في أيار من العام الحادي والعشرين بعد الالف الثانية للميلاد، اضائت غزة قلوب الشعوب المتفرقة، لتصبح شعبا واحداً، واستلت سيفاً لتدافع عن عاصمة البلاد وجوهرة تاجها، المدينة التي وسمت بالسلام ولم تر يوماً سلاما، وقد يكون من الممكن لنا كشعب فلسطيني أن نؤرخ للتاريخ الفلسطيني بما قبل وما بعد هذه الحادثة -وكل أمور الكون حوادث- فحيث أصبح التحرير أمراً واقعا في قلوب كل من شكك بحتميته، حيث انهارت كل محاولات التدجين والترويض المستمرة في الضفة وغزة والداخل، هناك عندما شعرنا بالوحدة للمرة الأولى منذ أن فرقتنا الإتفاقيات، والهوس المستمر للسلطة، أصبحت فلسطين كلاً واحداً، وأصبح التحرير حلماً للجميع -ليس عندما تتحرر بل عندما نحررها- ونراه قريباً.
خلال هذا الشهر نفسه، شاب يقاتل برفقة رفاق منتقين منذ ما يربو على العام بقليل، يخاطب كل من يحمل البنادق، بنفس واثق ورأي سديد، مطالباً كل من يحمل السلاح باداء امانته، وتصويب فوهة بنادقهم إلى العدو، حيث المعركة الحقة، لا مع طيور الجو وغيومه. في الشهر اللاحق، يستيقظ العالم على “عاش النفس”، صوت في خلفية الرصاص المشتبك في جنين، فيديو قصير وثلاثة شهداء، من ضمنهم جميل العموري، المقاتل الذي رأى أن إهانة الرصاص في ارساله للهواء بينما تمتلك عدوا تقاتله، فخاض بشريفته معركة تصويب البوصلة.
بعد معركة سيف القدس، تغير العالم أجمع -في نظر الفلسطيني على الأقل- لقد آمننا بحرب تحرير تنطلق من غزة، تفتح فيها جبهات النار على العدو من جميع الإتجاهات، يساندنا فيها كل الحلفاء، لنعمل سويا من أجل تحرير بلادنا المسلوبة، والإنتصار على عدونا المشترك، وقد يكون أكثر ما قدمته لنا المعركة سوءاً، هو الإيمان القاطع بأننا لن نهزم، أو بأن غزة لن تهزم، وستحرر العالم كله لو أرادت، لكنها معادلات الدم، والرغبة في منع الموت عن الأطفال الذين سيبنون بلادنا بعد التحرير، “بعد التحرير” كانت الجملة الأكثر تداولا بين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم خلال السنة الماضية، هناك حيث ينتظر الجميع المعركة الفاصلة.
في انتظار المعركة، يختلف الدور الذي يقوم به الأفراد باختلاف اهوائهم وطباعهم، يقوم البعض بممارسة حياته كأنما لن تأت الحرب، يقوم الآخرون بانتظار المعركة والتفكير بها لحد يمنعهم من القيام بأي فعل آخر، تقوم القلة القليلة الباقية بالقتال في محاولة مستميتة لاستعجال الحرب، هنا حيث تصبح الحرب هي الخلاص الوحيد من حالة السكون القاتلة، حيث نقتل فرادى، يخنقنا الموت من كل جانب، ويقتلنا جنود خائفين، أو لاهين بأرواحنا، لا فرق في الحالتين سوى أن هذا ليس الموت الذي يعجبنا، وأن المهانة أن تموت جبانا، فيقومون باختيار موتهم المشتهى، في لظى المعارك، ويرسمون لنا حلماً آخر نحلمه جميعاً، شعب كامل يحلم أن يموت وهو يقاتل.
قد تكون أعظم مثالب الإيمان أنه يدعو للخمول، وقد تكون أعظم مثالب اليأس أنه مدعاة للاستسلام، وهنا في البلاد التي يقطع أوصالها المستوطنون يمنة ويسرة، حيث يدفع المقاتلون ثمن القتال من دمهم وخبز أولادهم، يمكنك أن ترى أثر ثنائية اليأس والأمل واضحا حيثما وليت وجهك، حيث يستلهم الناس دورهم اليومي في المعارك من أثرها المباشر عليهم. فحيث رأى الناس التحرير واقعا في سيف القدس، قام الشعب كله ليدعم من يقاتل، وعندما انتهت الحرب، عاد السواد الأعظم منهم لتدبير شؤون حياتهم منتظرين الحرب القادمة.
بعد ما يزيد على العام بقليل، انتهت معركة ما بسرعة لم نعهدها من قبل، معركة خرج منها الشعب كله ضائعا منكسراً، هناك حيث هزمنا في المعركة -ولا معنى لتسمية الهزيمة انتصارا إلا في الخطابات والقصائد- تلقى كل منا صفعة لا زالت تطن في أذنه حتى اللحظة، هناك حيث عرفنا أن غزة لن تستطيع تحريرنا وحدها، وحيث تكسرت قلوبنا التي رأتنا نحن لا أولادنا في شوارع حيفا بدون أن يزاحمنا فيها آخرون بعيون زرقاء وشعر أصفر، هنا حيث غص كل منا بحلمه، واستيقظ الجميع، وكان اليأس ينتشر في القلوب.
في السادس من شهر أيلول الأول بعد الهزيمة، تشرق على البلاد ستة أقمار وشمس واحدة، تتمدد في البلاد معيدة للقلوب نبضها، مؤكدة لنا أن النصر ممكن، وأن الحرية ممكنة، وأن العمل من أجل النصر أجدى من الخمول، وأن لن يهزم يوماً من كان يقاوم، هناك من تحت أرض جنين، استعاد الشعب حلمه، بدون يأس من النصر، ولا ركون لحتميته، وهناك في تلك اللحظات، عرف جميع أفراد الشعب، أن الوحوش غبار. ما بين معركة ومعركة، كان شبان صغار يبنون أحلامهم على إرث شوارعهم، يرون أن الحرب لن تخرج من غير أيديهم، يزرعون الأرض رصاصا وبنادق، ويقاتلون المحتل بشكل يومي، هم من رأى أن الأحلام إذا عظمت لن تصبح واقعا بدون دماء، حيث استمر الرصاص الذي اطلقه جميل بالتوالد في بنادق رفاقه، والإنتشار في البلاد تذروه الرياح، لينبت في كل مكان. عندما بدأ جميل الرصاص، كان أن عرفه طريقاً أوحداً للنصر، عندما أكمل رفاقه الدرب، كان الثأر وحنين الرفاق للرفاق.
يقاتل الفلسطيني مدفوعاً على الدوام بمشاعر فطرية قد لا يعرفها سواه، حيث لا يستطيع أحد ما تصور أن القتال -على صعوبته في كل مكان- يمكن أن يصبح أسلوباً وحيداً للبقاء، وأن يقوم فرد ما بالسعي المستمر للإقتراب من الموت رغبة في الحياة، وحيث تحاول كل جيوش الأرض إبعاد مقاتليها عن المعركة المباشرة، يسعى الفلسطيني للوقوف في أول الصفوف، قد يقتحم أحدهم النيران، أو يطلق رصاص مسدسه على دباب -على الرغم من عبثية الفعل- إلا أن الفلسطيني يقاتل لأنه الفعل الوحيد الذي يضمن وجوده الجمعي، حيث يعلم أن البقاء في أرضه وتحريرها لا يكون سوى أن يفتدي بنفسه أهله وأخوته، رفاق سلاحه، وكل فلسطيني على وجه البسيطة. واليوم، في العام الثاني والعشرين بعد الالف الثانية لميلاد الفلسطيني المصلوب، لا زال الفلسطيني يصلب، كل يوم، لكنه اليوم أصبح شعباً كاملاً يقاتل ليفتدي كل شعوب الكون، فهنا فقط يمكن للإنسان أن يكون.
قبل قرابة الألف عام، عندما جاء الغزاة الاوائل، سقط دم فلسطيني على أرض فلسطين، فأصبح جيشاً من أبناء البلاد، يتنفس الطفل منهم في شهيقه الأول نفس القتال، النفس الذي حاربنا به الغزاة جميعاً، حيث رحلوا وبقينا، ويرحلون، ويبقى النفس ممتدا من عبر البلاد، جاعلا من ابنائها زيتونا لها، ينزفون لها دمهم لتوقد به قناديلها، ويعيشون نفساً ممتداً، منتشراً ويقاتل.