يقاتل البشر بعضهم بعضاً منذ أن قرر أحد ما قبل التاريخ المكتوب أن يسيطر على أكبر مساحة من الأرض ويمنع الآخرين من استغلالها، وحيث بدأت الحرب بالملكية الفردية، فإن انتهاء الحروب سينتهي بالضرورة بانتهائها، ويمكننا أن نرى في الواقع أن غالبية الحروب في التاريخ كانت تدفعها المصالح المادية بشكل أساسي، وعلى الرغم من مادية الحروب بحقيقتها البسيطة، إلا أن القتال بصورته الأكثر وضوحاً وبدائية ليس مدفوعا بذلك النوع من المصالح الذي يتراءى للغالبية العظمى منا عندما يفكر بماديتها، ومع أن القتال بطبيعته يجلب الكثير من الفوائد المادية للقليل من البشر، إلا أن المستفيدين من القتال بالعادة هم الذين لا يقاتلون.
تقاتل الأمم بعضها بعضاً من أجل زيادة حصتها من الموارد الطبيعية -النفط مثالا- أو من أجل زيادة قوة الايديولوجيا التي تعتنقها -الحروب الدينية مثلا- أو من أجل خليط من هذا وذاك، ويمكننا مشاهدة ذلك بشكل واضح في غالبية الاستعمارات الحديثة التي اكتشفت أن استبدال الثقافة الأصيلة لدى المستعمَر يؤدي لانتاج شعب جديد يتشابه ثقافياً -بالمظهر فقط- مع المستعمِر، وهو ما يتيح للمستعمِر إستمرار سيطرته على الموارد بدون أن يكون مضطراً للتعامل مع تبعات استعمار مجموعات بشرية ضخمة، حيث يقوم بنقل السلطة بشكل رسمي الى كيان سياسي هجين يتكون من طبقة نخبوية ترى في شعبها وثقافته الأصيلة مرضاً معدياً، وتتقزز من حقيقة انتمائها للشعب نفسه، فتقوم بممارسة ما كان يمارسه الاستعمار عليه، مع المحافظة على خطوط امداد المركز الاستعماري بالمواد الخام، مقابل خطوط توريد المنتجات الاستعمارية نحو الطرف المستعمَر، وهو ما يحقق للمركز الية لتصريف فائض الإنتاج لديه، مع ضمان مراكمته المستمرة لرأس المال والسيطرة عن بعد على الاطراف الاستعمارية التابعة له وضمان عدم صيرورة الأمور الى ما يؤدي به الى فقدان هذه السيطرة. وحيث يؤدي فشل النخبة التابعة في ضمان السيطرة الدائمة على اختلاجات التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار الى ظهور الثورات التحررية في المجتمع المستعمَر، والتي تكون عنيفة ودموية بطبيعة الحال، حيث لا يمكن للمرء خلع أظافره المتعفنة بدون اجتثاث لحمه معها.
خلال عصور الحروب القديمة، بعد انتهاء المعركة بتشتت صفوف العدو المقابل، كانت فرق الخيالة تتولى مهمة مطاردة العدو الهارب، وعلى الرغم من قدرة الحصان على الركض بسرعة أكبر من سرعة الجريح الهارب من القتال، إلا أن فرسان الطرف المنتصر لم يكونوا يحاولون اللحاق بالهاربين في الحقيقة، حيث إكتشف البشر منذ بداية زمن الحروب، أن انعدام الأمل بالنجاة، والتواجد في موقف لا فوز فيه قد يودي بالانسان للفوز، فحيث يعلم المرء أنه مقتول مهما فعل، سيتجاوز حدود المنطق البشري، ويقاتل كمن لا شيء لديه ليخسره، وهو ما يجعله أكثر خطورة بمراحل من ذلك الرجل الهارب من معركة ليوصل مأمنه، وأن فعل الملاحقة في الواقع يحمل في ثناياه هدفاً استراتيجياً مختلفاً عما يبدو عليه، حيث لا يحاول المنتصر القضاء على المهزوم في الواقع بل يحاول أن لا يمنحه الفرصة لإعادة تنظيم صفوفه، فيقوم بملاحقته بالقدر الكافي ليشتت جماعته ويوهمه بأنه سيقتله إن لحق به، ولا يدرك الخائف بأن الحصان لا يزال محافظاً على مسافة آمنة منه إلى أن لا يعود ممكناً أن ينتظم ورفاقه في صف مقاتل مرة أخرى، وتحسم المعركة.
على الرغم من كل أسباب القتال الماضية، حيث يتزايد زخم الفعل العسكري الفلسطيني بتغير المعطيات المحيطة، فقد يقاتل الفلسطيني أملاً بافتراجة مادية أو يأساً من موت أكيد، قد يقاتل للخلاص من إظفر متعفن في لحمه، أو من أجل الدفاع عن أيديولوجياته وثقافته، إلا أن الشعب الفلسطيني يقاتل لأسباب أخرى بالاضافة للقليل من هذا وذاك، وقد يكون من الصواب أن نقول أننا نقاتل في الحقيقة لأننا نحلم، يقاتل الفلسطيني لأنه يحلم بأن لا يكون كل ما قد كان، نحارب هنا بلحمنا ودمناً، وسلاحنا الفردي، بحجارة أرضنا، نحارب بالحياة والموت، لأننا نحلم أن لا تكون الحرب، نحن الذين نقتل في كل حين حتى لم يعد الموت يعنينا، نقاتل هنا من أجلكم جميعاً، نقاتل من أجل كل ابن عاهرة في هذا الكوكب،نقاتل لأننا نعلم بأن فلسطين هي البداية، وأن القضاء على الإحتلال، هو البداية في معركتنا الأزلية، للقضاء على كل شرور هذا العالم.
هنا في هذه الأرض المسماة فلسطين، شعب كامل يموت كل يوم، ويولد كل يوم، يمترس الحرب حتى لم يعد يعرف بدونها من هو، يقاتل ليحمي شعوب العالم أجمع من أن يلتهمهم وحش الإمبريالية المفترس، يقاتل لكي يجد يوماً ما، في أرضه السليبة، مكانا يستطيع فيه أبناء هذا الشعب المنتشرون في كل أصقاع الأرض، أن يحلموا بشيء آخر، سوى أن يموت الواحد منهم وهو يقاتل.