن للكثير من الأفراد الذين لا يستطيع الواحد منهم إنجاز الأمر العظيم وحيداً منفرداً، في حال توفرت لهم قيادة فاعلة، القيام بالأمور المعجزة، والتحف المبهرة، رافعين من مجتمعاتهم فوق باقي الأمم عزة وفخاراً.
تعاني الجماعات اليوم في دواخلها من مرض الفردانية، حيث لا يدرك الفرد أن العمل الجماعي هو الطريق الوحيد للفعل المعجز، ويحاول كل من الأفراد أن يجد قيمة لذاته خارج جماعته، لكن طبيعته البشرية تأبى أن تترفع عن استقاء القيمة من الانتماء لجماعة، على الرغم من تضاؤل فعل الفرد في سبيل هذه الجماعة، فيجد الفرد نفسه في دوامة من انعدام جدوى الفعل الفردي في إعلاء شأن الجماعة، والرغبة في التسامي على الجماعات المنافسة له، لا يجد الفرد طريقاً سهلا لإعلاء قيمته الفردية سوى التقليل من أفعال الجماعات الأخرى، نازعاً عنها قيماً يدّعيها في جماعته، وهذا الفعل الفردي، على الرغم من فرديته العملية، إلا أنه لا يفتأ أن يتحول جماعياً، حيث تجد الأفراد العاجزين الضعفاء، ينقضون على الجماعة المستهدفة كذباب على جثة، وهو فعل على الرغم من قبحه إلا أن الأفراد القائمين به قد تدفعهم العاطفة أو الرغبة بالتخلص من شعور العجز، أو عدم القدرة على إحتمال الواقع، بالإضافة إلى سوء النية التي يحمله الجزء الأقبح منهم، والذين يجعلون من مهاجمة مبادئ وأخلاق وقيم المجتمعات الأخرى شغلاً شاغلاً وسبيلاً وحيدا للترقي.
فيديو طويل جدا في ثلاثين ثانية، أحدنا يقتل في بلدة حوارة برصاص جندي بعد اشتباك بالأيدي حيث يحاول الجندي اعتقاله، ويحاول شبان آخرون تخليصه من يدي الجندي، يسحب الجندي مسدسه من جرابه، يطلق النار على الشاب، يسقط بندقيته وهو يفعل ذلك، لا تتجاوز مدة بقاء البندقية في الأرض خمس ثوان، في شارع حوارة الرئيسي، لتضج شبكات التواصل الاجتماعي بعد ذلك بحالة غريبة من الاستشراف على الشبان الموجودين في الموقع، والإشراف على الأفعال الحاصلة في المقطع، يبرز فيها آلاف الخبراء العسكريون، الابطال الخارقون، بالإضافة للكثير من ردود الفعل العاطفية المدفوعة بالصدمة والرغبة في العمل، حيث يتجاهل الجميع بطريقة أو بأخرى الحقيقة الواقعة وراء المقطع، وهي أننا نقتل في كل وقت، وبكل الطرق الممكنة.
عودة للواقع، تقع بلدة حوارة بين حاجزين احتلاليين، محاطة بالمستوطنات من كل الجهات، متخمة بالجنود والمستوطنين المدججين بالسلاح على الدوام، حيث أن المسافة بين التصرف والمجزرة لا تتعدى الدقائق في أحسن الأحوال، حيث قيام أحد الموجودين بالاستيلاء على السلاح الملقى في الأرض، وإطلاق النار على الجندي ستؤدي بالضرورة إلى مجزرة حيث يتواجد العشرات من الجنود المدججون بالسلاح في محيط عشر ثوان من الحدث، بدون احتساب المئات من المستوطنين الذين يسكنون المستوطنات المجاورة، بعيدا عن انعدام فرصة الانسحاب من فكي الكماشة الاحتلالية المحيطة بحوارة من كل الجوانب.
يحتاج الفرد المعتاد على الفعل أو المدرب عليه لمدة تتراوح ما بين ثلثي الثانية والثلاث ثواني ليقوم بتصرف في حالة حصول حادثة غير متوقعة، ما يترك للفرد المدرب ثانيتين من الخمس ثوان التي لامست فيها البندقية الأرض ليقوم بالوصول لها، حملها وتصويبها تذخيرها واطلاق النار منها باتجاه الجندي، وعليه فعل كل ذلك تحت مرمى الجندي المدرب وسلاحه الملقم والجاهز لاطلاق النار على كل ما يتحرك حوله، وهو وقت غير كاف ووضع شبه مستحيل حال كون الشبان الموجودين في المقطع متدربين تدريبا كافيا للتصرف والتعامل مع السلاح، وذلك لو أهملنا كل العوامل الأخرى المحيطة بالحدث، ولو افترضنا أساسا إدراك الشباب لوجود السلاح على الأرض، وتجاهلنا دور الصدمة الكائنة بقتل الشاب الذي كانوا يحاولون باستماتة تخليصه من بين يدي الجندي، وضيق مساحة التفكير عند التعرض للخطر المفاجيء، وتأثير فوران الأدرينالين في دمائهم على قدرتهم على اتخاذ القرار، بعيدا عن أن مجرد محاولتهم تخليص الشاب من الاعتقال في ظل جميع الظروف المحيطة بالموقع الذي يتواجد فيه كل منهم، هو مخاطرة حقيقية بحياتهم أو حريتهم جميعاً.
نود جميعاً عندما نشاهد مقطعاً مثل هذا المقطع، لو ننقض على الجندي بأظافرنا وأسناننا، أن نقتله قتلة ما بعدها قتلة، تجتاحنا العاطفة البحتة والرغبة العارمة بالإنتقام من موتنا اليومي، نرى في كل شهيد يسقط أخوتنا وأبنائنا، أحبتنا الذين نذود عنهم بكل ما نملك من حياة، يخنقنا عجزنا، نطالب الذين كانوا هناك أن يقوموا بما لا نستطيع فعله، متناسين أو متجاهلين أننا هم، وأننا لو كنا في نفس المكان، لربما لم نأت بمثل ما فعل الواحد منهم، تطغى مشاعرنا على حسن تقديرنا للأمور، وننسى في كل ذلك، أن الحرب طويلة جداً، وأن البقاء من أجل القتال أدعى من الموت بدون القيام بشيء، وأن التمني لا يغني عن القدرة، وأن الإستعداد للمعركة جزء لا يتجزأ من المعركة نفسها، وأنه لا لوم علينا لو لم نمت.

عن وهم الترقي ومعضلة الطبقة الوسطى

إن تركيز الموارد الطبيعية في أيدي فئة قليلة من المجتمع البشري، يؤدي بالضرورة الى انقسام هذا المجتمع الى مستغِل ومستغَل، حيث يتمثل هذا الانقسام بظهور طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين، حيث تشكل الأغلبية المستغلة طبقة دنيا تعمل من أجل البقاء على قيد الحياة فقط، وتشكل الاقلية المستغِلة طبقة عليا تراكم القيمة الناتجة عن عمل الطبقة الدنيا في إعادة تشكيل الموارد وصناعة المنتجات والخدمات التي تسمح للطبقة العليا بتحسين مستواها المعيشي وزيادة رفاهيتها، حيث تقوم الفئة الطبقة العليا باستغلال احتياجات الحياة الاساسية للطبقة الدنيا من اجل توظيف طاقتها البشرية في عملية مراكمة فائض القيمة لديها مقابل توفير الحد الادنى من هذه الاحتياجات. وقد يكون هذا هو الحال في المجتمعات البشرية منذ أن هجرت مشاعها الأول وقام الرجال الأوائل باكتشاف إمكانية سيطرتهم على الموارد الطبيعية والدفاع عن حيازتهم لها باستخدام القوة والسلطة حيث يمكننا اعتبار ذلك بداية عصر الملكيات الفردية. 

امتاز العصر الأول للملكيات الفردية بوحشية طبيعية ناجمة عن بدائية المنظومة وعشوائيتها، حيث كان من السهل نسبياً حصول انقلابات في معادلات القوة والسلطة تؤدي لانتزاع الموارد من ملاكها وانتقالها لافراد من الطبقات الدنيا، حيث ان متطلبات حيازة الموارد كانت مرهونة بالقدرة على ذلك وامتلاك القوة الوحشية للحفاظ عليها، حيث كان التردي والترقي في المرتبة الطبقية للفرد أمراً مألوفاً، والقتال من أجل المرتبة الطبقية هو الأساس الطبيعي لموقع الفرد فيها، وهو ما أدى بالطبقات العليا بإعادة تشكيل المنظومة لدعم بقائها في المرتبة الطبقية والحفاظ على امتيازاتها الطبقية للمدة الأكبر، وهو ما استدعى منها اعادة تنظيم العلاقة بين الطبقتين العليا والدنيا وتقليل احتمالات الارتقاء والتردي، وهو ما أدى الى ظهور مفاهيم النبالة والتقديس، حيث أضافت الطبقات العليا لانفسها صفات روحانية وأجابات ما ورائية لاسئلة من ينتمي لأين، وتطبيع هذه المفاهيم في صفوف الطبقات الدنيا وهو ما أدى بنا لظهور العائلات النبيلة والمقدسة، وهو ما شكل النواة الاساسية للحاكم المقدس، والقوى والصفات العليا التي تجعل من الطبقة العليا عليا بطبيعتها وبارادة القوة الأعظم المالكة لكل ما هو كائن في هذا الكون، وقد تكون فكرة الاله المالك الوحيد هي أهم نقاط قوة المقدس، حيث أن فكرة وحدة المالك لكل شيء هي نسخة أكبر لفكرة الملكيات الفردية التي ظهرت في نهاية المشاع الأول، حيث انتقلت المقدسات من الهة متعددة متشاركة في القداسة والقوة، الى مالك اعظم وحيد يمتلك كل شيء، يعطي ما يريد من ما يملك لابناء العائلات المقدسة من طرفه وأتباعها، فيعطيهم الحق الغيبي بامتلاك ما يملكون، والحكم فوق كل من لا يملك.
قد يكون التغيير الروحاني في منظومة الملكية الفردية هو البوابة الرئيسة لدخول المجتمعات الانسانية المختلفة عصر الاقطاع، حيث أدى ظهور الملك (النبي/ المقدس) الى تحول منظومة حيازة الموارد الى علاقة باتجاه واحد من الأعلى للأسفل، حيث أصبحت القدسية المعطاة للطرف الأقوى في الطبقة العليا سببا بظهور طبقة جديدة داخل الطبقة العليا، وهو ما يؤدي بتحول الطبقة العليا الى طبقتين ذات علاقات تبعية، فأصبحت الموارد تمنح من الطبقى الأعلى للطبقة التي تليها، والتي تقوم برعاية الطبقة الدنيا التي تخضع لسيطرتها، وهو ما حول المجتمع الواسع الى مجتمعات متعددة متشابهة في التركيب الطبقي، أو ما يسمى اصطلاحا بالاقطاعيات، حيث يشير الاسم الى العلاقة بين المالك الاعلى والملاك الادنى، وتتكون الاقطاعية من اسرة اقطاعية (نبيلة)، وطبقة دنيا (عمال وفلاحون) حيث يمتلك الاقطاعي الارض المقتطعة له من قبل الحاكم الذي يملك كل شيء، وحيث كانت هذه العلاقة بين الحاكم والاقطاعي مرتهنة الى موازين القوى، حيث يمنح الحاكم المقدار الاكبر من الموارد للطرف الاقوى بين الاقطاعيين، فإنه من الممكن لنا تبسيط التعقيد الممنوح للمنظومة بتحويلها للشكل الهرمي حيث يقبع الخالق الغيبي فوق القمة تماما، والذي يمنح بقدسيته كل شيء يمتلكه للحاكم الاعلى المقدس وعائلته المشتركة معه بالقداسة، او خلفائه الممتلكين لنفس القيمة القدسية، فيصبحون رأسا لهرم المجتمع الانساني، وهم بذلك يمنحون اجزاءا مما يملكون لاطراف متعددة تتشارك المستوى المتوسط لهذا الهرم، ويشغل بقية المجتمع الجزء الاعظم منه وهم ما يشكل الطبقة الدنيا منه، وحيث أدت صراعات القوة المستمرة بين الملاك الفرديين منذ نشوء فكرة الملكية الى توسع الحاجة للقتال المستمر بين اطرافها للسيطرة على الجزء الاكبر الممكن من الموارد، فإن تكلفة القتال توسعت بتوسع المنظومة وهو ما أدى لضرورة تشكيل الجيوش المقاتلة بشكلها الأولي، وحيث كانت الجيوش في قوامها القابل للتخلص منه بالأساس مكونة من افراد الطبقة الدنيا، فقد كان من الضرورة بمكان منح الأفراد أسبابا اضافية من اجل منح حيواتهم في سبيلها، وهو ما استدعى من الطبقة العليا الى اعادة خلق أمل الترقي في الطبقة لدى الأفراد الأكثر اسهاما في تراكم الموارد في أيديها.

لقد أدى ظهور الطبقة الدنيا المتمرسة في القتال، بالإضافة الى أمل الصعود والترقي بين أفراد هذه الطبقة، جنبا الى جنب مع انهيار المقدس أو ضعف تأثيره مع الزمن إزاء ظهور مقدسات أخرى، أو انعدام تأثيره الروحاني على أفراد الطبقة الدنيا، الى بداية ظهور الحركات الثورية المنبثقة من الأفراد المقهورين في الطبقات الدنيا هادفة للوصول إلى الطبقات الأعلى من الهرم، حيث أن امتلاك القوة العسكرية والسلاح، بالاضافة الى القدرة على الحشد والإقناع، هي أساسات انتقال الحلم بالترقي والحصول على المكانة من طور المستحيل إلى طور الممكن، وقد أدت صراعات القوى ومناوشات طبقة النبلاء مع الحاكم المقدس وامتلاك الأفراد الإقطاعيون آمالهم السياسية الخاصة إلى ظهور الفرص المختلفة للتدهور والترقي بين الطبقات الثلاث، حيث أن بدائية القوة في تلك العصور واستناد القوة الى القدرة الجسدية والعقلية، بالاضافة لامتلاك السلاح نفسه أو القدرة على الحصول عليه، قد أدت لامكانية انهزام الاقطاعي أمام آخر أو صعود العسكري الفذ من مناصب الجندية الدنيا الى طبقة النبلاء، أضف الى ذلك امكانية سقوط المقدس واستبداله بمقدس آخر من صفوف الطبقة الاقطاعية النبيلة في الكثير من الحالات، أو الإبقاء عليه كحاكم شكلي في الكثير من المجتمعات الاقطاعية -فترة الشوغون في يابان العصور الوسطى والامبراطور المقدس مثالا- وهو ما دعى بالطبقات العليا في المجتمعات بالعمل على خلق تغيير جديد في المنظومة الاجتماعية سعيا للحفاظ على مكتسباتها وامتيازاتها الطبقية، وقد يكون من الممكن ربط هذا التغيير بظهور الجيش المحترف وانقسام الطبقة الدنيا الى طبقتين اجتماعيتين تمتلك احداهما امتيازات طبقية أعلى من الأخرى، حيث أصبحت طبقة المحاربين فوق طبقة الفلاحين والحرفيين، حيث أدت الامتيازات الطبقية الممنوحة لهذه الطبقات وزيادة آمالها وفرصها في الترقي إلى الطبقة الأعلى مرتبة الى خلق حالة من الولاء في صفوف الأفراد المنتمين لها باتجاه الطبقات الأعلى، والإحتقار للطبقات الأدنى. وحيث انتفت الحاجة لمنح الطبقة الدنيا الحق بامتلاك وحمل السلاح حيث انتهت فترة الفلاح المقاتل في صفوف المجتمعات الاقطاعية المتقدمة، فقد أصبح امتلاك الأفراد للسلاح خطرا طبقيا على مصالح الطبقات الأعلى وهو ما أدى لحملات منع حيازة السلاح المناسب للقتال، واقتصار السماح لما يستخدم في مهام عملهم اليومية من فؤوس وسكاكين ومناجل ومطارق. وقد استمرت هذه الفترة تقريبا الى بداية عصر الصناعة والثورة الصناعية الكبرى.

لقد أدت الثورة الصناعية الكبرى إلى تطور متسارع في امكانات الصناعة والتقنيات، وهو ما أدى الى زيادة ضخمة في فائض القيمة المنتجة من قبل الفرد العامل في إعادة تشكيل الموارد لصالح الطبقات العليا، وقد أدت أيضا تغيرات مضطردة في أساليب وتقنيات القتال وطبيعة ونوع السلاح المستخدم وكميته، إضافة لقدرته التدميرية وزيادة المسافة الفعالة له مما أدى الى تآكل أهمية الفارق الفردي بين المقاتلين، حيث أصبحت استراتيجيات القتال وأدواته أكثر أثرا من قدرات الأفراد المقاتلين الجسدية، وقد ادى تسارع الإنتاج، وتوحيده معيارياً إلى متطلبات معيارية للفرد المقاتل والذي أدى بالمجتمعات الطبقية إلى تطبيق الفلسفة الصناعية على الطبقات الأدنى واعتبارها موارد طبيعية يمكن اعادة تشكيلها لتتناسب مع هدف مراكمة القيمة لدى الطبقات الأعلى، وحيث تزامنت الثورات الصناعية في العالم مع الثورات الاجتماعية العظمى وانهيار شبه جماعي للمقدس وتحويله لحالة من الرمزية غير الحقيقية، إلى التغيير المظهري في صفوف مجتمعات الملكيات الفردية حيث ظهرت الوطنيات الحديثة والديمقراطيات الشكلية، مبنية على أساسات فلسفية تدور في فلك امتلاك الموارد الطبيعية وقيمها المضافة، بالإضافة الى الحفاظ على الطبقات الاساسية بحالتها السابقة وهو ما أودى بنا الى ظهور أنظمة الرأسماليات الحديثة.

تشترك الرأسماليات الحديثة مع أنظمة الملكيات الفردية القديمة بتركيز الموارد الطبيعية في يد فئة قليلة تشكل الطبقات العليا من مجتمعاتها، حيث تتمايز الطبقة العليا فيما بينها بمقدار حصتها وقدرتها على مراكمة الموارد، وتختلف معها بالأساليب المتبعة في التعامل مع الطبقات الدنيا واعتبارها جزءا من الموارد التي يؤدي امتلاكها إلى زيادة القدرة الانتاجية لدى طبقة الملاك، ونزع مسؤولية توفير الحد الأدنى للطبقات الدنيا عن الطبقات الأعلى واستبدالها بأجر محسوب مقابل العمل المنجز لصالح هذه الطبقات، حيث تقع المسؤولية الاسمية عن توفير الأساسيات على عاتق الفرد عن طريق العمل بأجر لدى الملاك، وهو ما يؤدي بالفرد في الطبقات الدنيا الى الانفصال المعنوي عن فعل الاستغلال المباشر وإعادة تشكيل العامل النفسي لهدف السيطرة على محاولات الترقي الطبقي لدى الفرد.

لقد أدت الثورات الإجتماعية الحديثة، إضافة إلى إلى التغيرات الحاصلة في المجتمعات ما بعد الصناعية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث وصل تطور الأدوار الانتاجية للافراد في المجتمع الرأسمالي إلى مراحل متقدمة متمايزة بتمايز الأدوار نفسها، وحيث اتجهت عملية تشكيل الموارد البشرية إلى معياريات مختلفة باختلاف الهدف من الإنتاج، ووصول فائض القيمة المراكم لدى الطبقة العليا حدودا يؤدي بها الى الاختناق بالمنتجات ما لم تستطع تصريفها وتسييلها من جديد لإعادة استخدامها، إلى عملية إعادة تشكيل المنظومة مرة أخرى والتعديل على ميكانيكيات عملها، وحيث أدى ظهور شبح الاشتراكية متزامنا مع معضلات الحرب العالمية الاولى الاقتصادية إلى تنامي شعور الخطر لدى الأنظمة الرأسمالية من إمكانية تدمير المنظومة من اساساتها، فقد قامت هذه الانظمة باعادة تشكيل المجتمعات الخاصة بها من أجل حماية مصالح الطبقات العليا فيه، وهو ما أدى بها إلى دعم النزعات الفردانية والاستهلاكية لدى أفراد الطبقات الدنيا من المجتمع، وإعادة تشكيل الطبقات بحيث يصبح السواد الأعظم من الأفراد في المجتمع في وضع محايد اقتصادياً، مع الحاجة لوجود الطبقة الأدنى على الدوام مع انتفاء الحاجة لتشكيلها للغالبية، حيث يجب على الفرد أن يستطيع النظر للأسفل كما ينظر للأعلى، حيث يجد نفسه متوسطا بين حلم وكابوس، مقتنعا بأنه هو وحده المسؤول عن قدرته على الترقي في الطبقات وصولا إلى قمة الهرم ليجلس في صفوف الرأسماليين الأعلى مرتبة. 

لقد أدى إختراع الطبقة الوسطى إلى إعادة تشكيل المجتمعات الحديثة، حيث يشعر الفرد المنتمي للطبقة بأنه قادر على العناية بنفسه كما يجب، ليس كما يريد، لكنه قادر على العناية بنفسه وعائلته، يستطيع أن يرى نفسه يترقى ويتطور في المسار الوظيفي لمستويات أعلى وأكثر رفاهية أو راحة، ما يدفع به للعمل أكثر في سبيل الترقية، الإنجاز، تحقيق الذات، والكثير من الأوهام التي تقوم الالة الرأسمالية بضخها في عقله، وحيث أصبحت هذه الآلة محملة بالاف السنين من التجارب والتطور، فإنها تقوم بفعل ذلك بنجاعة غير مسبوقة، لقد اكتشفت الرأسمالية، كيف ومن أين ولماذا تقوم بفعل كل شيء، يمكن للرأسمالية أن تقنعك بإحتياجك لتلفاز لا متناهي الجودة بعدد صور في الثانية أكثر من قدرة عينك على التمييز، يمكنك أن تشتريه وأنت لا تملك ما يكفيك لشراء الطعام بقية الشهر، ستقوم بتقسيط سعره على سنة قادمة، علما بأنك لا تشاهد التلفاز بالأساس سوى نصف ساعة مرة في الاسبوع لتشاهد الحلقة الجديدة من “one piece” بجودة لا تتجاوز “1080p”.

يمكن للفرد المراقب للمجتمعات من الخارج اليوم، أن يقوم برؤية انقسام المجتمعات الى طبقة رأسمالية عليا، محاطة بالكثير من الاوهام، لا يعلم المجتمع عنها سوى القليل، مقادير الثروة والقيمة الاسمية للأفراد الأبرز فيها، يشكل كل منهم حلما لموظف بسيط في بداية حياته، يحاول أن يحصل على حصته الخاصة من هذا العالم، وطبقة فقيرة مسحوقة، لا تستطيع العناية بنفسها أو توفير أساسيات عيشها، يشكل أفرادها ذلك الخوف العميق لدى أفراد الطبقة الأعلى منها بالانضمام لصفوفها، ووسيلة لتصريف الشعور بالمسؤولية لديهم حيث يقوم الفرد بمساعدة أسرة فقيرة بجزء ضئيل من وقت لآخر مشبعا بذلك رغبته الداخلية في تغيير العالم والتخلص من الظلم، وبين هاتين الطبقتين، يمكننا أن نجد الف طبقة أخرى، تشكل بمجموعها طبقة واحدة، موظفون وعاملون من اجل إنتاج القيمة التي يراكمها الأفراد في الطبقة العليا، وسوق تصريف للمنتجات وإعادة اسالتها في آن واحد، وكأن الرأسمالية نجحت في انتاج المعجزة الفيزيائية الكائنة بالالة مستمرة الحركة، واصبحت الطبقة الوسطى درعا وأداة وطريقا من أجل زيادة القيمة المراكمة في صفوف الطبقة العليا.

يمكن لكل منا الترقي في الطبقات لا المتناهية المكونة في مجموعها للطبقة الوسطى، يمكننا أن نتطور في مسارنا المهني، أن نزيد من محصلاتنا العلمية، مهاراتنا، إنجازاتنا الفردية، سمعتنا وقدرتنا على المنافسة مع إخوتنا في الطبقة، الصعود على أكتافهم والترقي الى طبقة بينية أعلى، طامحين بذلك بتحسين ظروفنا الحياتية، مستوى رفاهيتنا أو قدرتنا على مواجهة مصاعب الحياة، وحيث يشكل الأمل دافعا مهما في استمرارية السعي من أجل الوصول، إلا أن الوصول بحد ذاته ليس مطلقاً ولا حتمي، حيث يمكن التردي بسهولة أكبر في الطبقات، فإن الذهاب إلى الأسفل هو الطريق الطبيعي في هذه الأنظمة المدفوعة بالقيمة المتراكمة في أعلى، وكما يكون السقوط أسهل بكثير من التسلق حيث تقوم الجاذبية الارضية بشدنا إلى الأسفل على الدوام، فإن التردي الطبقي أسهل بكثير من الترقي في النظام الرأسمالي، حيث يجب لموازنة القيمة المنطلقة من الأسفل للأعلى سقوط الأفراد من طبقات أعلى لأدنى، وحيث أن الرأسمالية هي المتحكم الأساسي في حركة الترقي والتردي، يمكنها أن تنأى بنفسها عن تيارات التجاذب الداخلية والعمل على دفع كل الة بشرية متهالكة فقدت الفائدة المرجوة منها الى اسفل الهرم لضمان سيولة الطبقات في الطبقة الوسطى.

إن الاف الطبقات البينية المشكلة للطبقة الوسطى، جعلت من الطبقة الوسطى بحد ذاتها مجتمعاً منفصلاً اجتماعياً عن الطبقة العليا، حيث أنه من الممكن للفرد العمل الحثيث من أجل الصعود في السلم الطبقي وامتلاكه مزايا طبقية اضافية، إلا أن الترقي يحمل في طياته الكثير من المسؤوليات الاجتماعية والحياتية الإضافية التي تجعل من مراكمة الملكية للحد الذي ينقل الفرد لصفوف الطبقة الرأسمالية أمرا خيالياً، وحيث أن الإمتيازات الطبقية هذه يمكن لها أن تورث للجيل القادم من ابناء أفراد الطبقة، ما يمنحهم بدورهم فرصاً أعلى في الترقي في الطبقات الداخلية للطبقة الوسطى، بالاضافة للالتزامات الاجتماعية المرتبطة بالطبقة المنتمين لها، وهو ما يجعل من هذه الطبقات البينية أشبه بالأنسجة المعقدة من الياف كيفلار، والتي تشكل بطبقاتها المتتالية درعا قادرا على حماية الطبقة العليا من الأخطار، ودعم وجودها واستقرارها طويل الأمد.

يمتلك كل منا امتيازات طبقية مختلفة عن الآخرين، يرى كل منا هذه الامتيازات كأمر مسلم به، أو كنتيجة طبيعية لموقعنا الوظيفي والعملي، حيث لا يستطيع الفرد المنتمي لطبقة بينية ما في صفوف الطبقة الوسطى إدراك الفوارق الطبقية الحقيقية بينه وبين أقرانه المنتمين لطبقات أدنى، حيث أنه لا يستطيع إدراك طبيعة امتيازاته الطبقية بدون الاقتناع بوجود هذه الطبقات البينية، فحيث يرى أحدنا الذهاب الى السينما والخروج مرتين اسبوعيا لتناول الطعام في الخارج أمرا طبيعيا، فإنه لا يستطيع فهم -بالعادة- أن هذه التصرفات الطبيعية بالنسبة له، ليست طبيعية لدى أفراد آخرون من طبقة أدنى، على الرغم من تساوي الطبقتين بالوصول الى الصفر في نهاية الشهر، وحيث يتأصل الشعور بالعار المجتمعي بسبب عدم مقدرة مجاراة الاقران لدى الافراد من الطبقات الأدنى في الطبقة الوسطى بسبب الاقتناع بالمسؤولية الفردية تجاه المستوى الوظيفي، أو الشعور الدائم بعدم الاستحقاق الذي تزوده الالة الرأسمالية في نفوس الأفراد، فإن محاولاته المستمرة للظهور بمظهر اجتماعي اعلى من ما هو عليه في الحقيقة يؤدي به في الواقع بالتردي في الصفوف الطبقية، خالقا بذلك فجوة يقوم بسدها فرد آخر من طبقة أدنى يترقى ليحل مكانه في طبقته القديمة.

نحن اليوم في عالم متوحش، خلقته الرأسمالية خلال الاف السنين من التجارب والتعديلات، لا نمتلك في الواقع أي أمل فردي في الترقي أو التخلص من همومنا المجتمعية، تمتلك المصارف كل رفاهياتنا الزائفة، نجري وراء متع مؤقتة لا تضيف إلى كياناتنا الأصلية شيئاً، مقتنعون في خلاص فردي تجذبه لنا افكارنا الإيجابية ومنظورنا المتفائل للمستقبل، متأملين بحتمية الوصول خلف السعي، لكننا في الحقيقة، بهائم تدور حول نفسها في حلقة مفرغة لترفع الماء في السواقي، ليشربه البشر القاعدون هناك في قصورهم وبيوتهم، بغير خوف أو خشية، عالمين بأننا نحن من سيحميهم من أنفسنا، متحصنين بأمل الترقي وخوف التردي المستمر، وهنا أجلس لأكتب مقتنعا بأن الخلاص ممكن، لكن يجب علينا جميعاً العمل سويا من أجل هدم المنظومة من اساسها، واعادة تشكيل العالم، حيث يعود البشر الى مشاعهم الأول، يأخذون ما يحتاجون ليعيشوا حياة سعيدة هانئة، لا خوف بها عليهم ولا هم يحزنون.

عن الحزب والثورة.

يعاني الشعب الفلسطيني عامة وفي الضفة الغربية خاصة حالة غير مسبوقة من الفراغ السياسي -على الرغم من أننا نمتلك أكبر نسبة من الأحزاب لعدد الأفراد بين شعوب العالم أجمع-  حيث أدت ممارسات السلطة الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، إضافة الى الترهل السياسي الذي أصاب القيادات الحزبية في الأحزاب الفلسطينية، إلى خلق حالة من فقدان الثقة الشعبية في الأحزاب السياسية وقدرتها على القيادة، والظمأ الشديد لوجود قيادة جديدة قادرة على تلبية طموحات الشعب الفلسطيني وآماله، وقيادته عبر الدرب الصعب نحو التحرر الوطني والحرية. يمتلك الشعب الفلسطيني تلك القدرة العجيبة للمقاومة المستمرة، وذلك على الرغم من كل الظروف المحيطة والتي قد تجعل استمرار الفلسطيني بالمقاومة عملا معجزاً بحد ذاته، إلا أن الفلسطيني لا زال يقاوم بشكل يومي، يدافع بلحمه الحي عن وجوده الجمعي، ويرفض بشكل مستمر كل محاولات تصفيته وتذويبه حد الاختفاء.

يمتزج الجمعي والفردي بشكل واضح في الواقع الفلسطيني، فحيث نشهد مرحلة تتزايد فيها أعمال المقاومة الموجهة نحو الاحتلال الاسرائيلي بشكل مطّرد، إلا أنها لا زالت بشكلها العام أعمالا فردية يقوم بها أفراد متفرقون من المجموع الشعبي، وفي بعض الحالات المبشرة يقوم الأفراد بتشكيل جماعات صغيرة وذلك في محاولة لزيادة أثر العمل المقاوم واقتداء بتجارب مشابهة تحصل بشكل متزامن في مناطق مختلفة داخل الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية، حيث يعلم الفرد الفلسطيني فطرياً أن الأثر الجمعي للفعل يفوق بمقادير مضاعفة أثر الأفعال الفردية لمكونات الجماعة، وهو ما يؤدي بالفاعل الفردي إلى السعي المستمر لتشكيل الفاعل الجماعي على صورة مجموعات مقاتلة تعمل من أجل هدف موحد، وهو في صورته الأبسط عبارة عن الصمود أمام الجيش المحتل، والقتال من أجل الحفاظ على أمن المجتمع الصغير -والذي يمتد ليصبح شعبا أو أمة- الذي تنتمي له المجموعة. 

على الرغم من اشتعال الضفة الحالي بالعمل المقاوم، ونشوة الحرب التي تجتاح هذا الشعب الممتد من ماء إلى ماء، إلا أنه من الأجدر بنا -نحن الذين نستطيع ذلك- أن نحافظ على آمالنا وأحلامنا في حدود واقعية ومنطقية، حيث لا يتوجب علينا تحميل مرحلتنا الحالية أكثر مما تستطيع أن تحتمل، حيث أن الإفراط بالأمل قد يودي بالإنسان إلى اليأس، أو -وهو الأسوأ- إلى الثقة بالنتيجة والركون لحتميتها، وهو ما يعود في الغالب لتحطيم إمكانية قيامه بما يجب من اجل الوصول الى هذه النتيجة نفسها، والغرق في يأس عميق قد يحتاج انتشاله منه الكثير من الجهد المبذول في سبيل إعادته إلى حالته الفاعلة، ودخول العمل في دورة لا نهائية من الأمل واليأس تؤدي بنا الى مراوحة أماكننا سنوناً طوال أكثر مما نحتمل.

يعرف الحزب في معاجم السياسة بالكثير من التعريفات المختلفة، وينقسم الحزب الى الكثير من الأنواع، وحيث أن هذا ليس المكان الأنسب، ولأنني كاتب ملول، فإنني سأختار تعريفا ووصفا بسيطاً للحزب حسبما أراه مناسبا لما أريد، وهنا يمكننا تعريف الحزب بأنه مجموعة من الأفراد ذات منهاج سياسي، ورؤيا مستقبلية، ومنهجية تطبيقية لتحقيق الرؤيا باستخدام المنهاج، وحيث يتكون الحزب من قيادة ذات قدرة على اتخاذ القرار، وأفراد منتمين للحزب، واثقون بقرارات قيادته السياسية، وفي حالة الأحزاب الثورية المقاومة يجب أن يتصف الحزب بتشيكل شبه عسكري، وذلك يتضمن قدرة الصف السياسي الأعلى على فهم المتغيرات الميدانية، وامتلاكها قدرة غير محدودة للمناورة في حدود المعطيات المادية المحيطة لظروف وجود الحزب، بالاضافة الى ضرورة عملها على المتطلبات المجتمعية الخاصة بالمجتمع المدني الذي يشكل حاضنته الشعبية ومخزونه البشري القادر على تزويده بشكل مستمر بالعناصر لاستبدال الخسائر التي لا بد من بذلها في طريق التحرر والثورة. 

يمكن لدبور واحد ابادة مملكة كاملة من النحل، يستطيع الدبور ذلك عن طريق الاقتراب بشكل كاف من حدود الخلية، وانتظار النحلة الغاضبة لتقوم بمهاجمته، حيث يستطيع القضاء عليها بسهولة نسبية، ومن ثم اعادة الكرة بضع مئات من المرات لحين القضاء على المجموع المقاتل للمملكة، وعلى الرغم من امكانية تعرض الدبور لإصابات متعددة خلال هذه العملية لكن النتيجة النهائية تكون باستطاعة الدبور للدخول إلى القفير والتوجه مباشرة نحو الملكة، حيث يؤدي قتلها لتحول مجتمع النحل لحالة فوضوية غير منتجة بسبب غياب القيادة، فيقوم المجموع القادر من النحل بمغادرة القفير وتركه مع النحل المتبقي للدبور الذي يتغذى على النحل المتبقي ويرقاته ومخزونه من العسل قبل أن يقوم بالانتقال لمهاجمة قفير آخر من النحل، لكن يوجد بعض سلالات النحل التي طورت من تقنياتها القتالية لمواجهة الهجوم الشرس للدبور عن طريق توجه مجموعة ضخمة من النحل للدبور، الإحاطة به بمجموع ضخم من الأفراد، والبدء بتحريك أجنحتها بسرعة عالية مما يؤدي لتوليد حرارة كافية لطبخ الدبور حياً في وسط الجماعة. 

تتصف الأعمال المقاومة في حالتها البدائية بصفة الفردية بشكلها العام في ظل غياب قيادة قادرة على توظيف الغضب والقهر الشعبي من وجود الظلم الى مجهود جماعي منظم، حيث يقاوم كل مقهور ومظلوم في هذا العالم الجهة المتسببة بقهره، وحيث يمكننا اعتبار مقاومة الظلم هو جزء أصيل في الطبيعة الإنسانية، إلا أنه في الواقع لا يتعدى أثر الأعمال المقاومة الفردية هنا هجوم نحلة واحدة على دبور شرس، حيث أنها وعلى الرغم من إمكانية توجيه ضربة مؤذية للدبور، لن تستطيع القضاء عليه نهائيا ما لم تتحول لفعل جماعي منظم، حيث يقوم الجمع الثائر بالتضحية بنفسه ليحترق البعض أو الكثير منه، في الطريق للتخلص من القهر والظلم بشكل نهائي، سامحين للبقية الباقية بالحياة بشكل مختلف، بدون وجوده. 

إن الثورة بصورتها المنتجة – أعني تلك المؤدية الى تغيير الواقع- ليست ذلك الغضب الغاشم من وجود الظلم، أو الهبة العاطفية في وجه الإحتلال، والتي -رغم أهميتها- ليست سوى دفاع يائس عن الوجود، وعلى الرغم من قدرة تكرار الهبات العاطفية هذه على اعادة تشكيل الوعي الشعبي بالظلم والحفاظ على جذوة المقاومة مشتعلة، لكن تحويل الجمرة الى جحيم مستعر يتطلب بالضرورة توحيد جهود المجموع الشعبي وافراده الغاضبين، باتجاه الهدف الجمعي المشترك، والمحافظة على إمداد هذه النار بالوقود اللازم لإحراق الظلم حتى يستحيل رمادا تذروه الرياح، وحيث أن الثورة هي ذلك الغضب العاقل، المدرك لمنهاجه ومنهجيته، القادر على بناء المستقبل حسب رؤيته، والقادر على اتخاذ القرارات اللازمة من أجل المحافظة على استمراريته، فإنه من الضروري للشعب الثائر، القيام ببناء الحزب الثوري من أجل المحافظة على استمرار الثورة.

قبل أسابيع قليلة، خرج الشعب الفلسطيني للشوارع في جموع فلسطين، استجابة لبيان مقتضب صدر عن مجموعة صغيرة من المقاتلين، موجه لمجتمعهم الصغير، تلقفته أمة كاملة، وخرجت في بيان أعظم من كل البيانات التي كتبت من قبل، حيث أبان الشعب في فجر ذلك اليوم، أننا جميعاً بلا استثناء في جوع شديد لقيادة تعرفنا وتحبنا، تقودنا نحو الحرب لندافع عنها بلحمنا الحي، لا أسفين ولا وجلين، مضحين بما نستطيع من أجل الحفاظ عليها، مؤمنين بها، حيث نرى بوجودها فلسطين حرة حقاً، وكأننا نشتم في البارود رائحة برتقال يافا وطعم بحرنا المسلوب، خرجنا جميعاً ملقين بياننا الحقيقي الوحيد، أنه لا ينقصنا سوى من يقود. 

عن التشكيلات المحاربة فطرياً وموت العجائز.

يمتلك الشعب الفلسطيني أكبر عدد من الفصائل بالمقارنة بعدد السكان في العالم تقريباً، حيث يمكن لما يقارب العشرين فلسطينيا الالتقاء في مكان واحد من دون أن يتلاقى منهم اثنان في الانتماء السياسي، تعاني معظم الفصائل الفلسطينية من حالة شيخوخة سياسية وترهل مزمن في الفعل الوطني – وهو طبيعي عندما تصبح قيادتك العليا بهذا العمر – حيث أن البقاء في الصف الأعلى من القيادة بدون انجازات وطنية يتسبب بالضرورة بالتصاق مزمن في المؤخرة وصعوبة بالغة في التقدم. تنضوي غالبية هذه الفصائل تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية والتي أصبحت تعنى بالكثير من الأشياء إلا التحرير -وهو ما يحصل عندما تقوم بالصمت الموافق على اتفاقية سلام مع المحتل بالضرورة- وحيث أن فتحنة السلطة وسلطنة فتح هي امتداد طبيعي لعملية فتحنة المنظمة، فقد أصبحت غالبية الفصائل هذه عبارة عن كيانات تابعة لحركة فتح ومنظومة السلطة بشكل عملي وفي داخل العقل الجمعي الفلسطيني حيث يمكنك سؤال فرد ما عن انتماء الأمين العام لأحد هذه الفصائل -في حينه- فيجيبك بدون تردد أنه فتح -مش ياسر عبد ربه- وهو ما يعني بكل بساطة تحول كل ما هو بجانب فتح الى فتح بشكل لا ارادي في داخل الوجدان الفلسطيني.

إن ارتباط الفصيل بالسلطة يودي بالفصيل نفسه الى تحمل تبعات كل اخفاقات هذه السلطة بشكل تلقائي، وحيث قامت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالذوبان شبه الكلي في منظومة السلطة وتحولت من حالة القتال من أجل اثبات نفسها في الشارع الفلسطيني الى القتال من أجل حصة من مكتسبات ومنافع المنصب السلطوي، فقد كان من الطبيعي انفلات الشعب الفلسطيني عن الفصائل بشكل تدريجي، حيث لا تجد اليوم من بين الشباب الفلسطيني من هو معبأ تنظيمياً بشكل حقيقي إلا نادراً ، حيث يتوارث الغالبية العظمى من الشباب غير النشط سياسياً معتقدات آبائهم التنظيمية بشكل عاطفي وبدون إدراك لأدبيات -أو لا أدبيات- الحزب او الحركة التي يحملون رايتها، وقد زاد من فداحة حالة اللاوعي السياسي هذه توقف عمليات التعبئة الفكرية من قبل الأحزاب تجاه أفراد الشعب حيث لم يعد مهما للحزب عدد أو نوعية المنتسبين له بعد أن ضمن حصته من وزارات الحكومة القادمة.

إن الرابط بين الشعب والسلطة -أي شعب وأي سلطة- مبني بشكل أساس على الدفاع عن حقوق الشعب وحياته، الحفاظ على كرامته، والعمل من أجل مصلحته، وعندما ينتفي أي من هذه الصفات عن السلطة تكون هذه السلطة قد وضعت نفسها في الخندق المقابل للشعب، وأصبحت في حالة من الخطر قد تودي بها لاعتبارها عدوا للشعب، وهو ما يودي بالشعب في النهاية إلى القيام بخلع السلطة من مكانها وانشاء سلطة أخرى، إن كان بشكل من اشكال الديمقراطية الدورية، أو بثورة دموية، حيث يمتليء التاريخ بالكثير من الأمثلة على كل منها. وفي الحالة الفلسطينية، تقوم السلطة منذ ما يزيد على عقد من الزمان -منذ انتهاء الانتفاضة الثانية- بالتنكر لكل من هذه الصفات، وتقوم بشكل واضح ومباشر بالقيام بما كانت تقوم به بالخفاء خلال فترتها الأولى -من أوسلو إلى الانتفاضة- حيث تقوم بحماية العدو والعمل من أجل مصلحته، وتجاهل متطلبات الشعب الفلسطيني الأساسية، واستفزاز ذكاؤه بتصرفات بهلوانية غبية من حين إلى آخر -تركيب حمايات لشبابيك المواطنين في مكان ما على سبيل المثال- في حين تمتلك هذه السلطة القوة اللازمة لقمع الشعب المحتج ضد تصرف ما -أو حتى استقبال أسير محرر- بالحديد والنار، في الوقت نفسه التي تقوم باخلاء الشوارع من منتصف سيادة السلطة في مدينة ما لمجرد اقتحامها بوحدة من ثلاثة جنود في عربة غير مصفحة.

تعاني الفصائل المعارضة لمنظومة السلطة جموداً تنظيمياً عاما في الضفة الغربية، حيث أن التشكيلات القيادية التقليدية الجامدة تعتبر أكثر تأثراً بالملاحقة الحثيثة التي يمارسها العدو وأدواته لقنوات الدعم والتخطيط والإدارة الخاصة بالعمل التنظيمي، وبنفس الوقت فإن القيادة التنظيمية لهذه الفصائل ليست مدركة بالضرورة لإختلاف الظروف الموضوعية في واقع الضفة الغربية عن مجال عملها الرئيس في غزة، وحيث أن عملية استنساخ اليات العمل القائمة في غزة لتطبيقها في الضفة الغربية هي عملية محكومة بالفشل بالضرورة، فإن العمل المقاوم لهذه الفصائل في الضفة الغربية لا يتعدى عملية تبني أعمال شبه فردية بمجهود شخصي من القائمين عليها، حيث ينتمي الأفراد المنفذين لهذه الفصائل بدون وجود دعم حقيقي على أرض الواقع أو شحه في أكثر الحالات تفاؤلاً، وهو ما يجعل من عمل فصائل المقاومة في الضفة الغربية بحقيقته عملاً شعبياً بتخطيط وتنفيذ فردي أو ميداني في أكثر حالاته إتساعاً.

يمارس الطفل الفلسطيني في طفولته المنتشرة في حارات وأزقة وشوارع الضفة الغربية طفولة مبنية بشكل فطري على حالة الحرب، حيث تعتبر لعبة “عرب ويهود” أكثر العاب الشوارع الجماعية انتشارا في فلسطين، وهي لعبة ينقسم فيها الأطفال الى فريقين يخوضان معركة وهمية ببنادق خشبية وحجارة في أزقة الحارات، والتي قد يشارك فيها أطفال من حارات مجاورة لتمتد وتصبح ساحة معركة تشمل كل زقاق وحاكورة في البلدة أو المخيم، يخوض فيها الأطفال تدريبا عمليا على القتال، القيادة، التخطيط والاستراتيجيا العسكرية، التمترس ونصب الكمائن، وحيث تنتشر هذه الالعاب بالعادة في صفوف الأطفال من الأسر الأقل قدرة على توفير اساليب اللعب الحديثة لاطفالها، فإنه من الممكن ملاحظة مدى انخراط هذه المناطق في العمل المقاوم وقدرتها على المناورة والاشتباك، وهو أمر طبيعي.

من أكثر الالعاب التي أثارت اهتمامي في خلال طفولتي في المخيم، هي لعبة كنا ندعوها الخارطة، حيث كانت تشبه اللعبة الاشهر في وقتها “عرب ويهود” مع اضافة بعد استخباراتي لها، حيث كان يجب على كل فريق من الفريقين اختيار موقع يرسم به خارطة للخطة الخاصة به، والتي يجب عليه الالتزام بها من دون أي يستطيع الفريق الاخر اكتشافها والوصول لها، وفي نفس الوقت عليك محاولة الحصول على خارطة العدو عن طريق التغلب عليه واكتشاف واقتحام مقره الموجودة به الخارطة، وحيث كان يوجد لكل فريق قائد يجب عليه ان يقوم بالتعديل على الخطة وتحديد المهام القادمة فكان لا بد من وجود خط اتصال فعلي بين القائد والفريق المقاتل، وهو ما يؤدي لاكتشاف المقر الخاص بالعدو، لكن ما كان أكثر اثارة للإهتمام في جميع هذه الالعاب العسكرية هو مرونة القيادة، حيث تتحول القيادة من حالة الجمود الى حالة السيولة في شوارع المخيم -وأعتقد أنها كذلك في شوارع البلدات القديمة والقرى في الضفة- فعندما كان يضطر القائد لمغادرة الفريق لأي سبب كان -أن تناديه أمه مثلا- كان يحل محله فرد آخر بدون أن يؤدي ذلك إلى اختلال في الية عمل الفريق، فلم يكن تحييد القائد مؤثرا على سير المعركة بالشكل الذي يؤدي للخسارة.

إن واقع الضفة اليوم، يجعل من الواضح بما لا يقبل الشك ضرورة موت القيادات الفصائلية بصورتها الهرمية الجامدة، وهو ما يعني في الواقع الموت الاكلينيكي للفصائل والتنظيمات الفلسطينية وتحولها الى مجرد أفكار عامة واطارات نظرية لا تؤثر على وحدة الجماعة المقاتلة، والخروج من صندوق الفصيل والحركة والتوجه نحو الحالة الفطرية التي يمارسها اطفالنا من القتال، نشاهد اليوم أطفال الأمس اللاهين بالعاب عسكرية، وقد امتشقوا بنادقهم، وخلقوا من اللاشيء اشياءا تضيء قلوب الشعب الفلسطيني كله، رافضين الخضوع للأمر الواقع، متخلين عن رايات فصائلهم، ليخلقوا لنا حلماً من اللا شيء، مختارين لأنفسهم اسماء مشابهة لما كنا نسمي بها جماعات لعبنا في شوارع المخيم، فيصبحون عشا للدبابير حينا، وعريناً للأسود حيناً آخر، يعرف كل منهم الآخر كما يعرف نفسه، يخرجون من لحم الشعب ليحاربوا من أجله، وليجعلوا من أكثر أيام تاريخنا عتمة، نوراً يخطف الأبصار، بتمويل ذاتي، وقيادات سائلة، ومواقع آمنة يدافع عنها بشراسة من قبل الجميع، وتنتقل بانتقال الجميع الى مكان آخر، حيث شب الأطفال سوياً، محاربين كتفاً إلى كتف، استعداداً لهذه المعركة التي تشتعل اليوم في جميع أنحاء الضفة الغربية، بعتاد عسكري اشتراه الفقراء، لحرب يخوضونها سوياً، منذ الأزل.

من جنين الى العرين، الإنفصال المناطقي في الطريق إلى التحرير الكامل

في الفترة اللاحقة لإتفاقية اوسلو بين منظمة التحرير والإحتلال الاسرائيلي، تم تسليم السيطرة الأمنية في جزء من الضفة الغربية والمصنف كمناطق ذات سيادة فلسطينية كاملة أو جزئية بالتدريج لقوات الأمن الفلسطينية المبتكرة حديثا وذلك في عملية من مراحل يطلق عليها اصطلاحا عملية اعادة الانتشار، وهي الخطوة اللاحقة للاتفاق القاضي بكون غزة، آريحا أولاً، وفور تنفيذ اعادة الانتشار، اصطدمت السلطة الحديثة في أراضي الضفة الغربية بوجود المعارضة المكونة بشكل أساسي من عناصر حركتي حماس والجهاد الاسلامي، والتي ترفض جملة وتفصيلا الإتفاقية السلام المذلة الموقعة من قبل المنظمة ممثلة لعموم فصائلها المختلفة، وقد واجهت السلطة هذه المعارضة بالحديد والنار حينا وبالدبلوماسية حينا، وبتوفير المعلومات وتسهيل عملية تحييد المجموعات من قبل العدو أحيانا أخرى، مما أدى إلى تدهور في مقدرات المقاومة ونطاقات عملها، ومع بقاء المقاومة الشعبية كفعل مقاوم غير قابل للإنهاء، حيث لا يستطيع الفلسطيني ألفة الجندي المدجج بالسلاح على أرضه بدون أن يقاوم وجوده كجسم غريب في جسده.

خلال الفترة الممتدة من سنة 1994 الى سنة 2000 قامت هبة شعبية وعسكرية قصيرة الأمد (هبة النفق) وعلى الرغم من تبني المستوى الرسمي لحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة والدفاع عن مقدساته، إلا أن نفس المستوى الرسمي قام باصدار أوامره لضباطه في المناطق التي تشهد عمليات اشتباك مسلح مع قوات العدو، أن تقوم باطلاق النار على كل من يقوم باطلاق النار نحو المناطق المسيطر عليها من قبل العدو، وحصر الاشتباك المسلح فقط في حالة الاقتحام الاسرائيلي للمناطق المسيطر عليها فلسطينياً، وقد تم معاقبة الضباط الرافضين للأوامر هذه بشكل فردي وبدون اثارة أي ضجيج على ذلك.

لقد كان من المستبعد على من شاهد الوضع العام في فلسطين في السنين ما بين 1998 و 2000 من توقع انفجار البلاد في انتفاضة مسلحة خارجة عن أي سيطرة، حيث كان يبدو للمراقب من الخارج أن السلام قد تم، حيث كانت المركبات الفلسطينية تصل الى باب العامود في القدس بدون أن تتوقف على حواجز اسرائيلية في الكثير من الأحيان، أو يتم تفتيشها بشكل روتيني وتافه في أحيان أخرى، وكانت الرحلة من رام الله الى غزة لا تتطلب منك سوى أن تركب في سيارة تمر بك من وسط الاراضي المحتلة عام 1948 الى غزة، بشكل فاق توقعات أكثر دعاة الحل السلمي تفاؤلاً، وفي نفس الوقت، كنا في مدرستنا الابتدائية، نشتبك بشكل شبه يومي مع جنود الاحتلال الذين يخرجون من المعسكر المقابل في احدى ضواحي القدس.

عندما انفجرت الانتفاضة كرد فعل شعبي على الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والتي كان اقتحام رئيس وزراء الاحتلال اريئيل شارون للمسجد الاقصى القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى الانفجار المتسارع في الأحداث، كانت السلطة الفلسطينية تعاني من تدهور في أفق المكتسبات المتوقعة من عملية السلام، وهو ما أدى بقيادتها السياسية إلى محاولة الإستفادة من حالة التوتر الشعبي والغضب للحصول على أكبر مكاسب ممكنة مقابل السيطرة على الشارع مرة أخرى وإعادته لمربع السلام الذي كان يبدو ممكنا قبله، مراهنة على قدرتها على ضبط الأمور عندما يلزم ذلك، وفي المقابل، فقد أدت تصريحات هذه القيادة السياسية، بالاضافة لسيطرة عدد كبير من الضباط المقاتلين في صفوف المنظمة سابقاً على مقاليد الأمور في الميدان، إلى تسارع الإشتعال وخروجه عن السيطرة بشكل غير مسبوق، وقد أدى وجود السلاح الفلسطيني -بسبب وجود قوات الأمن الفلسطينية بشكل أساس- وضعف امكانيات السيطرة على وروده الى البلاد، الى توفر السلاح بشكل مختلف عن المعتاد، وهو ما أدى إلى قيام الكثير من الأفراد المتلهفين للقتال، والمتشبعين بخيال المقاتل الفدائي الذي قاتل الدنيا في بيروت، إلى الإنضمام وتشكيل المجموعات المسلحة المختلفة، والتي بقيت تابعة بشكل سياسي وتنظيمي الى التنظيمات السياسية التي ينتمي لها كل منهم، وكانت تشكل هذه التنظيمات بشكل أو بآخر نوعا من الإطار المرجعي المركزي لكل المجموعات المسلحة المنضوية تحت جناحها. وبذلك ظهر نوع من الهرمية الغير منتظمة في تشكيلات القرارات العسكرية، مع وجود اختلالات احصائية خارجة عن القرارات المركزية وناجمة عن وجود القيادات الميدانية القوية.

لقد شكلت انتفاضة الأقصى والمقاومة المسلحة المشاركة فيها الكثير من العقبات والمشاكل الوجودية للقيادة السياسية والامنية لدى الاحتلال الاسرائيلي، وحيث أدى فشل الصف الأعلى من القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية من فرض الهدوء عندما حاول ذلك مرات متعددة الى تشكل قناعة بانعدام أهلية هذه القيادة للسيطرة على الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث ظهرت طموحات الأفراد الآخرين داخل هذا الصف القيادي للوصول الى قمة الهرم فقد قام الاحتلال باتخاذ القرار الأمني بالقضاء فيزيائيا على المقاومة المسلحة في فلسطين حيثما أمكن، وتحييد دورها حيث لا يمكن القضاء عليها، بالاضافة الى تحجيم والسيطرة على القيادة الغير مؤهلة حسبما يرون في السلطة الفلسطينية، حيث قامت قوات الاحتلال الاسرائيلي بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة ومتوحشة في كل المحافظات الفلسطينية، مسندة بعمليات اغتيال محددة الأهداف للقضاء على القيادات الميدانية للمقاومة، وضرب الحواضن الشعبية لها، وايقاف التدهور السريع في الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث شكلت المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، العقبة الأساسية في وجه الأهداف الاستراتيجية لهذه العمليات، بالاضافة لمراكز المدن الرئيسية، فقد تم ضرب جيوب المقاومة وحواضنها الشعبية خلال هذه العمليات بكل القوة العسكرية الممكنة والتي وصلت الى تسوية مخيم جنين بشكل شبه كلي بالارض.

في الفترة الممتدة بين نهاية العام 2004 والعام 2005، كانت العملية العسكرية الواسعة التي ينفذها جيش الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية المنتشرة في كل مواقع الالتحام قد وصلت الى نهاية العمر الافتراضي القابل للاحتمال من قبله، حيث لم يعد يستطيع الجيش الاسرائيلي مواصلة التعبئة اللازمة لامداد مواقع الاشتباك بالجنود والعتاد اللازم، وهو ما أدى به إلى اتخاذ قرار الانسحاب أحادي الجانب للحد من الخسائر المادية والمعنوية في المناطق الأكثر حرارة، وهو ما أدى به الى اخلاء قطاع غزة بالكامل من المستوطنات، بالاضافة الى ثلاث مستوطنات في منطقة جنين والتي شهدت نشاطا مقاوما مستمرا على الرغم من كل محاولات القضاء على الأعمدة الفقرية للمقاومة فيها وحواضنها الشعبية.

وحيث تزامنت عملية نهاية العمر الافتراضي للحملة العسكرية الواسعة ضد المقاومة الفلسطينية، مع التغير في صف القيادة السياسية الأعلى للسلطة الفلسطينية، وظهور قمة هرم بديلة تقوم بالعمل بشكل علني لتدمير مقدرات المقاومة بدلا عن سابقه والذي كان يحاول اكتساب المكاسب من وجودها، واثباته قدرته على قمع المقاومة المتعبة بعد سنين القتال الطويلة في مواجهة الترسانة العسكرية المتوحشة لجيش الاحتلال، وغياب القيادة الميدانية عن الكثير من المواقع وتدهور قدرات المقاومة فيها، فقد وجدت قوات الاحتلال الفرصة مواتية للقيام بانهاء العمليات بشكل يضمن لها الحد الأدنى من الأمن، فقامت بتوجيه ضربات جراحية لباقي الجيوب المقاومة الصامدة، وترك المجال للقيادة الفلسطينية لتنفيذ خططها وفرض الأمن بطرقها الخاصة، واستغلال عملية الفراغ السياسي المؤقت لفرض معادلات أمر واقع جديدة على الضفة الغربية، والخلاص من خطر قطاع غزة بشكل نهائي.

قامت حركة حماس في عام 2005 بالخطوة الأخطر في تاريخها السياسي حيث قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية التي عقدت في العام التالي، والتي أدت بشكل مفاجيء -وأعتقد أن حركة حماس قد كانت أكثر من تفاجأ- لفوز الحركة بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو ما يضعها في الموقف الذي يجب عليها فيه القيام بدور إداري واضح وتحميلها واجبات محددة لإدارة أمور الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وهو ما يجعل منها في قلب السلطة الموجودة في واقع جيوسياسي يتطلب منها القيام بالتعاون بشكل مباشر مع الاحتلال الاسرائيلي لتوفير المقدرات اللازمة لادارة أمور الحياة الأساسية تحت ظلها من صحة وتعليم وخلافه، وقد أدى عداء الحركة ورفضها للاتفاقيات التي قامت عليها السلطة الفلسطينية الى حصارها ماليا وسياسياً من قبل مؤسسة الرئاسة، حيث وجدت الرئاسة الفلسطينية في نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة فرصة لا تعوض لاغراقها بالواجبات وسحب الرضى الشعبي عنها، وهو ما أدى بحركة حماس لاتخاذ الخطوة التالية وفرض سيطرتها بالقوة على قطاع غزة، والذي أدى الانسحاب الاسرائيلي منه لمنحه أفضلية جيوسياسية عن الضفة الغربية والتي لا يمكن لسلطة ما أن تحكمها بشكل حقيقي من دون الاستسلام الجزئي على الاقل للاحتلال الاسرائيلي (راجع المقال التالي).

وحيث أدى انفصال قطاع غزة السياسي والاداري عن الضفة الغربية الى تعاظم مقدرات المقاومة هناك، وظهور تشكيلات عسكرية شبه نظامية وذات وظائف محددة وواضحة، إلا أنه أدى في ذات الوقت إلى حالة من الإنقطاع السياسي والعسكري لحركات وأحزاب المقاومة عن عناصرها والمنتمين لها في الضفة الغربية، وقد يكون ما زاد من حدة هذا الانفصال هو الحرب الاستخباراتية والأمنية التي تشنها السلطة معاونة الإحتلال على كل قنوات التسليح والتجهيز المساندة للعمل المقاوم، وقيامها بتدمير القيادات السياسية والاستراتيجية باستخدام الإنفصال الغزي كذريعة وتهمة تقوم باستخدامها بمراقبة ومعاقبة الكوادر النشطة في كل من حركات المقاومة الفاعلة في غزة، بالاضافة الى تطبيقها خطة مالية واجتماعية أدت لتقييد الكثير من أفراد الشعب الفلسطيني وارتهان اسباب عيشهم للمؤسسات المصرفية وهو ما حد من حرية الحركة الوطنية بكثير وأودى بالمقاومة في الضفة الغربية إلى التدهور لمستويات أدنى بمراحل من أي مستويات كانت قد وصلتها من قبل.

وأدى التوسع المضطرد للمستوطنات والتجمعات الاستيطانية في أراضي الضفة الغربية إلى انقسام المناطق الفلسطينية بعضها عن بعض، حيث لا يمكنك الانتقال من مدينة لأخرى تقريبا دون المرور تحت السيطرة الإحتلالية المباشرة. بالإضافة لحالة التجاهل شبه الكلي من قبل السلطة الفلسطينية لمحافظات الضفة خارج نطاق قصر الرئاسة (مبنى المقاطعة) ومجمع الوزارات الخاص بها، إلى تنامي الشعور بإنعدام وجود الإدارة المركزية للمناطق الفلسطينية لدى أفراد الشعب، وحيث أدى غياب الفعل الحزبي والإهتمام القيادي من قبل هذه الاحزاب بالضفة الغربية كجزء مهم من المعركة الدائمة، الى فقدان الثقة الشعبية بالاحزاب كمكونات سياسية مقاومة، حيث أصبحت الأحزاب أقرب للأيدولوجيات التي يعتنقها الأفراد بدون أي التزام سياسي أو انطواء تحت هرمية حزبية.

وقد تنامى الشعور بالأمان لدى قطعان المستوطنين في السنين الأخيرة لدرجة سمحت لهم بتشكيل العصابات ومهاجمة المواطنين في المناطق الفلسطينية، وهو ما يدرك كل طفل فلسطيني أنه نتيجة حتمية لإنعدام الفعل المقاوم الذي يضع هذه القطعان في دائرة الاستهداف، ومع تكرار المحاولات الفاشلة لاستنهاض العمل الحزبي في المدن والمحافظات لتحقيق انجازات مقاومة وحماية أمن الحواضن الشعبية من القطعان الاستيطانية الهائجة، فقد وصلت القناعات الفردية لدى ابناء هذا الشعب من الأجيال الجديدة، التي لم تر فترة قوة للأحزاب لتؤمن بها، وإنما عرفت أن المقاومة فقط هي السبيل لتحقيق الأمن الشخصي والعام، وهو ما أدى بالأفراد الاوائل من المقاومين الجدد في مخيم جنين الى بذل الغالي والرخيص في سبيل الحصول على العتاد، وحيث أصبحت الأحزاب مجرد شعارات وخطوط عريضة في رؤوس كل منهم فإننا لا نجد لدى أي منهم مشكلة في التعاون مع جميع الايدولوجيات من اجل الوصول الى هدفه العام ومراكمة المقدرات اللازمة من أجله فنجد افرادا حملت جميع الرايات، وقاتلت تحت جميع الالوية، وهنا يمكننا أن نرى بوضوح أن القتال هو الطريق.

يعاني كل من التجمعات الفلسطينية الموزعة كبقع جرباء على ظهر جمل أبلق من مشاكله الخاصة، والتي تنجم بشكل أو بآخر عن سببين لا ثالث لهما، وهو تغول الاحتلال وقطعانه واعتدائهم المستمر على مقدراته واسباب انتاجه وأمنه اليومي، وتخاذل السلطة وتجاهلها المستمر لأمن الشعب الفلسطيني وعملها المستمر من أجل اجهاض العمل المقاوم، وهو ما أوصل كل من الأفراد المقاومين بشكل فردي أو جماعي إلى النتيجة الحتمية، بكون الخندق المقابل يشترك فيه كل من السلطة الفلسطينية – أو صفها القيادي الأعلى على الأقل- والإحتلال، وأن الطريق الوحيد لتحقيق أمنه وحفظ جماعته هي في تجاوز الخلافات ورص الصفوف، والقتال، القتال الذي يطمح لتحقيق أهداف خاصة بمجتمعه الصغير وحيزه المكاني، مع ضرورة التعاون والدعم -المعنوي على الاقل- للمجموعات المشابهة في المواقع الأخرى، وهنا نرى جيوشا صغيرة تولد، في مناطق مختلفة، مجموعات تعلم أنها تقاتل وحدها في أرضها، لكنها تقاتل مع أفراد مجتمعها القريب، حيث يعرف كل فرد منهم إخوته ورفاقه في القتال، ينزفون معا، ويعملون معاً، وكأنما انفصلت المدن والمخيمات فصارت دولاً مستقلة، متحررة من كل ثقل قيادي خارج عنها، رافضة لقيادة لا تشترك معها بدم، وعاملة من أجل الإستقلال الصغير، وحرية المخيم والبلدة القديمة، كخطوة كبيرة في سبيل التحرير الكامل.

عن فضل القتال خلف خطوط العدو

يمر الشعب الفلسطيني حالياً في فترة مختلفة عن الفترات الماضية في تاريخه النضالي في الكثير من الجوانب، يتصدر المشهد القتالي في الضفة الغربية، شباب أغر، يقوم بخلق مقاومته الجديدة القديمة للوجود الإحتلالي على أرضه السليبة، متجاوزاً حدود الحزبية التي تحولت الى سجن للمقاتل، مترسماً بجميع الوان الطيف السياسي الفلسطيني، رافضا لكل محاولات التسوية والحلول المجزوئة، وذاهبا الى القتال بقلب لا يشغله سوى البلاد.

ولا يغيب عن المشهد محدودية الاهداف المختارة للمقاتلين، حيث يتركز الاشتباك بالعادة في نفس المحاور المعتادة والواضحة، حيث يبدو أن المقاتلين الجدد يعملون على الدوام باتجاه هدفين أساسيين ألا وهما الحفاظ على جمرة المعركة مشتعلة، ومواجهة والدفاع أمام المحاولات الاحتلالية المتكررة للقضاء على الوجود العسكري الفلسطيني، حيث يقوم المقاومون بمهاجمة المعسكرات والحواجز نفسها مرة تلو المرة، والوقوف امام الاقتحامات المتكررة بلحمهم الحي، برصاصهم البسيط وسلاحهم الفردي، وهو على الرغم من انعدام جدواه النظرية أمام الترسانة العسكرية المتطورة لجيش الاحتلال، إلا أن أثره الشعبي والمعنوي، وتسببه بانتشار رقعة القتال في مناطق عديدة في الضفة الغربية، يشكلان خطرا مصيريا على الوجود الاحتلالي، حيث ان انتشار المواجهات المسلحة وعودة عمليات اطلاق النار المتكررة وقتل الجنود والمستوطنين في عموم الضفة الغربية يحتاج لموارد بشرية ومالية هائلة لا يستطيع الكيان الاحتلالي توفيرها بدون أن يتكبد الخسائر الاقتصادية المتراكمة بسببها، حيث ان الإحتلال يعوض عن النقص البشري لديه باستخدام تقنيات الحرب الحديثة والارتكاز على سلاح الجو في الحروب وهو ما لن يكون كاف بشكل خاص عند انتشار المعارك في اراضي وبلدات الضفة الغربية، وهو ما سيؤدي به للقيام بعملية عسكرية خاطفة -حسبما يخطط هو- لانهاء وجود المقاومة في كل اماكن وجودها، وهذه العملية تحتاج منه استدعاء الاحتياط العسكري ونشر الوية المدرعات والمشاة الميكانيكية في الضفة الغربية، لتصبح المعركة معركة صمود المقاومة أمام الاجتياح الشامل او الجزئي لمدن أو تجمعات سكانية بأكملها، حيث لن يتورع العدو عن ايقاع أكبر قدر ممكن من الدمار المادي والبشري في صفوف الحواضن الشعبية للمقاومة.

إن تدمير الحواضن الشعبية للمقاومة، مجازياً أو فعلياً، هو ما قد يؤدي في النهاية لانحسار العمل المقاوم مرة اخرى الى بؤر عصية عن التدمير، وهذه البؤر شئنا أم ابينا محدودة ومعروفة في تاريخنا الفلسطيني، حيث أن إمكانية تحمل الخسائر بدون عائد معنوي محدودة -وهذه طبيعة بشرية- وهو ما نعرفه نحن، ويعرفه عدونا على حد سواء.

يمتلك الاحتلال الاسرائيلي ترسانة عسكرية متطورة، معتمدة بشكل شبه كلي على التقنيات الحديثة في عالم الاسلحة، وهو ما يجعل -بعيدا عن الرمسنة- مواجهة أي اجتياح اسرائيلي شامل باستخدام المقدرات المتواضعة للمقاومة وتوقع الانتصار بالمعركة ضرباً من الجنون، حيث تصبح الهزيمة المادية على الأرض أمرا واقعا، ويصبح الهدف الأساسي للمعركة ايقاع اكبر حجم ممكن من الخسائر البشرية في صفوف العدو قبل أن نموت، ليصبح دمنا مداداً لسطور جديدة من المقاومة، وحيث أن الشعب الفلسطيني أثبت على الدوام لامحدودية قدرته على استيعاب الخسائر المادية والبشرية، فإن أي هزيمة عسكرية تتحول لانتصار معنوي اذا حملت خسائر بشرية موجعة في صفوف العدو.

يعتمد العدو في عقيدته القتالية على سلاح الجو والمدرعات بشكل اساسي، حيث يضمن كل منهما له ايقاع أكبر ضرر ممكن في صفوف الشعب الفلسطيني بدون أن يعرض جنوده للخطر المباشر، وحيث يضمن العدو في الضفة الغربية عدم وجود السلاح اللازم لمواجهة المدرعات والطائرات الحربية والمسيرة، فإن احتمالية استخدام كل منهما في اطار عملية واسعة ضد المقاومة هو أمر متوقع، وحيث أنه ليس من المستبعد أن ينتهج العدو سياسة ايقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف المدنيين كنوع من الردع المعنوي والشعبي للمقاومة وحاضنتها الشعبية، وحيث أن السلاح المناسب لتحييد كل من سلاح المدرعات وسلاح الجو الاسرائيلي مفقود بشكل كلي من الضفة الغربية، فإن عملية ايقاع الخسائر في صفوف العدو ستظل محدودة وغير كافية لتحقيق الانتصار الفعلي على الارض.

ومن هنا يمكننا القول بأن عملية الانتصار مرتبطة بشكل مباشر بعدة عوامل مهمة، حيث يجب على الشعب الفلسطيني الحفاظ على الحالة المقاومة مستمرة على الدوام، وارهاق العدو باستنزاف موارده المادية والبشرية في معارك مستمرة، ومحاولة الحفاظ على الحاضنة الشعبية ومقدراتها وتقليل الخسائر الواقعة في صفوفها قدر الامكان، والعمل على مهاجمة الجبهة الداخلية للعدو ومضاعفة خسائره المادية والمعنوية، والحفاظ على ومراكمة مقدرات المقاومة، وهو ما يمكن تحقيقه في ظل الامكانيات الحالية بطريقة وحيدة -حسبما أرى- وهي نقل المعركة من خطوط التماس الى قلب العدو النابض والقتال خلف خطوط العدو.

إن عملية نقل المعركة إلى داخل التجمعات البشرية للعدو، وعلى الرغم من تعقيدها وصعوبة تحقيقها إلا أنها ممكنة وقابلة للتحقيق -حيث أثبت لنا المقاومون عدة مرات امكانية ذلك- وهو ما يجعل من القتال خلف خطوط العدو هدفاً واقعياً يجب العمل على تحقيقه بشكل جدي وممنهج، وايجاد خطوط امداد وتجهيز خاصة به. وحيث أن المجتمع المحتل يعتبر احد أكثر المجتمعات تسليحاً في العالم، فإن امكانية الحصول على السلاح المتطور في داخل التجمعات الاحتلالية قد يكون أسهل بكثير من الحصول عليه في الضفة الغربية وقنوات التسليح الموجودة بها، بالاضافة لوفرة الاهداف، حيث يتركز العامل البشري للعدو، وهو ما قد يمكن المقاومة من ايقاع خسائر اكبر في صفوف العدو، واطالة امد المعركة.

يمكن لنقل المعركة لداخل التجمعات البشرية للعدو إجراء عملية اخصاء دقيقة لكل من سلاح الجو والمدرعات، حيث يصبح كل منهما خيارا غير قابلا للإستخدام، فإن مشهد الجنود المشاة في وسط تل أبيب يشكل ضربة موجعة للجبهة الداخلية للاحتلال، ناهيك عن مشاهدة دبابات الميركافا أو ناقلات الجنود المدرعة من طرازي نمر وولف في شوارع المدن المحتلة بدلا عن شوارع الضفة الغربية أو على حدود قطاع غزة.

وعلى الرغم من ما ذكرت سابقاً، فإن أفضل فضائل القتال خلف خطوط العدو على الدوام، هو بث الشعور العارم بالعزة والأنفة في الكل الفلسطيني، حيث أننا نراهم يألمون كما نألم، ويعجزون كما نعجز، ويقتلون، وقد يكون مقطع فيديو قصير لا يتجاوز الثلاثين ثانية، للشهيد رعد موجها رصاصه نحو العدو، كاف لإعادة احياء الأمل في صفوف شعب كامل كان قد قارب على اليأس، فلا يمكنني سوى أن أتصور ما الذي ستفعله عاصفة من الرعود، في شعب يحترق شوقا للقتال.

عن السلطة والسيادة في جيوسياسة الأمر الواقع في الضفة الغربية

منذ بداية حلول السلطة الفلسطينية محل الإدارة المدنية لجيش الإحتلال، في إدارة مقدرات الشعب الفلسطيني القاطن في الضفة الغربية وقطاع غزة -لاحقا لتوقيع اتفاقات اوسلو 1 و 2- وهي تقوم بمخاطبة الشعب الفلسطيني بخطاب الدولة الفلسطينية ذات السيادة، والإعلان عن إنجازاتها الوطنية العظيمة -كما يتم التسويق لها- من انشاء المؤسسات والحصول على اعترافات دولية وغيرها من الإنجازات التي لا تقوم بتغيير الوضع السياسي للشعب القابع تحت الإحتلال نحو الأفضل بل وعلى العكس فإن المراقب للتغيرات الحاصلة على أرض الواقع سيلاحظ أن الوضع يتحرك بإنحدار متسارع نحو نقطة اللا عودة، حيث يستمر الوضع السياسي الفلسطيني بالتدهور حتى مرحلة لا يعود فيها من الممكن إجراء أي تقدم باتجاه الحرية والإستقلال.

بناءًا على إتفاقيات اوسلو الموقعة بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والإحتلال الاسرائيلي، تم تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام إدارية مختلفة (أ، ب، ج) حيث تخضع مناطق أ لسيطرة السلطة الفلسطينية الأمنية والمدنية -نظرياً- وتخضع مناطق ب لسيطرة السلطة الفلسطينية مدنياً ولسيطرة الإحتلال أمنياً، بينما تخضع مناطق التصنيف ج للسيطرة المدنية والأمنية الكاملة للإحتلال الاسرائيلي، وحيث أن مناطق التصنيف ج تشكل أكثر من 60% من مجمل أراضي الضفة الغربية، وهي في غالبيتها مناطق ذات كثافة سكانية فلسطينية منخفضة، حيث اعتمدت هذه التقسيمات الإدارية على تركيز السكان الفلسطينيين في المناطق كأساس لتصنيفها، وأبقت المناطق ذات القيمة الإقتصادية والطبيعية العظمى تحت التصنيف ج، حيث تعتبر المناطق ج مناطق غنية بالموارد الطبيعية، ذات قيمة زراعية عالية، أو ذات أهمية استراتيجية وعسكرية عالية.

تتوزع المناطق ذات التصنيفات أ و ب على ما يقارب 200 بقعة يفصل بينها مساحات من الأراضي المصنفة ج، تسيطر المستوطنات الإسرائيلية على ما يقارب 42% من مساحة أرض الضفة الغربية تتركز غالبيتها في مناطق التصنيف ج وبعض مناطق التصنيف ب، يصنف الإحتلال ما يقارب 20% من مساحة الضفة الغربية كمناطق عسكرية مغلقة، يسيطر الإحتلال على طرق الوصل بين التجمعات الفلسطينية بشكل كلي، 70% من مناطق التصنيف ج هي مناطق ممنوعة على الفلسطينيين، ويكاد يكون من المستحيل عليهم البناء والإنشاء في ال 30% الباقية منها، في المقابل يقوم الإحتلال بهدم المباني الفلسطينية في مناطق ج بحجة عدم الترخيص بشكل روتيني حيث أنه قد صدر منذ توقيع اتفاق اوسلو ما يزيد على 14000 أمر هدم بحق مباني ومنشآت فلسطينية في هذه المناطق. بالاضافة إلى ذلك قام الإحتلال بضم مستوطنات القدس الشرقية ومحيط مدينة القدس إلى نطاق صلاحية بلدية القدس وبذلك تصبح هذه المستوطنات خارج آمال أكثر المتفائلين بامكانية الحل السلمي.

إن مفردة السلطة في أكثر تعاريفها المعجمية بساطة تعني السيطرة والتحكم، وفي تعريفها الاصطلاحي هي قدرة الجهة او الشخص على فرض أنماط معينة للتعامل على أفراد آخرين، وبالمقابل تعني السيادة امتلاك الشخص او الجهة الحق في اتخاذ القرارات واتيان الأفعال بشكل مستقل بعيدا عن أي تأثيرات خارجية، ونظرا للتعاريف السابقة، يمكننا أن نرى بكل بساطة أن الوضع الجيوسياسي القائم في الضفة الغربية لا يسمح بأي طريقة كانت امتلاك الجهة الحاكمة لأي سلطة أو سيادة خارج السيطرة الإحتلالية المباشرة، ولكن في الواقع إن هذا الوضع بالتحديد هو ما يجعل أي جهة تحاول السيطرة على مقتضيات الحكم فيه مضطرة -إن لم تكن راغبة- بالتموضع في صف الإحتلال الاسرائيلي كعدو للشعب الفلسطيني.

رجوعا إلى الوضع الجيوسياسي للمنطقة، يمكننا ملاحظة أن سياسات الاستيطان والسيطرة الأمنية على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، وتسارع مستويات الاستيطان، حيث وصل عدد المستوطنون في مستوطنات الضفة الغربية فقط ما يقارب 350 الفا في العام 2018، هي سياسات فرض جغرافيا معينة على المجاميع الفلسطينية الباقية في أرضها بشق الأنفس، حيث تضع هذه السياسات السكان في حالة تجمع في ما يشبه الغيتوهات المفصولة عن بعضها، القابعة تحت مراقبة وسيطرة سلطات الاحتلال المباشرة، وحيث أن هذه الغيتوهات لا تملك الموارد الكافية للإستقلال -كل على حدة أو سويا- عن الإحتلال المسيطر على الموارد الطبيعية جميعا، فإنه ليس من الممكن قيام أي سلطة ذات سيادة في هذا الواقع، وعليه فإن محاولة إقامة أي نظام حكم مركزي هو فكرة لا واقعية في أحسن الحالات، ومتواطئة مع الاحتلال في اسوأها، حيث تحول الشعب الفلسطيني تحت هذه الانظمة إلى مجموعة من الأسرى في سجون متفرقة، حيث تكون منظومة الحكم المحلية في هذه الحالة أشبه بشركات تدير هذه السجون لمصلحتها الخاصة، حيث تتعامل هذه الشركات مع الأسرى -المواطنون في هذه الحالة- كمصادر دخل أو قطعان من الماشية تزداد قيمتها الانتاجية بتزايد أعدادها طالما لم تؤد هذه الزيادات إلى التسبب بمشاكل أمنية أو عمليات هروب من حيز السجن/ الغيتو، ونقل الضرر إلى مناطق المواطنة الطبيعية -المتمثلة بالإحتلال في هذه الحالة- حيث يعتبر السجناء/الشعب الفلسطيني كائنات أدنى مرتبة من البشر القاطنين خارج الأسوار.

في العام 2005 وبعد فشل الإحتلال الاسرائيلي في وقف اطلاق الصواريخ على مستوطنات قطاع غزة في الحملة التي شنها على المقاومة (أيام الغضب) في نهاية العام 2004، اتخذت القيادة السياسية العليا للاحتلال قرارا بالانسحاب من خمس وعشرون مستوطنة من ضمنها اربع مستوطنات في محافظة جنين بالاضافة لمستوطنات قطاع غزة كاملة، وعلى الرغم من كون هذا الانسحاب -فك الارتباط- احادي الجانب قد جاء بقرار احتلالي منفرد، لكنه وبلا شك كان نتيجة لاستمرار المقاومة في كل من قطاع غزة وجنين في تحميل هذا الاحتلال تكاليف باهضة لوجوده في هذه الجغرافيا، وحيث اصبح التشابك المعقد بين الوجود الفلسطيني والإحتلال سببا لتكليف هذا الجسم ما لا يستطيع المحافظة فيه على الأمر الواقع، وهو ما قام بتغيير الجغرافيا -والتاريخ فيما بعد- في كل من غزة المحاصرة، وجنين، حيث نشاهد اليوم بعد ستة عشر عاما من تلك اللحظة، مقاومة فلسطينية قادرة على فرض معادلات ردع، واستهداف العدو في مواقع حساسة، واستطاعت جنين الحفاظ على تموضعها المقاوم على الرغم من كل محاولات الاستلاب والسيطرة من قبل الإحتلال، أو أنصار الحلول السلمية، تاركة لنا كأبناء لهذا الشعب مثالا واضحا عن ما يحصل عندما يضع المقاتلون السلاح، ويتجهون لطاولات التفاوض، حيث يمكن لرأس حكومة ما، أن يوقفه جندي بلا رتبة على طريق رئيس، أو تختنق مدينة ما، بكل ما يمكن من مظاهر السلطة، بينما ينتهكها الجيش الإحتلالي بشكل شبه يومي، وما يمكن أن يحدث لو استطعنا، بمقدراتنا البسيطة فرض تغيير جزئي أو كلي على الواقع المفروض علينا، وأستطعنا بالمقاومة المسلحة -والمسلحة وحدها- الإفلات من فخ جغرافيا الأمر الواقع، متجهين بخطى ثابتة، نحو التحرر والإستقلال، بسيادة كاملة، في كل البلاد.

عن النساء والرجال.

خلال حديث قصير مع أحد الزملاء في العمل، وجهت كلامي إليه -مازحاً- بأننا سنقوم بالاستيلاء على كل أملاك الملاك -أمثاله- وتأميمها ضمن الكومونة التي سوف نقيمها في المستقبل القريب، وما كان منه إلا الرد بعفوية أنه موافق على الإنضمام للكومونة وتأميم الملكيات معنا بشرط أن تكون النساء مؤممة، هذا الرد الذي صدمني -على الرغم من مرور أشباهه كثيرا أمامي- كان دافعي الخفي للكتابة اليوم.

لا أكتب رأيي في العادة في المسألة النسوية، وذلك لأسباب عدة، أهمها كوني -أردت ذلك أم لم أرده- موجوداً في معسكر العدو، وكما أنني أرى انعدام أخلاقية المستوطن القاطن في وسط الكيان الإحتلالي الذي يتحدث في المسائل الخاصة بالشعب المحتل، فإنني أرى انعدام حقي في الحديث عن الموضوع النسوي وأنا رجل. وإنطلاقاً من هذه النقطة، فإنني هنا أود الإشارة إلى أن رأيي هنا يعبر عني فقط، وعن ما أراه حقا، بدون أن يكون له أي معنى سوى ذلك.

يرى الرجال النساء -في الغالب- كممتلكات شخصية، وقد تكون تلك النظرة في الواقع إمتدادا لنظرة المجتمع لهن، وعلى الرغم من اتجاه المجتمع حديثاً لإبداء غير هذه الصورة عنه، لكنها لا زالت متغلغلة في داخل لا وعي الأفراد، وهو الأمر الذي -إذا لم يتغير- سيؤدي لإعادة إنتاج النظرة نفسها بشكل لا نهائي وبطرق مختلفة، وهو ما لن يؤدي سوى إلى انتاج المزيد من أساليب السيطرة والهيمنة على النساء، بطرق أقل وضوحا وأعمق تأثيراً من السابق.

تعاني الحركات النسوية -برأيي- من مشكلة واضحة في نوعية الخطاب الذي تقدمه، والمنهجية التي تطرحها، حيث تتخذ غالبية تلك الحركات صفوفا نيوليبرالية في الخطاب والفلسفة، وتطرح منهجيات صدامية متطرفة تحاول قلب ميزان القوى بشكل عكسي بدلاً من محاولة تصليحه، وهو ما يؤدي الى مقاومة واضحة حتى من أقل الأطراف تطرفاً ورجعية في المعسكر المقابل، حيث أن إعادة تشكيل القمع والإضطهاد لن تؤدي إلا إلى المزيد من التطرف والرجعية، وإن فردانية الطروحات لن يؤدي لبناء المجتمع، بل في الواقع سوف يؤدي إلى زيادة تفسخه وانقسامه.

تتكون المجتمعات بالغالب من نسب متساوية من كلا الجنسين -هكذا تعمل الطبيعة- ويتكون المجتمع من العلاقات المختلفة بين أفراده، هذه العلاقات التي تؤدي بهم لتشكيل كل التشكيلات المختلفة التي يمكن للبشر تشكيلها كجماعات، وتقع العائلة في مركز هذه التشكيلات والأساس المحوري للمجتمع، وترتكز العائلة في الواقع على الإرتباط الجنسي الدائم بين رجل وامرأة – للصدفة فإن هذين المكونين هما مركز حديثنا اليوم- وهو ما يقودنا للحديث عن الجنس والعاطفة، كضرورة لفهم جدلية هذه العلاقة.

تدور العلاقات الإنسانية حول مفهوم السيطرة، حيث تقودها -مهما أردنا إنكار ذلك- رغباتنا الخاصة في السيطرة أو فقدانها في نواح متعددة، وحيث أن أي مجموعة تريد أن تستمر في إتجاهها نحو هدف واضح تحتاج وجود أحد أفرادها في موقع المسؤولية، فإن إختلاف الأشخاص ورغباتهم في السيطرة على الأشياء ربما لا يكون بالسوء الذي يبدو عليه، وعليه فإن العلاقة المثالية بين أي مجموعة من الأفراد هي تلك العلاقة التي تحقق لكل منهم رغباته الخاصة في السيطرة وفقدانها في الجوانب المتعددة، والتي يمتلك فيها القائد القدرة على الحفاظ على الهدف واضحا، والدرب سهلاً.

يدور الجنس حول السيطرة على الجسد والمتعة، على امتلاك القدرة على البعث بالطرف الآخر لمواقع أخرى لم يعرف بوجودها من قبل، قد يتبادل الطرفان السيطرة، قد يحتفظ أحد الأطراف بها، بينما قد يفضل الآخر خسارتها بشكل كلي، كل التوفيقات المختلفة بالموضوع صالحة وقابلة للتطبيق، ولكن المعضلة الأخلاقية التي يمتلكها المجتمع تتأتى من فرض توافقية معينة يكون فيها الرجل مسيطراً -أو العكس في عالم مواز- على كل شيء، بما فيها جسد المرأة، مما يجعل من العملية الجنسية حقاً مضموناً للرجل، والذي يؤدي -كما يؤدي كل ضمان للإمتياز بدون إرتباطه بالعمل- إلى إهمال الرجال لدورهم في هذه العملية، وعدم الإهتمام بشعور شركائهم -والذي يجب أن يكون هو الهدف الأساس منها- وهو ما يجعل عدم قدرة الرجل على إشعار النساء بالمتعة الجنسية هو المحور الرئيسي لغالبية الطرف التي تلقيها النساء عن الجنس.

إن الحب -كعاطفة- هو حالة مطلقة من فقدان السيطرة، فيما قد يبدو رغبة عميقة لدى الإنسان في أن يفقد السيطرة على مشاعره -ولو كان ذلك لفترة مؤقتة- كما لو أنه يستريح قليلاً من محاولته المستمرة في السيطرة على مشاعره طوال حياته، وهذه الاستراحة في وجود شخص آخر يبعث في روحك المتعبة الشعور بالأمان الكافي لك لكي تتوقف عن القلق من فقدانك السيطرة، وأن تستريح، وهنا يمكنني أن أجازف قليلاً وأقول أن الحب هو أن يستريح قلبك.

يمارس المجتمع السيطرة البطرياركية على أفراده بطرق واضحة تارة، ومبهمة أخرى، كلنا هنا بغض النظر كنا رجالاً أو نساء، خاضعون لهذه السيطرة، ضحايا مستمرة لمنظومة تم بناؤها منذ زمان قديم، عندما أصاب بعض الرجال جنون العظمة، وقرروا البدء في السيطرة على الموارد وفي مقدمتها الأرض -حيث أن المجتمعات كانت في تلك الفترة زراعية- وبسيطرتهم تلك على الأرض ظهرت الملكية الفردية، وهو ما أدى الى إعتبار كل وسائل الإنتاج بالتالي موارد قابلة للخصخصة، ويمكنني هنا إعتبار الملكية الفردية هي الأم لكل الشرور اللاحقة، من رق واستعباد، حيث يعتبر البشر مورداً يمكن خصخصته، وبالتالي تمت خصخصة كل شيء، امتلك الرجال الأكثر قوة أو نفوذا السيطرة على موارد أكثر، وأناس أكثر، وحيث أن الملكية الفردية أنبتت مشاكل جديدة مثل توارثها وتناقلها، فإن سيطرة الرجل/ المالك على حركة الملكية أدى لسيطرة الرجال على النساء حيث تم إعتبار النساء وسيلة من وسائل الإنتاج، حيث يمكن عن طريق السيطرة عليها السيطرة على إنتقال الملكية وضمان زيادتها، ويمكننا اعتبار البطرياركية هي المرادف المجتمعي للرأسمالية، حيث يسيطر رأس المال على وسائل الإنتاج ويزايد من رأسماله عن طريق الحصول على فائض القيمة، حيث يسيطر الرجال على النساء -بهدف السيطرة على التكاثر- ويزايدون من قوتهم المجتمعية عن طريق الحصول على أولاد أكثر، وبنات يمكن مبادلتهن أو تقديمهن مقابل نفوذ أو مكانة ناجمة عن النسب والتوارث.

إن السيطرة على الأفراد هي عملية معقدة وبطيئة، وبالتالي فإن عملية السيطرة على أكثر من نصف المجتمع هي عملية فائقة التعقيد، تلتزم من الفئة المسيطرة الحفاظ على الفئة المسيطر عليها في حالة سكون تنظيمي، وسلب الأفق الفكري منها، وتحويلها بطريقة ما إلى خط دفاع متقدم عن متحصلات الفئة المسيطرة، تقوم الطبقة الوسطى بهذا الدور في الرأسمالية، تعتقد الطبقة الوسطى بحريتها، بقدرتها على التقدم والترقي في المناصب لتنضم لصفوف الطبقة البرجوازية، تقوم البرجوازية بإتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للحفاظ على هذا الإعتقاد موجوداً، ومستحيلاً في آن واحد، تقوم بتحديد الأجور والحفاظ عليها بمستويات كافية لخلق طبقات مايكروية داخل الطبقة الوسطى، مع الحفاظ على إنعدام إمكانية هذه الطبقة من التحصل على رأس المال، حيث أن إنتقال الفرد من طبقة إلى طبقة أخرى داخل الطبقة الوسطى يستلزم عليه زيادة النفقات المرافقة لهذا الإنتقال، للحفاظ على المظاهر التي تضمن له الترقي لطبقات أعلى، تسعى البطرياركية لإقناع النساء بأنهن في أفضل حال ممكن، بينما يحافظ النظام على التأكد من أنهن لا يستطعن الإفلات من سيطرته، تحصل النساء على أجور أقل، ويتوقع منهن واجبات إجتماعية أكثر، تقوم البطرياركيات بتقنين كل شيء، بما فيه المشاعر والجنس، تقوم بسن القوانين الإجتماعية، تسيطر على إمكانيات النساء بإتخاذ القرار وتحد منها ما استطاعت، ثم تبيع لهن وهم الحرية، تقوم الأنظمة بتحديد العدد المناسب من النساء في المواقع السياسية بأنظمة “الكوتا” ثم تقوم بتسويق المشاركة السياسية للنساء على أنها حق مضمون من النظام، بينما في الواقع، فإن الحصول على الحقوق بالعمل والترقي في سلم النظام البطرياركي ليس سوى مجرد وهم يحافظ عليه النظام نفسه حياً ومستحيلا في آن واحد.

تشترك البطرياركية والرأسمالية في عملية تسويق ضخمة، تضخ في حياتنا في كل مكان قصصاً كثيرة، يمتليء التلفاز وشبكة الإنترنت فيها، مسلسلات وأفلام ومقاطع “بورنوجرافي”، تخلق مخاوف جديدة، وآمال أكثر لدى كل منا، تعزز من شعورنا الدائم بعدم الإستحقاق، بضرورة العمل بدون توقف من أجل الترقي، بالخوف من الحب، بالشك في أنفسنا والآخرين، بالخيانات والآمال المحطمة، بالأحلام التي يحققها آخرون خلف الشاشات، بالأموال والأملاك، بالرفاهيات، تغرق أفكارنا الواعية واللاواعية، بالكثير من الرعب والأمل، وهي التوليفة التي تستخدمها هذه الأنظمة بنجاعة عالية للحفاظ علينا في حالة من الضبط، حيث يسيطر علينا جميعا باستخدام مخاوفنا وآمالنا، ولكننا يجب في كل الأوقات، أن نقف سوياً، وأن نحارب كوحدة واحدة، من أجل التخلص من كل الظلم في كل مكان في هذه الأرض، أن لا يمتلك شخص منا الآخر، وأن نصبح جميعاً أمة واحدة.

عن الحب، الموت والحياة تحت الإحتلال

يبدو الحديث عن الحب في واقع الشعب الفلسطيني ضربا من الرمسنة الخيالية، حيث يخيم موتنا اليومي على المشهد العام، وحيث أننا لا نملك سوى أن نقضي غالبية أوقاتنا في الركض خلف أبسط مقومات حياتنا، حيث أن الحياة -وهو ما لا تخبرنا عنه الروايات العاطفية- مكلفة في الحقيقة، وحيث أننا نشترك مع الغالبية العظيمة من سكان هذه الكرة، الهائمة في الفضاء الشاسع بكوننا نقبع تحت نير الرأسمال العالمي، وحيث يؤمن الكثيرون -للأسف- بوهم الحرية التي تسوقها الليبرالية، حيث يصبح كل فرد هو المسؤول، وحده، عن كل ما يحصل في حياته من خير أو شر، حيث أنك أنت، ولا أحد غيرك هو المسؤول عن كونك لا تجد ما يكفي لتأكل، وأنت وحدك المسؤول عن تحولك في لحظة ما، هدفا لجندي لم يبلغ العشرين من العمر، أراد أن يشعر بطعم الدم، يصبح كل شيء هنا متشابكاً بطريقة غريبة مع كل شيء آخر، وهكذا تصبح حياتنا الشخصية -عاطفية أو غير عاطفية- أمرا سياسيا بالضرورة.

نولد كفلسطينيين في هذا العالم، إثر تراكم الصدف منذ الاف الأعوام، حيث أنه وبطريقة ما لم تنه حياة أحد من أسلافنا المتعددين إحدى الحروب التي قامت على هذه الأرض، ويكاد يكون الموت في حرب ما قد أصبح جزءا أصيلا في تركيبنا البيولوجي، حيث تصبح كل ولادة جديدة لفلسطيني جديد ما يشبه المعجزة، وعندما يقوم أحدنا باتخاذ القرار -غير الواعي- بالزواج والإنجاب، يدرك في داخله أنه يقوم بنذر سلالته القادمة لدفع الثمن المستمر لبقائه الجمعي في هذه الأرض، ولربما كان من المثير للتعجب -لي على الأقل- استمرارنا في الحياة، وكأننا لا نموت.

الموت هنا صديق للجميع، يسير معنا كل يوم في طرقنا العادية، في الذهاب إلى الوظيفة التي نكره، في الطريق إلى المدرسة أو الجامعة، يزورنا حين يريد، لا يوجد في هذه البلاد وقت طبيعي للموت، قد تحيا لقرن من الزمان، وقد تقتلك رصاصة، أو صاروخ، قبل أن تتعلم المشي.

أذكر أنني منذ بداية حياتي أحاول أن أحيا حياة طبيعية -بمقاييس العالم- ولكن طبيعية الحياة التي نحاول أن نحياها ليست ممكنة في هذا الواقع الذي وجدنا أنفسنا فيه، ولربما كنت أوفر حظاً من كثير من أبناء هذا الشعب حيث أن الحياة التي عشتها حتى اللحظة أقرب للطبيعية من الكثير منهم. ولأن الفلسطيني هو إنسان عادي تماما كما أي شخص آخر في هذا العالم، فمن الطبيعي أن يبحث عن السعادة، الحب، والعلاقات الإجتماعية، من الطبيعي جدا أن يرغب في ممارسة أي متع دنيوية تافهة، وأن يسعى دائما للفرح، يرغب في السفر، في رؤية العالم، في لعب الورق على طاولة في مقهى، أو أن يخرج يوما لينصب خيمة في برية ما، ليراقب السماء ليلا، أو أن يمارس هوايته في صيد الأسماك.

خلال سنتي الاولى في الجامعة، تعرفت على مجموعة من الأصدقاء، قضينا أوقاتنا في الحديث عن السياسة، لعب الورق، مناقشة مسلسلات غبية، أو الذهاب لرحلات قصيرة لمدن مختلفة، قمنا بتناول طعامنا سويا، شربنا الكثير من القهوة والشاي، مشينا لكيلومترات من أجل طبق كنافة، ونمنا جميعا في غرفة لا تتسع لنصفنا في سكن أحدنا بسبب اقتحام الإحتلال للبلدة خلال وجودنا في مقهى، اليوم، بعد مرور أربعة عشر عاما على ذلك، لا يوجد لدي ثلاثة أصدقاء أقضي معهم يومي عندما أشعر بالملل، حيث سرقت بعضهم أمور الحياة، وغاب بعضهم في سجون الإحتلال، وهاجر من بقي على قيد الحياة منهم بحثاً عن خلاص فردي، أو حياة أفضل لأجيالهم القادمة.

أن تسافر، هو أن تقضي ساعات كثيرة على مقاعد الإنتظار في انتظار محقق ما ليستجوب رغباتك في السفر والحياة، وكأنما ليس من المسموح لك أن تخرج، أو كأنما كان وجودك في أي مكان في العالم هو جريمة عظمى، حيث يقاس الأمن الداخلي لهذه الدول التافهة بقدرتهم على منع الوجود الفلسطيني فيها، حيث يصبح الفلسطيني هو الوباء الذي تخشاه هذه الكيانات الهشة، ويصبح السفر بالنسبة له هو الطريق الشاق الذي لا يخوضه إلا مضطرا أو مرغما.

أن تحب -أقصد هنا ذلك الحب الذي ترغب خلاله بالموت بجانب من تحب- هو أن تشعر في داخلك بأنك لم تعد وحيداً بعد اللحظة، ونحن أبناء الوحدة نرغب على الدوام بأن لا نكون وحدنا، لكن أن تحب في هذه البلاد هو أمر شاق ومتعب، لا يكفي أن تشعر بشيء ما لكي تحب، لا يكفي أن تحب هنا، هذا الشعور التلقائي بالإعجاب خطر جداً في هذه البقعة من العالم، الحب هنا غريب ومعقد بغرابة حياتنا اللاطبيعية، ومن المطلوب منك بالضرورة، أن تسيطر على مشاعرك اللا إرادية إن كنت لا تريد أن تفقد قلبك. أن تجد من تستطيع أن تراه، من يمكنك لقاؤه، من يشاركك فلسطينيتك كما تراها، الحب هنا أمر سياسي تماما، كما هي الحياة، وستكون تعيساً يا صديقي لو تركت نفسك على هواها، فقد تقع في حب ما يستحيل عليك اللقاء به، أو يستحيل عليكما الحياة سوياً، أو -وهو الأسوأ- أن يكون من تحب من مؤيدي حركة فتح أو الرئيس أبو مازن.

نحاول على الدوام أن نعيش، يقوم الإحتلال بجعل الحياة الطبيعية غير ممكنة في وجوده، يقطعنا إلى مساحات متفرقة معزولة، يقوم بمنعنا من الحركة، قتلنا، حصرنا في سجون متفرقة، لا يعود للفلسطيني هنا إلا إختيار البقاء والقتال، التنازل والتعود، أو الهرب والبحث عن الخلاص الفردي في مكان آخر. يفقد الفلسطيني المتنازل فلسطينيته مع مرور الزمن، يصبح كائنا مختلفاً -فتحاوياً على الأغلب- يستمرئ المذلة والمهانة، يجري على الدوام ليرضى الإحتلال عنه من أجل أن يحصل على تصريح سياحي لزيارة البحر، ولكي يحافظ على ما يتصدق عليه به مشغله -المتعاون مع الإحتلال- من مال، يحاول فيه أن يحيا به حياة عبد سعيد، وهذا ما لا يشبهنا. يهرب المهاجر من وجه القضية، يبحث عن حرية ما، حرية بدون موت، ويموت هناك في أرض باردة لا تشبهنا، لا تقبله سوى أن يسلخ جلده ليشبهها، أن يفقد ما كان هو، ليحاول أن يصبح ما ليس يكون، أما نحن، الذين لا يطيقون أحد الخيارين، فإننا محكومون بلعنة أبدية، لكي لا نستريح، أن نشتهي الحياة، وأن نهرب منها، مدركين تماما لدورنا النهائي في هذه المعركة الدائرة منذ الأزل، كوقود خلق من أجل يحترق، وراغبين على الدوام بأن ننبت أشجاراً أخرى، على أمل أن لا تحترق.