خلال حديث قصير مع أحد الزملاء في العمل، وجهت كلامي إليه -مازحاً- بأننا سنقوم بالاستيلاء على كل أملاك الملاك -أمثاله- وتأميمها ضمن الكومونة التي سوف نقيمها في المستقبل القريب، وما كان منه إلا الرد بعفوية أنه موافق على الإنضمام للكومونة وتأميم الملكيات معنا بشرط أن تكون النساء مؤممة، هذا الرد الذي صدمني -على الرغم من مرور أشباهه كثيرا أمامي- كان دافعي الخفي للكتابة اليوم.
لا أكتب رأيي في العادة في المسألة النسوية، وذلك لأسباب عدة، أهمها كوني -أردت ذلك أم لم أرده- موجوداً في معسكر العدو، وكما أنني أرى انعدام أخلاقية المستوطن القاطن في وسط الكيان الإحتلالي الذي يتحدث في المسائل الخاصة بالشعب المحتل، فإنني أرى انعدام حقي في الحديث عن الموضوع النسوي وأنا رجل. وإنطلاقاً من هذه النقطة، فإنني هنا أود الإشارة إلى أن رأيي هنا يعبر عني فقط، وعن ما أراه حقا، بدون أن يكون له أي معنى سوى ذلك.
يرى الرجال النساء -في الغالب- كممتلكات شخصية، وقد تكون تلك النظرة في الواقع إمتدادا لنظرة المجتمع لهن، وعلى الرغم من اتجاه المجتمع حديثاً لإبداء غير هذه الصورة عنه، لكنها لا زالت متغلغلة في داخل لا وعي الأفراد، وهو الأمر الذي -إذا لم يتغير- سيؤدي لإعادة إنتاج النظرة نفسها بشكل لا نهائي وبطرق مختلفة، وهو ما لن يؤدي سوى إلى انتاج المزيد من أساليب السيطرة والهيمنة على النساء، بطرق أقل وضوحا وأعمق تأثيراً من السابق.
تعاني الحركات النسوية -برأيي- من مشكلة واضحة في نوعية الخطاب الذي تقدمه، والمنهجية التي تطرحها، حيث تتخذ غالبية تلك الحركات صفوفا نيوليبرالية في الخطاب والفلسفة، وتطرح منهجيات صدامية متطرفة تحاول قلب ميزان القوى بشكل عكسي بدلاً من محاولة تصليحه، وهو ما يؤدي الى مقاومة واضحة حتى من أقل الأطراف تطرفاً ورجعية في المعسكر المقابل، حيث أن إعادة تشكيل القمع والإضطهاد لن تؤدي إلا إلى المزيد من التطرف والرجعية، وإن فردانية الطروحات لن يؤدي لبناء المجتمع، بل في الواقع سوف يؤدي إلى زيادة تفسخه وانقسامه.
تتكون المجتمعات بالغالب من نسب متساوية من كلا الجنسين -هكذا تعمل الطبيعة- ويتكون المجتمع من العلاقات المختلفة بين أفراده، هذه العلاقات التي تؤدي بهم لتشكيل كل التشكيلات المختلفة التي يمكن للبشر تشكيلها كجماعات، وتقع العائلة في مركز هذه التشكيلات والأساس المحوري للمجتمع، وترتكز العائلة في الواقع على الإرتباط الجنسي الدائم بين رجل وامرأة – للصدفة فإن هذين المكونين هما مركز حديثنا اليوم- وهو ما يقودنا للحديث عن الجنس والعاطفة، كضرورة لفهم جدلية هذه العلاقة.
تدور العلاقات الإنسانية حول مفهوم السيطرة، حيث تقودها -مهما أردنا إنكار ذلك- رغباتنا الخاصة في السيطرة أو فقدانها في نواح متعددة، وحيث أن أي مجموعة تريد أن تستمر في إتجاهها نحو هدف واضح تحتاج وجود أحد أفرادها في موقع المسؤولية، فإن إختلاف الأشخاص ورغباتهم في السيطرة على الأشياء ربما لا يكون بالسوء الذي يبدو عليه، وعليه فإن العلاقة المثالية بين أي مجموعة من الأفراد هي تلك العلاقة التي تحقق لكل منهم رغباته الخاصة في السيطرة وفقدانها في الجوانب المتعددة، والتي يمتلك فيها القائد القدرة على الحفاظ على الهدف واضحا، والدرب سهلاً.
يدور الجنس حول السيطرة على الجسد والمتعة، على امتلاك القدرة على البعث بالطرف الآخر لمواقع أخرى لم يعرف بوجودها من قبل، قد يتبادل الطرفان السيطرة، قد يحتفظ أحد الأطراف بها، بينما قد يفضل الآخر خسارتها بشكل كلي، كل التوفيقات المختلفة بالموضوع صالحة وقابلة للتطبيق، ولكن المعضلة الأخلاقية التي يمتلكها المجتمع تتأتى من فرض توافقية معينة يكون فيها الرجل مسيطراً -أو العكس في عالم مواز- على كل شيء، بما فيها جسد المرأة، مما يجعل من العملية الجنسية حقاً مضموناً للرجل، والذي يؤدي -كما يؤدي كل ضمان للإمتياز بدون إرتباطه بالعمل- إلى إهمال الرجال لدورهم في هذه العملية، وعدم الإهتمام بشعور شركائهم -والذي يجب أن يكون هو الهدف الأساس منها- وهو ما يجعل عدم قدرة الرجل على إشعار النساء بالمتعة الجنسية هو المحور الرئيسي لغالبية الطرف التي تلقيها النساء عن الجنس.
إن الحب -كعاطفة- هو حالة مطلقة من فقدان السيطرة، فيما قد يبدو رغبة عميقة لدى الإنسان في أن يفقد السيطرة على مشاعره -ولو كان ذلك لفترة مؤقتة- كما لو أنه يستريح قليلاً من محاولته المستمرة في السيطرة على مشاعره طوال حياته، وهذه الاستراحة في وجود شخص آخر يبعث في روحك المتعبة الشعور بالأمان الكافي لك لكي تتوقف عن القلق من فقدانك السيطرة، وأن تستريح، وهنا يمكنني أن أجازف قليلاً وأقول أن الحب هو أن يستريح قلبك.
يمارس المجتمع السيطرة البطرياركية على أفراده بطرق واضحة تارة، ومبهمة أخرى، كلنا هنا بغض النظر كنا رجالاً أو نساء، خاضعون لهذه السيطرة، ضحايا مستمرة لمنظومة تم بناؤها منذ زمان قديم، عندما أصاب بعض الرجال جنون العظمة، وقرروا البدء في السيطرة على الموارد وفي مقدمتها الأرض -حيث أن المجتمعات كانت في تلك الفترة زراعية- وبسيطرتهم تلك على الأرض ظهرت الملكية الفردية، وهو ما أدى الى إعتبار كل وسائل الإنتاج بالتالي موارد قابلة للخصخصة، ويمكنني هنا إعتبار الملكية الفردية هي الأم لكل الشرور اللاحقة، من رق واستعباد، حيث يعتبر البشر مورداً يمكن خصخصته، وبالتالي تمت خصخصة كل شيء، امتلك الرجال الأكثر قوة أو نفوذا السيطرة على موارد أكثر، وأناس أكثر، وحيث أن الملكية الفردية أنبتت مشاكل جديدة مثل توارثها وتناقلها، فإن سيطرة الرجل/ المالك على حركة الملكية أدى لسيطرة الرجال على النساء حيث تم إعتبار النساء وسيلة من وسائل الإنتاج، حيث يمكن عن طريق السيطرة عليها السيطرة على إنتقال الملكية وضمان زيادتها، ويمكننا اعتبار البطرياركية هي المرادف المجتمعي للرأسمالية، حيث يسيطر رأس المال على وسائل الإنتاج ويزايد من رأسماله عن طريق الحصول على فائض القيمة، حيث يسيطر الرجال على النساء -بهدف السيطرة على التكاثر- ويزايدون من قوتهم المجتمعية عن طريق الحصول على أولاد أكثر، وبنات يمكن مبادلتهن أو تقديمهن مقابل نفوذ أو مكانة ناجمة عن النسب والتوارث.
إن السيطرة على الأفراد هي عملية معقدة وبطيئة، وبالتالي فإن عملية السيطرة على أكثر من نصف المجتمع هي عملية فائقة التعقيد، تلتزم من الفئة المسيطرة الحفاظ على الفئة المسيطر عليها في حالة سكون تنظيمي، وسلب الأفق الفكري منها، وتحويلها بطريقة ما إلى خط دفاع متقدم عن متحصلات الفئة المسيطرة، تقوم الطبقة الوسطى بهذا الدور في الرأسمالية، تعتقد الطبقة الوسطى بحريتها، بقدرتها على التقدم والترقي في المناصب لتنضم لصفوف الطبقة البرجوازية، تقوم البرجوازية بإتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للحفاظ على هذا الإعتقاد موجوداً، ومستحيلاً في آن واحد، تقوم بتحديد الأجور والحفاظ عليها بمستويات كافية لخلق طبقات مايكروية داخل الطبقة الوسطى، مع الحفاظ على إنعدام إمكانية هذه الطبقة من التحصل على رأس المال، حيث أن إنتقال الفرد من طبقة إلى طبقة أخرى داخل الطبقة الوسطى يستلزم عليه زيادة النفقات المرافقة لهذا الإنتقال، للحفاظ على المظاهر التي تضمن له الترقي لطبقات أعلى، تسعى البطرياركية لإقناع النساء بأنهن في أفضل حال ممكن، بينما يحافظ النظام على التأكد من أنهن لا يستطعن الإفلات من سيطرته، تحصل النساء على أجور أقل، ويتوقع منهن واجبات إجتماعية أكثر، تقوم البطرياركيات بتقنين كل شيء، بما فيه المشاعر والجنس، تقوم بسن القوانين الإجتماعية، تسيطر على إمكانيات النساء بإتخاذ القرار وتحد منها ما استطاعت، ثم تبيع لهن وهم الحرية، تقوم الأنظمة بتحديد العدد المناسب من النساء في المواقع السياسية بأنظمة “الكوتا” ثم تقوم بتسويق المشاركة السياسية للنساء على أنها حق مضمون من النظام، بينما في الواقع، فإن الحصول على الحقوق بالعمل والترقي في سلم النظام البطرياركي ليس سوى مجرد وهم يحافظ عليه النظام نفسه حياً ومستحيلا في آن واحد.
تشترك البطرياركية والرأسمالية في عملية تسويق ضخمة، تضخ في حياتنا في كل مكان قصصاً كثيرة، يمتليء التلفاز وشبكة الإنترنت فيها، مسلسلات وأفلام ومقاطع “بورنوجرافي”، تخلق مخاوف جديدة، وآمال أكثر لدى كل منا، تعزز من شعورنا الدائم بعدم الإستحقاق، بضرورة العمل بدون توقف من أجل الترقي، بالخوف من الحب، بالشك في أنفسنا والآخرين، بالخيانات والآمال المحطمة، بالأحلام التي يحققها آخرون خلف الشاشات، بالأموال والأملاك، بالرفاهيات، تغرق أفكارنا الواعية واللاواعية، بالكثير من الرعب والأمل، وهي التوليفة التي تستخدمها هذه الأنظمة بنجاعة عالية للحفاظ علينا في حالة من الضبط، حيث يسيطر علينا جميعا باستخدام مخاوفنا وآمالنا، ولكننا يجب في كل الأوقات، أن نقف سوياً، وأن نحارب كوحدة واحدة، من أجل التخلص من كل الظلم في كل مكان في هذه الأرض، أن لا يمتلك شخص منا الآخر، وأن نصبح جميعاً أمة واحدة.