عن فضل القتال خلف خطوط العدو

يمر الشعب الفلسطيني حالياً في فترة مختلفة عن الفترات الماضية في تاريخه النضالي في الكثير من الجوانب، يتصدر المشهد القتالي في الضفة الغربية، شباب أغر، يقوم بخلق مقاومته الجديدة القديمة للوجود الإحتلالي على أرضه السليبة، متجاوزاً حدود الحزبية التي تحولت الى سجن للمقاتل، مترسماً بجميع الوان الطيف السياسي الفلسطيني، رافضا لكل محاولات التسوية والحلول المجزوئة، وذاهبا الى القتال بقلب لا يشغله سوى البلاد.

ولا يغيب عن المشهد محدودية الاهداف المختارة للمقاتلين، حيث يتركز الاشتباك بالعادة في نفس المحاور المعتادة والواضحة، حيث يبدو أن المقاتلين الجدد يعملون على الدوام باتجاه هدفين أساسيين ألا وهما الحفاظ على جمرة المعركة مشتعلة، ومواجهة والدفاع أمام المحاولات الاحتلالية المتكررة للقضاء على الوجود العسكري الفلسطيني، حيث يقوم المقاومون بمهاجمة المعسكرات والحواجز نفسها مرة تلو المرة، والوقوف امام الاقتحامات المتكررة بلحمهم الحي، برصاصهم البسيط وسلاحهم الفردي، وهو على الرغم من انعدام جدواه النظرية أمام الترسانة العسكرية المتطورة لجيش الاحتلال، إلا أن أثره الشعبي والمعنوي، وتسببه بانتشار رقعة القتال في مناطق عديدة في الضفة الغربية، يشكلان خطرا مصيريا على الوجود الاحتلالي، حيث ان انتشار المواجهات المسلحة وعودة عمليات اطلاق النار المتكررة وقتل الجنود والمستوطنين في عموم الضفة الغربية يحتاج لموارد بشرية ومالية هائلة لا يستطيع الكيان الاحتلالي توفيرها بدون أن يتكبد الخسائر الاقتصادية المتراكمة بسببها، حيث ان الإحتلال يعوض عن النقص البشري لديه باستخدام تقنيات الحرب الحديثة والارتكاز على سلاح الجو في الحروب وهو ما لن يكون كاف بشكل خاص عند انتشار المعارك في اراضي وبلدات الضفة الغربية، وهو ما سيؤدي به للقيام بعملية عسكرية خاطفة -حسبما يخطط هو- لانهاء وجود المقاومة في كل اماكن وجودها، وهذه العملية تحتاج منه استدعاء الاحتياط العسكري ونشر الوية المدرعات والمشاة الميكانيكية في الضفة الغربية، لتصبح المعركة معركة صمود المقاومة أمام الاجتياح الشامل او الجزئي لمدن أو تجمعات سكانية بأكملها، حيث لن يتورع العدو عن ايقاع أكبر قدر ممكن من الدمار المادي والبشري في صفوف الحواضن الشعبية للمقاومة.

إن تدمير الحواضن الشعبية للمقاومة، مجازياً أو فعلياً، هو ما قد يؤدي في النهاية لانحسار العمل المقاوم مرة اخرى الى بؤر عصية عن التدمير، وهذه البؤر شئنا أم ابينا محدودة ومعروفة في تاريخنا الفلسطيني، حيث أن إمكانية تحمل الخسائر بدون عائد معنوي محدودة -وهذه طبيعة بشرية- وهو ما نعرفه نحن، ويعرفه عدونا على حد سواء.

يمتلك الاحتلال الاسرائيلي ترسانة عسكرية متطورة، معتمدة بشكل شبه كلي على التقنيات الحديثة في عالم الاسلحة، وهو ما يجعل -بعيدا عن الرمسنة- مواجهة أي اجتياح اسرائيلي شامل باستخدام المقدرات المتواضعة للمقاومة وتوقع الانتصار بالمعركة ضرباً من الجنون، حيث تصبح الهزيمة المادية على الأرض أمرا واقعا، ويصبح الهدف الأساسي للمعركة ايقاع اكبر حجم ممكن من الخسائر البشرية في صفوف العدو قبل أن نموت، ليصبح دمنا مداداً لسطور جديدة من المقاومة، وحيث أن الشعب الفلسطيني أثبت على الدوام لامحدودية قدرته على استيعاب الخسائر المادية والبشرية، فإن أي هزيمة عسكرية تتحول لانتصار معنوي اذا حملت خسائر بشرية موجعة في صفوف العدو.

يعتمد العدو في عقيدته القتالية على سلاح الجو والمدرعات بشكل اساسي، حيث يضمن كل منهما له ايقاع أكبر ضرر ممكن في صفوف الشعب الفلسطيني بدون أن يعرض جنوده للخطر المباشر، وحيث يضمن العدو في الضفة الغربية عدم وجود السلاح اللازم لمواجهة المدرعات والطائرات الحربية والمسيرة، فإن احتمالية استخدام كل منهما في اطار عملية واسعة ضد المقاومة هو أمر متوقع، وحيث أنه ليس من المستبعد أن ينتهج العدو سياسة ايقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف المدنيين كنوع من الردع المعنوي والشعبي للمقاومة وحاضنتها الشعبية، وحيث أن السلاح المناسب لتحييد كل من سلاح المدرعات وسلاح الجو الاسرائيلي مفقود بشكل كلي من الضفة الغربية، فإن عملية ايقاع الخسائر في صفوف العدو ستظل محدودة وغير كافية لتحقيق الانتصار الفعلي على الارض.

ومن هنا يمكننا القول بأن عملية الانتصار مرتبطة بشكل مباشر بعدة عوامل مهمة، حيث يجب على الشعب الفلسطيني الحفاظ على الحالة المقاومة مستمرة على الدوام، وارهاق العدو باستنزاف موارده المادية والبشرية في معارك مستمرة، ومحاولة الحفاظ على الحاضنة الشعبية ومقدراتها وتقليل الخسائر الواقعة في صفوفها قدر الامكان، والعمل على مهاجمة الجبهة الداخلية للعدو ومضاعفة خسائره المادية والمعنوية، والحفاظ على ومراكمة مقدرات المقاومة، وهو ما يمكن تحقيقه في ظل الامكانيات الحالية بطريقة وحيدة -حسبما أرى- وهي نقل المعركة من خطوط التماس الى قلب العدو النابض والقتال خلف خطوط العدو.

إن عملية نقل المعركة إلى داخل التجمعات البشرية للعدو، وعلى الرغم من تعقيدها وصعوبة تحقيقها إلا أنها ممكنة وقابلة للتحقيق -حيث أثبت لنا المقاومون عدة مرات امكانية ذلك- وهو ما يجعل من القتال خلف خطوط العدو هدفاً واقعياً يجب العمل على تحقيقه بشكل جدي وممنهج، وايجاد خطوط امداد وتجهيز خاصة به. وحيث أن المجتمع المحتل يعتبر احد أكثر المجتمعات تسليحاً في العالم، فإن امكانية الحصول على السلاح المتطور في داخل التجمعات الاحتلالية قد يكون أسهل بكثير من الحصول عليه في الضفة الغربية وقنوات التسليح الموجودة بها، بالاضافة لوفرة الاهداف، حيث يتركز العامل البشري للعدو، وهو ما قد يمكن المقاومة من ايقاع خسائر اكبر في صفوف العدو، واطالة امد المعركة.

يمكن لنقل المعركة لداخل التجمعات البشرية للعدو إجراء عملية اخصاء دقيقة لكل من سلاح الجو والمدرعات، حيث يصبح كل منهما خيارا غير قابلا للإستخدام، فإن مشهد الجنود المشاة في وسط تل أبيب يشكل ضربة موجعة للجبهة الداخلية للاحتلال، ناهيك عن مشاهدة دبابات الميركافا أو ناقلات الجنود المدرعة من طرازي نمر وولف في شوارع المدن المحتلة بدلا عن شوارع الضفة الغربية أو على حدود قطاع غزة.

وعلى الرغم من ما ذكرت سابقاً، فإن أفضل فضائل القتال خلف خطوط العدو على الدوام، هو بث الشعور العارم بالعزة والأنفة في الكل الفلسطيني، حيث أننا نراهم يألمون كما نألم، ويعجزون كما نعجز، ويقتلون، وقد يكون مقطع فيديو قصير لا يتجاوز الثلاثين ثانية، للشهيد رعد موجها رصاصه نحو العدو، كاف لإعادة احياء الأمل في صفوف شعب كامل كان قد قارب على اليأس، فلا يمكنني سوى أن أتصور ما الذي ستفعله عاصفة من الرعود، في شعب يحترق شوقا للقتال.