في الفترة اللاحقة لإتفاقية اوسلو بين منظمة التحرير والإحتلال الاسرائيلي، تم تسليم السيطرة الأمنية في جزء من الضفة الغربية والمصنف كمناطق ذات سيادة فلسطينية كاملة أو جزئية بالتدريج لقوات الأمن الفلسطينية المبتكرة حديثا وذلك في عملية من مراحل يطلق عليها اصطلاحا عملية اعادة الانتشار، وهي الخطوة اللاحقة للاتفاق القاضي بكون غزة، آريحا أولاً، وفور تنفيذ اعادة الانتشار، اصطدمت السلطة الحديثة في أراضي الضفة الغربية بوجود المعارضة المكونة بشكل أساسي من عناصر حركتي حماس والجهاد الاسلامي، والتي ترفض جملة وتفصيلا الإتفاقية السلام المذلة الموقعة من قبل المنظمة ممثلة لعموم فصائلها المختلفة، وقد واجهت السلطة هذه المعارضة بالحديد والنار حينا وبالدبلوماسية حينا، وبتوفير المعلومات وتسهيل عملية تحييد المجموعات من قبل العدو أحيانا أخرى، مما أدى إلى تدهور في مقدرات المقاومة ونطاقات عملها، ومع بقاء المقاومة الشعبية كفعل مقاوم غير قابل للإنهاء، حيث لا يستطيع الفلسطيني ألفة الجندي المدجج بالسلاح على أرضه بدون أن يقاوم وجوده كجسم غريب في جسده.
خلال الفترة الممتدة من سنة 1994 الى سنة 2000 قامت هبة شعبية وعسكرية قصيرة الأمد (هبة النفق) وعلى الرغم من تبني المستوى الرسمي لحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة والدفاع عن مقدساته، إلا أن نفس المستوى الرسمي قام باصدار أوامره لضباطه في المناطق التي تشهد عمليات اشتباك مسلح مع قوات العدو، أن تقوم باطلاق النار على كل من يقوم باطلاق النار نحو المناطق المسيطر عليها من قبل العدو، وحصر الاشتباك المسلح فقط في حالة الاقتحام الاسرائيلي للمناطق المسيطر عليها فلسطينياً، وقد تم معاقبة الضباط الرافضين للأوامر هذه بشكل فردي وبدون اثارة أي ضجيج على ذلك.
لقد كان من المستبعد على من شاهد الوضع العام في فلسطين في السنين ما بين 1998 و 2000 من توقع انفجار البلاد في انتفاضة مسلحة خارجة عن أي سيطرة، حيث كان يبدو للمراقب من الخارج أن السلام قد تم، حيث كانت المركبات الفلسطينية تصل الى باب العامود في القدس بدون أن تتوقف على حواجز اسرائيلية في الكثير من الأحيان، أو يتم تفتيشها بشكل روتيني وتافه في أحيان أخرى، وكانت الرحلة من رام الله الى غزة لا تتطلب منك سوى أن تركب في سيارة تمر بك من وسط الاراضي المحتلة عام 1948 الى غزة، بشكل فاق توقعات أكثر دعاة الحل السلمي تفاؤلاً، وفي نفس الوقت، كنا في مدرستنا الابتدائية، نشتبك بشكل شبه يومي مع جنود الاحتلال الذين يخرجون من المعسكر المقابل في احدى ضواحي القدس.
عندما انفجرت الانتفاضة كرد فعل شعبي على الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والتي كان اقتحام رئيس وزراء الاحتلال اريئيل شارون للمسجد الاقصى القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى الانفجار المتسارع في الأحداث، كانت السلطة الفلسطينية تعاني من تدهور في أفق المكتسبات المتوقعة من عملية السلام، وهو ما أدى بقيادتها السياسية إلى محاولة الإستفادة من حالة التوتر الشعبي والغضب للحصول على أكبر مكاسب ممكنة مقابل السيطرة على الشارع مرة أخرى وإعادته لمربع السلام الذي كان يبدو ممكنا قبله، مراهنة على قدرتها على ضبط الأمور عندما يلزم ذلك، وفي المقابل، فقد أدت تصريحات هذه القيادة السياسية، بالاضافة لسيطرة عدد كبير من الضباط المقاتلين في صفوف المنظمة سابقاً على مقاليد الأمور في الميدان، إلى تسارع الإشتعال وخروجه عن السيطرة بشكل غير مسبوق، وقد أدى وجود السلاح الفلسطيني -بسبب وجود قوات الأمن الفلسطينية بشكل أساس- وضعف امكانيات السيطرة على وروده الى البلاد، الى توفر السلاح بشكل مختلف عن المعتاد، وهو ما أدى إلى قيام الكثير من الأفراد المتلهفين للقتال، والمتشبعين بخيال المقاتل الفدائي الذي قاتل الدنيا في بيروت، إلى الإنضمام وتشكيل المجموعات المسلحة المختلفة، والتي بقيت تابعة بشكل سياسي وتنظيمي الى التنظيمات السياسية التي ينتمي لها كل منهم، وكانت تشكل هذه التنظيمات بشكل أو بآخر نوعا من الإطار المرجعي المركزي لكل المجموعات المسلحة المنضوية تحت جناحها. وبذلك ظهر نوع من الهرمية الغير منتظمة في تشكيلات القرارات العسكرية، مع وجود اختلالات احصائية خارجة عن القرارات المركزية وناجمة عن وجود القيادات الميدانية القوية.
لقد شكلت انتفاضة الأقصى والمقاومة المسلحة المشاركة فيها الكثير من العقبات والمشاكل الوجودية للقيادة السياسية والامنية لدى الاحتلال الاسرائيلي، وحيث أدى فشل الصف الأعلى من القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية من فرض الهدوء عندما حاول ذلك مرات متعددة الى تشكل قناعة بانعدام أهلية هذه القيادة للسيطرة على الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث ظهرت طموحات الأفراد الآخرين داخل هذا الصف القيادي للوصول الى قمة الهرم فقد قام الاحتلال باتخاذ القرار الأمني بالقضاء فيزيائيا على المقاومة المسلحة في فلسطين حيثما أمكن، وتحييد دورها حيث لا يمكن القضاء عليها، بالاضافة الى تحجيم والسيطرة على القيادة الغير مؤهلة حسبما يرون في السلطة الفلسطينية، حيث قامت قوات الاحتلال الاسرائيلي بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة ومتوحشة في كل المحافظات الفلسطينية، مسندة بعمليات اغتيال محددة الأهداف للقضاء على القيادات الميدانية للمقاومة، وضرب الحواضن الشعبية لها، وايقاف التدهور السريع في الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث شكلت المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، العقبة الأساسية في وجه الأهداف الاستراتيجية لهذه العمليات، بالاضافة لمراكز المدن الرئيسية، فقد تم ضرب جيوب المقاومة وحواضنها الشعبية خلال هذه العمليات بكل القوة العسكرية الممكنة والتي وصلت الى تسوية مخيم جنين بشكل شبه كلي بالارض.
في الفترة الممتدة بين نهاية العام 2004 والعام 2005، كانت العملية العسكرية الواسعة التي ينفذها جيش الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية المنتشرة في كل مواقع الالتحام قد وصلت الى نهاية العمر الافتراضي القابل للاحتمال من قبله، حيث لم يعد يستطيع الجيش الاسرائيلي مواصلة التعبئة اللازمة لامداد مواقع الاشتباك بالجنود والعتاد اللازم، وهو ما أدى به إلى اتخاذ قرار الانسحاب أحادي الجانب للحد من الخسائر المادية والمعنوية في المناطق الأكثر حرارة، وهو ما أدى به الى اخلاء قطاع غزة بالكامل من المستوطنات، بالاضافة الى ثلاث مستوطنات في منطقة جنين والتي شهدت نشاطا مقاوما مستمرا على الرغم من كل محاولات القضاء على الأعمدة الفقرية للمقاومة فيها وحواضنها الشعبية.
وحيث تزامنت عملية نهاية العمر الافتراضي للحملة العسكرية الواسعة ضد المقاومة الفلسطينية، مع التغير في صف القيادة السياسية الأعلى للسلطة الفلسطينية، وظهور قمة هرم بديلة تقوم بالعمل بشكل علني لتدمير مقدرات المقاومة بدلا عن سابقه والذي كان يحاول اكتساب المكاسب من وجودها، واثباته قدرته على قمع المقاومة المتعبة بعد سنين القتال الطويلة في مواجهة الترسانة العسكرية المتوحشة لجيش الاحتلال، وغياب القيادة الميدانية عن الكثير من المواقع وتدهور قدرات المقاومة فيها، فقد وجدت قوات الاحتلال الفرصة مواتية للقيام بانهاء العمليات بشكل يضمن لها الحد الأدنى من الأمن، فقامت بتوجيه ضربات جراحية لباقي الجيوب المقاومة الصامدة، وترك المجال للقيادة الفلسطينية لتنفيذ خططها وفرض الأمن بطرقها الخاصة، واستغلال عملية الفراغ السياسي المؤقت لفرض معادلات أمر واقع جديدة على الضفة الغربية، والخلاص من خطر قطاع غزة بشكل نهائي.
قامت حركة حماس في عام 2005 بالخطوة الأخطر في تاريخها السياسي حيث قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية التي عقدت في العام التالي، والتي أدت بشكل مفاجيء -وأعتقد أن حركة حماس قد كانت أكثر من تفاجأ- لفوز الحركة بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو ما يضعها في الموقف الذي يجب عليها فيه القيام بدور إداري واضح وتحميلها واجبات محددة لإدارة أمور الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وهو ما يجعل منها في قلب السلطة الموجودة في واقع جيوسياسي يتطلب منها القيام بالتعاون بشكل مباشر مع الاحتلال الاسرائيلي لتوفير المقدرات اللازمة لادارة أمور الحياة الأساسية تحت ظلها من صحة وتعليم وخلافه، وقد أدى عداء الحركة ورفضها للاتفاقيات التي قامت عليها السلطة الفلسطينية الى حصارها ماليا وسياسياً من قبل مؤسسة الرئاسة، حيث وجدت الرئاسة الفلسطينية في نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة فرصة لا تعوض لاغراقها بالواجبات وسحب الرضى الشعبي عنها، وهو ما أدى بحركة حماس لاتخاذ الخطوة التالية وفرض سيطرتها بالقوة على قطاع غزة، والذي أدى الانسحاب الاسرائيلي منه لمنحه أفضلية جيوسياسية عن الضفة الغربية والتي لا يمكن لسلطة ما أن تحكمها بشكل حقيقي من دون الاستسلام الجزئي على الاقل للاحتلال الاسرائيلي (راجع المقال التالي).
وحيث أدى انفصال قطاع غزة السياسي والاداري عن الضفة الغربية الى تعاظم مقدرات المقاومة هناك، وظهور تشكيلات عسكرية شبه نظامية وذات وظائف محددة وواضحة، إلا أنه أدى في ذات الوقت إلى حالة من الإنقطاع السياسي والعسكري لحركات وأحزاب المقاومة عن عناصرها والمنتمين لها في الضفة الغربية، وقد يكون ما زاد من حدة هذا الانفصال هو الحرب الاستخباراتية والأمنية التي تشنها السلطة معاونة الإحتلال على كل قنوات التسليح والتجهيز المساندة للعمل المقاوم، وقيامها بتدمير القيادات السياسية والاستراتيجية باستخدام الإنفصال الغزي كذريعة وتهمة تقوم باستخدامها بمراقبة ومعاقبة الكوادر النشطة في كل من حركات المقاومة الفاعلة في غزة، بالاضافة الى تطبيقها خطة مالية واجتماعية أدت لتقييد الكثير من أفراد الشعب الفلسطيني وارتهان اسباب عيشهم للمؤسسات المصرفية وهو ما حد من حرية الحركة الوطنية بكثير وأودى بالمقاومة في الضفة الغربية إلى التدهور لمستويات أدنى بمراحل من أي مستويات كانت قد وصلتها من قبل.
وأدى التوسع المضطرد للمستوطنات والتجمعات الاستيطانية في أراضي الضفة الغربية إلى انقسام المناطق الفلسطينية بعضها عن بعض، حيث لا يمكنك الانتقال من مدينة لأخرى تقريبا دون المرور تحت السيطرة الإحتلالية المباشرة. بالإضافة لحالة التجاهل شبه الكلي من قبل السلطة الفلسطينية لمحافظات الضفة خارج نطاق قصر الرئاسة (مبنى المقاطعة) ومجمع الوزارات الخاص بها، إلى تنامي الشعور بإنعدام وجود الإدارة المركزية للمناطق الفلسطينية لدى أفراد الشعب، وحيث أدى غياب الفعل الحزبي والإهتمام القيادي من قبل هذه الاحزاب بالضفة الغربية كجزء مهم من المعركة الدائمة، الى فقدان الثقة الشعبية بالاحزاب كمكونات سياسية مقاومة، حيث أصبحت الأحزاب أقرب للأيدولوجيات التي يعتنقها الأفراد بدون أي التزام سياسي أو انطواء تحت هرمية حزبية.
وقد تنامى الشعور بالأمان لدى قطعان المستوطنين في السنين الأخيرة لدرجة سمحت لهم بتشكيل العصابات ومهاجمة المواطنين في المناطق الفلسطينية، وهو ما يدرك كل طفل فلسطيني أنه نتيجة حتمية لإنعدام الفعل المقاوم الذي يضع هذه القطعان في دائرة الاستهداف، ومع تكرار المحاولات الفاشلة لاستنهاض العمل الحزبي في المدن والمحافظات لتحقيق انجازات مقاومة وحماية أمن الحواضن الشعبية من القطعان الاستيطانية الهائجة، فقد وصلت القناعات الفردية لدى ابناء هذا الشعب من الأجيال الجديدة، التي لم تر فترة قوة للأحزاب لتؤمن بها، وإنما عرفت أن المقاومة فقط هي السبيل لتحقيق الأمن الشخصي والعام، وهو ما أدى بالأفراد الاوائل من المقاومين الجدد في مخيم جنين الى بذل الغالي والرخيص في سبيل الحصول على العتاد، وحيث أصبحت الأحزاب مجرد شعارات وخطوط عريضة في رؤوس كل منهم فإننا لا نجد لدى أي منهم مشكلة في التعاون مع جميع الايدولوجيات من اجل الوصول الى هدفه العام ومراكمة المقدرات اللازمة من أجله فنجد افرادا حملت جميع الرايات، وقاتلت تحت جميع الالوية، وهنا يمكننا أن نرى بوضوح أن القتال هو الطريق.
يعاني كل من التجمعات الفلسطينية الموزعة كبقع جرباء على ظهر جمل أبلق من مشاكله الخاصة، والتي تنجم بشكل أو بآخر عن سببين لا ثالث لهما، وهو تغول الاحتلال وقطعانه واعتدائهم المستمر على مقدراته واسباب انتاجه وأمنه اليومي، وتخاذل السلطة وتجاهلها المستمر لأمن الشعب الفلسطيني وعملها المستمر من أجل اجهاض العمل المقاوم، وهو ما أوصل كل من الأفراد المقاومين بشكل فردي أو جماعي إلى النتيجة الحتمية، بكون الخندق المقابل يشترك فيه كل من السلطة الفلسطينية – أو صفها القيادي الأعلى على الأقل- والإحتلال، وأن الطريق الوحيد لتحقيق أمنه وحفظ جماعته هي في تجاوز الخلافات ورص الصفوف، والقتال، القتال الذي يطمح لتحقيق أهداف خاصة بمجتمعه الصغير وحيزه المكاني، مع ضرورة التعاون والدعم -المعنوي على الاقل- للمجموعات المشابهة في المواقع الأخرى، وهنا نرى جيوشا صغيرة تولد، في مناطق مختلفة، مجموعات تعلم أنها تقاتل وحدها في أرضها، لكنها تقاتل مع أفراد مجتمعها القريب، حيث يعرف كل فرد منهم إخوته ورفاقه في القتال، ينزفون معا، ويعملون معاً، وكأنما انفصلت المدن والمخيمات فصارت دولاً مستقلة، متحررة من كل ثقل قيادي خارج عنها، رافضة لقيادة لا تشترك معها بدم، وعاملة من أجل الإستقلال الصغير، وحرية المخيم والبلدة القديمة، كخطوة كبيرة في سبيل التحرير الكامل.