لا يستطيع الفلسطيني التذكر إن كان قد مر عليه يوم في هذا التاريخ لم يكن محتلاً فيه، حيث أن توالي الإستعمارات المتعددة على هذه البقعة في الأرض كافٍ لمسح أي ذاكرة جمعية عن يوم تكون الحرية فيه تامة، وأصبح الفكر الجمعي يفاضل بين الإحتلالات المختلفة، والتي يتفق على أننا نقع اليوم تحت أسوأ احتلال منها، ونمتلك أسوأ قيادة شعبية في تاريخنا الفلسطيني. وحيث أن الإحتلال والظلم هو أمر راسخ في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، فقد نشأ هذا الإرتباط العاطفي مع كل من يقاوم هذا الظلم ويحاربه، نوع جديد وجميل من الحب.
عندما دخل أفراد منظمة التحرير إلى البلاد، بعد اتفاق اوسلو -سيء السمعة والصيت- خرج الشعب عن بكرة أبيه ليستقبل العائدون، كانوا مقاتليننا الذين رجعوا للبلاد، كنا نحبهم، جميعاً، نحبهم لأنهم قاتلوا، نحبهم لاعتقادنا الشعبي الجامع أنهم سيقاتلون هنا من أجلنا، كما قاتلوا هناك، لم نكن نعلم ما سيحصل، لم يكن مهما ما سيحصل لاحقا، المهم هو انه في تلك اللحظة، عندما كانوا مقاتلين عائدين الى البلاد، كنا نحبهم.
سنة 2000، عند اعلان الجيش الاسرائيلي انسحابه من جنوب لبنان، كل العيون كانت مثبتة في شاشات التلفاز، كان يبث على الهواء مباشرة، نقلاً عن احدى قنوات الاحتلال حيثيات الانسحاب من الجنوب، كنا نشاهدهم يهربون، يفجرون ما لا يستطيعون تفكيكه، يغادرون البلاد، كانت البلاد تشبه بلادنا، كان الجنوب فلسطين، وفلسطين كانت الجنوب، كنا نرى التحرير عبر شاشات العدو، وكنا نحب المقاتل الذي أخرجهم من البلاد.
الحب الذي يحمله الفلسطيني تجاه فعل المقاومة يظهر في كل شيء في حياته، في أغاني أفراحه، في لبسه اليومي، في العاب الأطفال وتصفيفة الشعر، في فترة الإنتفاضة انتشرت موضة البناطيل العسكرية، التي كانت غالبية الشباب -ذكوراً وإناثاً- ترتديها بالاضافة لقميص قطني -تي شيرت- بلون غامق عادة، مما يحاكي في مظهره لبس الغالبية العظمى من المقاتلين في المنطقة، كان المقاتل يسير بيننا، مكشوف الوجه معروف الإسم، ممتشقاً سلاحه، وكنا كلنا نراه كرب يتمشى بيننا، كنا نحبهم لإنهم يطلقون النار، كنا مغرمون بهم، نحاول أن نشبههم في كل شيء، وحين يستشهد أحدهم، كنا كلنا نبكيه، ونسير كلنا في الجنازة، لم يكن يهم من هو هذا الشهيد أو لأي فصيل ينتمي، كان شهيدنا كلنا، وكنا كلنا نحبه، كان نحن في رواية أخرى، لو أننا اكبر قليلاً أو لو أننا استطعنا الحصول على السلاح.
تمت صناعة اول صواريخ فلسطينية في غزة سنة 2001، ظهر وقتها صاروخ قسام واحد، كان صاروخا عبثياً -كما وصفه الكثيرون- لم يكن يجيد السباحة في الهواء، من غير الممكن توقع مكان سقوطه، يصفر بطريقة مضحكة، لكننا أحببناه، أحببنا من صنعه ومن أطلقه، أحببناه أكثر عندما تطور، اصبح يجيد السباحة الآن، كبر صاروخنا الصغير المتعثر، وكبر حبنا له ولكل من ساهم في صنعه وتطويره واطلاقه، لكننا نؤمن حتى اللحظة، أنه ينطلق نحو هدفه بفعل الحب الذي نحبه له، لم نتفق مع أفراد حركة حماس كثيرا في الواقع، كان زملائي المنتمين لها يتهموننا بالكفر والالحاد، وكنا نتهمهم بالتطرف والتزمت، لكن في النهاية كنا فلسطينيون، كنت احتمي في بيوتهم ويحتمون في بيوتنا، كل البيوت كانت بيتي، وبيتنا بيت للجميع، لأننا نحبهم ويحبوننا عندما نقاوم. 2005، خرج العدو من غزة، كنا نشاهد، 8 ايام من الرحيل المستمر للمستوطنين، انهم يهربون، يهربون حقاً، وفي نهاية الانسحاب كل القلوب كانت تدق مع مشاهد الاحتفالات في المستوطنات المحررة. التحرير يقترب أكثر هذه المرة، ونحن نحب المقاومة ونعشق غزة.
نعم، لقد غمرنا الحب في كل مرة كنا نرى أو نسمع عن استهداف للإحتلال، دبابات الميركافا المدمرة في جنوب لبنان، محاصرتهم في الشجاعية، صواريخنا تضرب حيفا، أو تل أبيب، استهداف ساعر خمسة، عمليات تبادل الأسرى، خطف الجنود، كل قذيفة هاون تدك الغلاف، في كل مرة كنا نقع في الحب، حب ليس يشبه أي حب آخر، حب عميق بين الفلسطيني، والنار، النار التي تحرق الأعداء كما احترقنا بها منذ ما يزيد عن المئة عام.
يتهمنا الكثير بالإنعزالية، يقولون لنا بأن الدم الفلسطيني ليس أثمن من باقي الدماء، أتفق معهم، ليس دمنا مميزاً عن دمكم، لكن لولا أن دمنا يسفك منذ مئة عام واكثر، لما سفك دمكم، الإحتلال هو السبب الرئيسي لكل ما يحدث في المنطقة، وفي حالتنا الفلسطينية، إننا نحارب من أجلكم جميعا، في الوقت الذي تحاربوننا وتحاربون أنفسكم فيه، ولهذا فإننا بكل بساطة، سنحب كل من يوجه السلاح الى العدو الحقيقي، الى الإحتلال، الإمبريالية، والرأسمالية العالمية، حيث أن كلها في المحصلة شيء واحد، هل يجب أن أتفق مع كل شيء يفعله المقاوم، لا ليس بالضرورة، في الواقع ولو استثنينا الاحتلال من الصورة، قد امتلك أسبابا لرفع السلاح ومواجهة حليف اليوم أكثر من الأسباب التي تجعلني أحبه، لكنني لا أستطيع استثناء الإحتلال من هذه الصورة، وبوجود الإحتلال، لا يوجد أي شيء في الكون يستطيع تفريقي عن من يقاومه، كائناً من كان، ولو كان الشيطان شخصياً، وعندما ينتهي، قد يختفي الحب، قد نعيد التخندق، وقد لا يكون أي شيء من هذا مهما في ذلك الوقت.
بكل بساطة الكون، لا يمكنك أن تكون فلسطينيا بدون أن يقفز قلبك من مكانه كطفل مع كل خبر عن كل عملية إستهداف لهذا الإحتلال، وبكل بساطة جدتي عندما تقول: “الله يحميهم ويعمي عنهم” وهي بكل سعادة الكون. جدتي هي الفلسطيني بحالته الطبيعية، بكل الحب الفطري لكل من يقاوم. الحب العابر لكل الايدولوجيات، كل العقائد والطوائف، كل السياسات والأحزاب، المتجاوز لكل الخلافات، الحب بصورته المجردة، ما بين مظلوم منذ الأزل، ومدافع عنه، بدون تحديد ولا تعريف، كل من قاوم، في كل موقف، في كل مكان، تحببه جداتنا، ونحن نحب من يحببن.