تقوم الحكومات في العالم -بالعادة- بإدارة مصالح وتوفير المتطلبات الأساسية -على الأقل- للأفراد الذين يتبعون لها إدارياً وإجتماعياً، وهذا الأمر يتطلب من الحكومات توفير خدمات معينة بشكل منهجي مثل الصحة، التعليم، حل الخلافات الداخلية بين مكونات المجتمع، السيطرة على الجريمة، وغيرها الكثير، وهذا ما يتطلب من الحكومة القدرة على توفير الموازنات اللازمة، انتاج أو استجلاب المواد الرئيسية المرتبطة بكل هذه الخدمات، وهو ما يتطلب نوع من السيطرة على الحدود وعلاقات دبلوماسية جيدة -نسبياً- مع الدولة/الدول التي تتشارك معها هذه الحدود، أو امتلاك ممر مائي حر يتصل بالمياه الإقليمية.
تحتاج الحركات المقاومة -على أقل تقدير- إلى الية لتوفير السلاح، حلفاء استراتيجيين، وامكانية تأمين الإمدادات اللوجستية اللازمة لاستمرارية عناصرها بالعمل المسلح ضد العدو، يتعقد الأمر أكثر عندما تكون هذه الحركة المقاومة تقوم بدور الحكومة أيضاً، حيث تضاف إلى احتياجاتها كحركة مقاومة، إحتياجات الحكومة -المشار إليها أعلاه- وذلك لقيامها بدور إدارة مصالح المجتمع في نفس الوقت الذي يجب عليها القيام بدورها المقاوم في مواجهة العدو.
في حالة السلطة الفلسطينية القائمة حالياً، فإن بناء المنظومة العامة لهذه السلطة يتطلب منها -للقيام بالحد الأدنى من واجباتها تجاه السكان- الحفاظ على علاقة جيدة مع حكومة الاحتلال وذلك انطلاقا من سيطرة الاحتلال التامة على المعابر والحدود، الموانيء البحرية والجوية، حركة الاستيراد والتصدير، والمياه الإقليمية. وحيث أن العلاقة الجيدة مع الإحتلال تتناقض بشكل جذري مع صفة المقاومة، فقدت السلطة -أو حركة المقاومة المرتبطة بها- صفتها الاساسية كحركة مقاومة. وأدى التعاون مع العدو -الكائن بالاحتلال- إلى اكتسابها تلقائيا صفة العمالة -حيث يتم تعريف العمالة بأنها التعاون مع العدو لتحقيق مصالح مشتركة- وهو ما تفعله هذه السلطة علنا وبلا خجل ولا استحياء.
تتصف المناطق التي تسيطر عليها -وهميا- السلطة الفلسطينية بكونها أشبه ببقع على فراء كلب دلماسي(أنظر الصورة أدناه)، بالمقابل يتمتع قطاع غزة بسيطرة تامة على الأرض، ووجود حدود مباشرة-على الرغم من السيطرة عليها من جهات أخرى- مما يمنحه أفضلية من ناحية امكانية حفاظ الجسم الإداري فيه على النهج المقاوم وإدارة مقدرات السكان وإحتياجاتهم، وهو ما يجعله يستطيع الصمود على الرغم من الحصار المفروض عليه. وفي الجهة المقابلة فإن جغرافيا السلطة في الضفة الغربية تمنعها حتى من التواصل بين البقع المتفرقة والمنفصلة منها بدون رضا الإحتلال عن هذا التواصل، مما يجعل من الضرورة الوجودية لأي حكومة تقوم بالسيطرة على المفاصل الإدارية لهذه البقع القيام بالتعاون المشترك مع الجسم الوحيد الذي يمتلك القدرة على قطع مصادرها الى حد الاختناق وهو الاحتلال، وعليه فإن من المستحيل قيام حكومة مقاومة في هذه الجغرافيا، وإن محاولة الوصول إلى مقاليد الحكم في هذه السلطة هو بمثابة انتحار سياسي للجهة التي تقوم به.
ونظرا إلى واقع وطبيعة دويلة بقع الكلاب الدلماسية الخصية(لمعلومات اكثر عن الكلب الدلماسي انظر الصورة أدناه)، فإن الرضا عن ممارسات هذه الدويلة من قبل الإحتلال هو الأساس الوحيد لاستمرارها بالبقاء، وعليه فإن قيام هذه الدويلة بقمع وملاحقة كل فعل مقاوم، ومحاولة هدم الوعي الشعبي الرافض للوجود الاحتلالي، وتمييع اللغة العامة -حيث أن الانسان لا يستطيع التفكير بما لا تستطيع لغته التعبير عنه- هي ممارسات طبيعية ومتوقعة منها، بل ومن المتوقع من أي جهة كانت -مهما كانت وطنية- في حالة وقوعها في فخ القبول بالإدارة السياسية لهذه الدويلة، أن ترضخ لهذه المحددات وأن تتحول -مع الوقت- إلى كيان سياسي خصي راضخ تحت أقدام المنظومة الإحتلالية.
وقد يكون -برأيي الشخصي- ما حدث في 2007 من سيطرة عسكرية لحركة حماس في قطاع غزة، وانتزاعها -بالقوة- لجميع مقاليد الحكم والسيطرة على الواقع والجغرافيا هناك، هو المهرب الوحيد من المأزق الذي أودى بها فيه نجاحها الكاسح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني 2006، حيث آثرت الانفصال عن الجسم الكلي للوطن، وهو ما لم يكن من الممكن تنفيذه بدون إنسحاب الإحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، والذي وفر جغرافيا جديدة قابلة للتعامل معها كحركة مقاومة، على العكس من وضع الضفة المتردي بإطّراد، والذي سيستمر بالتردي طالما استمر وجود هذه المنظومة في هذه الجغرافيا.
وعليه وكتلخيص لما سبق، أعتقد جازماً باستحالة قيام كيان حكومي مقاوم قادر على الاستمرار في الجغرافيا الموجودة حالياً، حيث لا يمكن لهذه الحكومة تأمين ضرورات الحياة لأفراد المجتمع، ولا تأمين السلاح اللازم لمقاومة وفرض سيطرة دائمة على جغرافيا بديلة منتزعة من أيدي الإحتلال الممتدة في كل زوايا الوطن، وليس من الممكن تأسيس قوة منظمة فاعلة ضد الإحتلال في وجود هذه المنظومة التي تعمل على الدوام لملاحقة وانهاء كل من يفكر بمقاومة هذا الاحتلال، وعليه علينا -مع الأسف- العودة الى الوراء والتخلي عن وهم الحكم الذاتي في الضفة الغربية، والعودة الى جغرافيا الاشتباك الشامل، حيث يتواجد الشعب الفلسطيني في كل زوايا البلاد.