عن الحزب والثورة.

يعاني الشعب الفلسطيني عامة وفي الضفة الغربية خاصة حالة غير مسبوقة من الفراغ السياسي -على الرغم من أننا نمتلك أكبر نسبة من الأحزاب لعدد الأفراد بين شعوب العالم أجمع-  حيث أدت ممارسات السلطة الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، إضافة الى الترهل السياسي الذي أصاب القيادات الحزبية في الأحزاب الفلسطينية، إلى خلق حالة من فقدان الثقة الشعبية في الأحزاب السياسية وقدرتها على القيادة، والظمأ الشديد لوجود قيادة جديدة قادرة على تلبية طموحات الشعب الفلسطيني وآماله، وقيادته عبر الدرب الصعب نحو التحرر الوطني والحرية. يمتلك الشعب الفلسطيني تلك القدرة العجيبة للمقاومة المستمرة، وذلك على الرغم من كل الظروف المحيطة والتي قد تجعل استمرار الفلسطيني بالمقاومة عملا معجزاً بحد ذاته، إلا أن الفلسطيني لا زال يقاوم بشكل يومي، يدافع بلحمه الحي عن وجوده الجمعي، ويرفض بشكل مستمر كل محاولات تصفيته وتذويبه حد الاختفاء.

يمتزج الجمعي والفردي بشكل واضح في الواقع الفلسطيني، فحيث نشهد مرحلة تتزايد فيها أعمال المقاومة الموجهة نحو الاحتلال الاسرائيلي بشكل مطّرد، إلا أنها لا زالت بشكلها العام أعمالا فردية يقوم بها أفراد متفرقون من المجموع الشعبي، وفي بعض الحالات المبشرة يقوم الأفراد بتشكيل جماعات صغيرة وذلك في محاولة لزيادة أثر العمل المقاوم واقتداء بتجارب مشابهة تحصل بشكل متزامن في مناطق مختلفة داخل الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية، حيث يعلم الفرد الفلسطيني فطرياً أن الأثر الجمعي للفعل يفوق بمقادير مضاعفة أثر الأفعال الفردية لمكونات الجماعة، وهو ما يؤدي بالفاعل الفردي إلى السعي المستمر لتشكيل الفاعل الجماعي على صورة مجموعات مقاتلة تعمل من أجل هدف موحد، وهو في صورته الأبسط عبارة عن الصمود أمام الجيش المحتل، والقتال من أجل الحفاظ على أمن المجتمع الصغير -والذي يمتد ليصبح شعبا أو أمة- الذي تنتمي له المجموعة. 

على الرغم من اشتعال الضفة الحالي بالعمل المقاوم، ونشوة الحرب التي تجتاح هذا الشعب الممتد من ماء إلى ماء، إلا أنه من الأجدر بنا -نحن الذين نستطيع ذلك- أن نحافظ على آمالنا وأحلامنا في حدود واقعية ومنطقية، حيث لا يتوجب علينا تحميل مرحلتنا الحالية أكثر مما تستطيع أن تحتمل، حيث أن الإفراط بالأمل قد يودي بالإنسان إلى اليأس، أو -وهو الأسوأ- إلى الثقة بالنتيجة والركون لحتميتها، وهو ما يعود في الغالب لتحطيم إمكانية قيامه بما يجب من اجل الوصول الى هذه النتيجة نفسها، والغرق في يأس عميق قد يحتاج انتشاله منه الكثير من الجهد المبذول في سبيل إعادته إلى حالته الفاعلة، ودخول العمل في دورة لا نهائية من الأمل واليأس تؤدي بنا الى مراوحة أماكننا سنوناً طوال أكثر مما نحتمل.

يعرف الحزب في معاجم السياسة بالكثير من التعريفات المختلفة، وينقسم الحزب الى الكثير من الأنواع، وحيث أن هذا ليس المكان الأنسب، ولأنني كاتب ملول، فإنني سأختار تعريفا ووصفا بسيطاً للحزب حسبما أراه مناسبا لما أريد، وهنا يمكننا تعريف الحزب بأنه مجموعة من الأفراد ذات منهاج سياسي، ورؤيا مستقبلية، ومنهجية تطبيقية لتحقيق الرؤيا باستخدام المنهاج، وحيث يتكون الحزب من قيادة ذات قدرة على اتخاذ القرار، وأفراد منتمين للحزب، واثقون بقرارات قيادته السياسية، وفي حالة الأحزاب الثورية المقاومة يجب أن يتصف الحزب بتشيكل شبه عسكري، وذلك يتضمن قدرة الصف السياسي الأعلى على فهم المتغيرات الميدانية، وامتلاكها قدرة غير محدودة للمناورة في حدود المعطيات المادية المحيطة لظروف وجود الحزب، بالاضافة الى ضرورة عملها على المتطلبات المجتمعية الخاصة بالمجتمع المدني الذي يشكل حاضنته الشعبية ومخزونه البشري القادر على تزويده بشكل مستمر بالعناصر لاستبدال الخسائر التي لا بد من بذلها في طريق التحرر والثورة. 

يمكن لدبور واحد ابادة مملكة كاملة من النحل، يستطيع الدبور ذلك عن طريق الاقتراب بشكل كاف من حدود الخلية، وانتظار النحلة الغاضبة لتقوم بمهاجمته، حيث يستطيع القضاء عليها بسهولة نسبية، ومن ثم اعادة الكرة بضع مئات من المرات لحين القضاء على المجموع المقاتل للمملكة، وعلى الرغم من امكانية تعرض الدبور لإصابات متعددة خلال هذه العملية لكن النتيجة النهائية تكون باستطاعة الدبور للدخول إلى القفير والتوجه مباشرة نحو الملكة، حيث يؤدي قتلها لتحول مجتمع النحل لحالة فوضوية غير منتجة بسبب غياب القيادة، فيقوم المجموع القادر من النحل بمغادرة القفير وتركه مع النحل المتبقي للدبور الذي يتغذى على النحل المتبقي ويرقاته ومخزونه من العسل قبل أن يقوم بالانتقال لمهاجمة قفير آخر من النحل، لكن يوجد بعض سلالات النحل التي طورت من تقنياتها القتالية لمواجهة الهجوم الشرس للدبور عن طريق توجه مجموعة ضخمة من النحل للدبور، الإحاطة به بمجموع ضخم من الأفراد، والبدء بتحريك أجنحتها بسرعة عالية مما يؤدي لتوليد حرارة كافية لطبخ الدبور حياً في وسط الجماعة. 

تتصف الأعمال المقاومة في حالتها البدائية بصفة الفردية بشكلها العام في ظل غياب قيادة قادرة على توظيف الغضب والقهر الشعبي من وجود الظلم الى مجهود جماعي منظم، حيث يقاوم كل مقهور ومظلوم في هذا العالم الجهة المتسببة بقهره، وحيث يمكننا اعتبار مقاومة الظلم هو جزء أصيل في الطبيعة الإنسانية، إلا أنه في الواقع لا يتعدى أثر الأعمال المقاومة الفردية هنا هجوم نحلة واحدة على دبور شرس، حيث أنها وعلى الرغم من إمكانية توجيه ضربة مؤذية للدبور، لن تستطيع القضاء عليه نهائيا ما لم تتحول لفعل جماعي منظم، حيث يقوم الجمع الثائر بالتضحية بنفسه ليحترق البعض أو الكثير منه، في الطريق للتخلص من القهر والظلم بشكل نهائي، سامحين للبقية الباقية بالحياة بشكل مختلف، بدون وجوده. 

إن الثورة بصورتها المنتجة – أعني تلك المؤدية الى تغيير الواقع- ليست ذلك الغضب الغاشم من وجود الظلم، أو الهبة العاطفية في وجه الإحتلال، والتي -رغم أهميتها- ليست سوى دفاع يائس عن الوجود، وعلى الرغم من قدرة تكرار الهبات العاطفية هذه على اعادة تشكيل الوعي الشعبي بالظلم والحفاظ على جذوة المقاومة مشتعلة، لكن تحويل الجمرة الى جحيم مستعر يتطلب بالضرورة توحيد جهود المجموع الشعبي وافراده الغاضبين، باتجاه الهدف الجمعي المشترك، والمحافظة على إمداد هذه النار بالوقود اللازم لإحراق الظلم حتى يستحيل رمادا تذروه الرياح، وحيث أن الثورة هي ذلك الغضب العاقل، المدرك لمنهاجه ومنهجيته، القادر على بناء المستقبل حسب رؤيته، والقادر على اتخاذ القرارات اللازمة من أجل المحافظة على استمراريته، فإنه من الضروري للشعب الثائر، القيام ببناء الحزب الثوري من أجل المحافظة على استمرار الثورة.

قبل أسابيع قليلة، خرج الشعب الفلسطيني للشوارع في جموع فلسطين، استجابة لبيان مقتضب صدر عن مجموعة صغيرة من المقاتلين، موجه لمجتمعهم الصغير، تلقفته أمة كاملة، وخرجت في بيان أعظم من كل البيانات التي كتبت من قبل، حيث أبان الشعب في فجر ذلك اليوم، أننا جميعاً بلا استثناء في جوع شديد لقيادة تعرفنا وتحبنا، تقودنا نحو الحرب لندافع عنها بلحمنا الحي، لا أسفين ولا وجلين، مضحين بما نستطيع من أجل الحفاظ عليها، مؤمنين بها، حيث نرى بوجودها فلسطين حرة حقاً، وكأننا نشتم في البارود رائحة برتقال يافا وطعم بحرنا المسلوب، خرجنا جميعاً ملقين بياننا الحقيقي الوحيد، أنه لا ينقصنا سوى من يقود.