منذ بداية حلول السلطة الفلسطينية محل الإدارة المدنية لجيش الإحتلال، في إدارة مقدرات الشعب الفلسطيني القاطن في الضفة الغربية وقطاع غزة -لاحقا لتوقيع اتفاقات اوسلو 1 و 2- وهي تقوم بمخاطبة الشعب الفلسطيني بخطاب الدولة الفلسطينية ذات السيادة، والإعلان عن إنجازاتها الوطنية العظيمة -كما يتم التسويق لها- من انشاء المؤسسات والحصول على اعترافات دولية وغيرها من الإنجازات التي لا تقوم بتغيير الوضع السياسي للشعب القابع تحت الإحتلال نحو الأفضل بل وعلى العكس فإن المراقب للتغيرات الحاصلة على أرض الواقع سيلاحظ أن الوضع يتحرك بإنحدار متسارع نحو نقطة اللا عودة، حيث يستمر الوضع السياسي الفلسطيني بالتدهور حتى مرحلة لا يعود فيها من الممكن إجراء أي تقدم باتجاه الحرية والإستقلال.
بناءًا على إتفاقيات اوسلو الموقعة بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والإحتلال الاسرائيلي، تم تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام إدارية مختلفة (أ، ب، ج) حيث تخضع مناطق أ لسيطرة السلطة الفلسطينية الأمنية والمدنية -نظرياً- وتخضع مناطق ب لسيطرة السلطة الفلسطينية مدنياً ولسيطرة الإحتلال أمنياً، بينما تخضع مناطق التصنيف ج للسيطرة المدنية والأمنية الكاملة للإحتلال الاسرائيلي، وحيث أن مناطق التصنيف ج تشكل أكثر من 60% من مجمل أراضي الضفة الغربية، وهي في غالبيتها مناطق ذات كثافة سكانية فلسطينية منخفضة، حيث اعتمدت هذه التقسيمات الإدارية على تركيز السكان الفلسطينيين في المناطق كأساس لتصنيفها، وأبقت المناطق ذات القيمة الإقتصادية والطبيعية العظمى تحت التصنيف ج، حيث تعتبر المناطق ج مناطق غنية بالموارد الطبيعية، ذات قيمة زراعية عالية، أو ذات أهمية استراتيجية وعسكرية عالية.
تتوزع المناطق ذات التصنيفات أ و ب على ما يقارب 200 بقعة يفصل بينها مساحات من الأراضي المصنفة ج، تسيطر المستوطنات الإسرائيلية على ما يقارب 42% من مساحة أرض الضفة الغربية تتركز غالبيتها في مناطق التصنيف ج وبعض مناطق التصنيف ب، يصنف الإحتلال ما يقارب 20% من مساحة الضفة الغربية كمناطق عسكرية مغلقة، يسيطر الإحتلال على طرق الوصل بين التجمعات الفلسطينية بشكل كلي، 70% من مناطق التصنيف ج هي مناطق ممنوعة على الفلسطينيين، ويكاد يكون من المستحيل عليهم البناء والإنشاء في ال 30% الباقية منها، في المقابل يقوم الإحتلال بهدم المباني الفلسطينية في مناطق ج بحجة عدم الترخيص بشكل روتيني حيث أنه قد صدر منذ توقيع اتفاق اوسلو ما يزيد على 14000 أمر هدم بحق مباني ومنشآت فلسطينية في هذه المناطق. بالاضافة إلى ذلك قام الإحتلال بضم مستوطنات القدس الشرقية ومحيط مدينة القدس إلى نطاق صلاحية بلدية القدس وبذلك تصبح هذه المستوطنات خارج آمال أكثر المتفائلين بامكانية الحل السلمي.
إن مفردة السلطة في أكثر تعاريفها المعجمية بساطة تعني السيطرة والتحكم، وفي تعريفها الاصطلاحي هي قدرة الجهة او الشخص على فرض أنماط معينة للتعامل على أفراد آخرين، وبالمقابل تعني السيادة امتلاك الشخص او الجهة الحق في اتخاذ القرارات واتيان الأفعال بشكل مستقل بعيدا عن أي تأثيرات خارجية، ونظرا للتعاريف السابقة، يمكننا أن نرى بكل بساطة أن الوضع الجيوسياسي القائم في الضفة الغربية لا يسمح بأي طريقة كانت امتلاك الجهة الحاكمة لأي سلطة أو سيادة خارج السيطرة الإحتلالية المباشرة، ولكن في الواقع إن هذا الوضع بالتحديد هو ما يجعل أي جهة تحاول السيطرة على مقتضيات الحكم فيه مضطرة -إن لم تكن راغبة- بالتموضع في صف الإحتلال الاسرائيلي كعدو للشعب الفلسطيني.
رجوعا إلى الوضع الجيوسياسي للمنطقة، يمكننا ملاحظة أن سياسات الاستيطان والسيطرة الأمنية على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، وتسارع مستويات الاستيطان، حيث وصل عدد المستوطنون في مستوطنات الضفة الغربية فقط ما يقارب 350 الفا في العام 2018، هي سياسات فرض جغرافيا معينة على المجاميع الفلسطينية الباقية في أرضها بشق الأنفس، حيث تضع هذه السياسات السكان في حالة تجمع في ما يشبه الغيتوهات المفصولة عن بعضها، القابعة تحت مراقبة وسيطرة سلطات الاحتلال المباشرة، وحيث أن هذه الغيتوهات لا تملك الموارد الكافية للإستقلال -كل على حدة أو سويا- عن الإحتلال المسيطر على الموارد الطبيعية جميعا، فإنه ليس من الممكن قيام أي سلطة ذات سيادة في هذا الواقع، وعليه فإن محاولة إقامة أي نظام حكم مركزي هو فكرة لا واقعية في أحسن الحالات، ومتواطئة مع الاحتلال في اسوأها، حيث تحول الشعب الفلسطيني تحت هذه الانظمة إلى مجموعة من الأسرى في سجون متفرقة، حيث تكون منظومة الحكم المحلية في هذه الحالة أشبه بشركات تدير هذه السجون لمصلحتها الخاصة، حيث تتعامل هذه الشركات مع الأسرى -المواطنون في هذه الحالة- كمصادر دخل أو قطعان من الماشية تزداد قيمتها الانتاجية بتزايد أعدادها طالما لم تؤد هذه الزيادات إلى التسبب بمشاكل أمنية أو عمليات هروب من حيز السجن/ الغيتو، ونقل الضرر إلى مناطق المواطنة الطبيعية -المتمثلة بالإحتلال في هذه الحالة- حيث يعتبر السجناء/الشعب الفلسطيني كائنات أدنى مرتبة من البشر القاطنين خارج الأسوار.
في العام 2005 وبعد فشل الإحتلال الاسرائيلي في وقف اطلاق الصواريخ على مستوطنات قطاع غزة في الحملة التي شنها على المقاومة (أيام الغضب) في نهاية العام 2004، اتخذت القيادة السياسية العليا للاحتلال قرارا بالانسحاب من خمس وعشرون مستوطنة من ضمنها اربع مستوطنات في محافظة جنين بالاضافة لمستوطنات قطاع غزة كاملة، وعلى الرغم من كون هذا الانسحاب -فك الارتباط- احادي الجانب قد جاء بقرار احتلالي منفرد، لكنه وبلا شك كان نتيجة لاستمرار المقاومة في كل من قطاع غزة وجنين في تحميل هذا الاحتلال تكاليف باهضة لوجوده في هذه الجغرافيا، وحيث اصبح التشابك المعقد بين الوجود الفلسطيني والإحتلال سببا لتكليف هذا الجسم ما لا يستطيع المحافظة فيه على الأمر الواقع، وهو ما قام بتغيير الجغرافيا -والتاريخ فيما بعد- في كل من غزة المحاصرة، وجنين، حيث نشاهد اليوم بعد ستة عشر عاما من تلك اللحظة، مقاومة فلسطينية قادرة على فرض معادلات ردع، واستهداف العدو في مواقع حساسة، واستطاعت جنين الحفاظ على تموضعها المقاوم على الرغم من كل محاولات الاستلاب والسيطرة من قبل الإحتلال، أو أنصار الحلول السلمية، تاركة لنا كأبناء لهذا الشعب مثالا واضحا عن ما يحصل عندما يضع المقاتلون السلاح، ويتجهون لطاولات التفاوض، حيث يمكن لرأس حكومة ما، أن يوقفه جندي بلا رتبة على طريق رئيس، أو تختنق مدينة ما، بكل ما يمكن من مظاهر السلطة، بينما ينتهكها الجيش الإحتلالي بشكل شبه يومي، وما يمكن أن يحدث لو استطعنا، بمقدراتنا البسيطة فرض تغيير جزئي أو كلي على الواقع المفروض علينا، وأستطعنا بالمقاومة المسلحة -والمسلحة وحدها- الإفلات من فخ جغرافيا الأمر الواقع، متجهين بخطى ثابتة، نحو التحرر والإستقلال، بسيادة كاملة، في كل البلاد.