عن وهم الترقي ومعضلة الطبقة الوسطى

إن تركيز الموارد الطبيعية في أيدي فئة قليلة من المجتمع البشري، يؤدي بالضرورة الى انقسام هذا المجتمع الى مستغِل ومستغَل، حيث يتمثل هذا الانقسام بظهور طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين، حيث تشكل الأغلبية المستغلة طبقة دنيا تعمل من أجل البقاء على قيد الحياة فقط، وتشكل الاقلية المستغِلة طبقة عليا تراكم القيمة الناتجة عن عمل الطبقة الدنيا في إعادة تشكيل الموارد وصناعة المنتجات والخدمات التي تسمح للطبقة العليا بتحسين مستواها المعيشي وزيادة رفاهيتها، حيث تقوم الفئة الطبقة العليا باستغلال احتياجات الحياة الاساسية للطبقة الدنيا من اجل توظيف طاقتها البشرية في عملية مراكمة فائض القيمة لديها مقابل توفير الحد الادنى من هذه الاحتياجات. وقد يكون هذا هو الحال في المجتمعات البشرية منذ أن هجرت مشاعها الأول وقام الرجال الأوائل باكتشاف إمكانية سيطرتهم على الموارد الطبيعية والدفاع عن حيازتهم لها باستخدام القوة والسلطة حيث يمكننا اعتبار ذلك بداية عصر الملكيات الفردية. 

امتاز العصر الأول للملكيات الفردية بوحشية طبيعية ناجمة عن بدائية المنظومة وعشوائيتها، حيث كان من السهل نسبياً حصول انقلابات في معادلات القوة والسلطة تؤدي لانتزاع الموارد من ملاكها وانتقالها لافراد من الطبقات الدنيا، حيث ان متطلبات حيازة الموارد كانت مرهونة بالقدرة على ذلك وامتلاك القوة الوحشية للحفاظ عليها، حيث كان التردي والترقي في المرتبة الطبقية للفرد أمراً مألوفاً، والقتال من أجل المرتبة الطبقية هو الأساس الطبيعي لموقع الفرد فيها، وهو ما أدى بالطبقات العليا بإعادة تشكيل المنظومة لدعم بقائها في المرتبة الطبقية والحفاظ على امتيازاتها الطبقية للمدة الأكبر، وهو ما استدعى منها اعادة تنظيم العلاقة بين الطبقتين العليا والدنيا وتقليل احتمالات الارتقاء والتردي، وهو ما أدى الى ظهور مفاهيم النبالة والتقديس، حيث أضافت الطبقات العليا لانفسها صفات روحانية وأجابات ما ورائية لاسئلة من ينتمي لأين، وتطبيع هذه المفاهيم في صفوف الطبقات الدنيا وهو ما أدى بنا لظهور العائلات النبيلة والمقدسة، وهو ما شكل النواة الاساسية للحاكم المقدس، والقوى والصفات العليا التي تجعل من الطبقة العليا عليا بطبيعتها وبارادة القوة الأعظم المالكة لكل ما هو كائن في هذا الكون، وقد تكون فكرة الاله المالك الوحيد هي أهم نقاط قوة المقدس، حيث أن فكرة وحدة المالك لكل شيء هي نسخة أكبر لفكرة الملكيات الفردية التي ظهرت في نهاية المشاع الأول، حيث انتقلت المقدسات من الهة متعددة متشاركة في القداسة والقوة، الى مالك اعظم وحيد يمتلك كل شيء، يعطي ما يريد من ما يملك لابناء العائلات المقدسة من طرفه وأتباعها، فيعطيهم الحق الغيبي بامتلاك ما يملكون، والحكم فوق كل من لا يملك.
قد يكون التغيير الروحاني في منظومة الملكية الفردية هو البوابة الرئيسة لدخول المجتمعات الانسانية المختلفة عصر الاقطاع، حيث أدى ظهور الملك (النبي/ المقدس) الى تحول منظومة حيازة الموارد الى علاقة باتجاه واحد من الأعلى للأسفل، حيث أصبحت القدسية المعطاة للطرف الأقوى في الطبقة العليا سببا بظهور طبقة جديدة داخل الطبقة العليا، وهو ما يؤدي بتحول الطبقة العليا الى طبقتين ذات علاقات تبعية، فأصبحت الموارد تمنح من الطبقى الأعلى للطبقة التي تليها، والتي تقوم برعاية الطبقة الدنيا التي تخضع لسيطرتها، وهو ما حول المجتمع الواسع الى مجتمعات متعددة متشابهة في التركيب الطبقي، أو ما يسمى اصطلاحا بالاقطاعيات، حيث يشير الاسم الى العلاقة بين المالك الاعلى والملاك الادنى، وتتكون الاقطاعية من اسرة اقطاعية (نبيلة)، وطبقة دنيا (عمال وفلاحون) حيث يمتلك الاقطاعي الارض المقتطعة له من قبل الحاكم الذي يملك كل شيء، وحيث كانت هذه العلاقة بين الحاكم والاقطاعي مرتهنة الى موازين القوى، حيث يمنح الحاكم المقدار الاكبر من الموارد للطرف الاقوى بين الاقطاعيين، فإنه من الممكن لنا تبسيط التعقيد الممنوح للمنظومة بتحويلها للشكل الهرمي حيث يقبع الخالق الغيبي فوق القمة تماما، والذي يمنح بقدسيته كل شيء يمتلكه للحاكم الاعلى المقدس وعائلته المشتركة معه بالقداسة، او خلفائه الممتلكين لنفس القيمة القدسية، فيصبحون رأسا لهرم المجتمع الانساني، وهم بذلك يمنحون اجزاءا مما يملكون لاطراف متعددة تتشارك المستوى المتوسط لهذا الهرم، ويشغل بقية المجتمع الجزء الاعظم منه وهم ما يشكل الطبقة الدنيا منه، وحيث أدت صراعات القوة المستمرة بين الملاك الفرديين منذ نشوء فكرة الملكية الى توسع الحاجة للقتال المستمر بين اطرافها للسيطرة على الجزء الاكبر الممكن من الموارد، فإن تكلفة القتال توسعت بتوسع المنظومة وهو ما أدى لضرورة تشكيل الجيوش المقاتلة بشكلها الأولي، وحيث كانت الجيوش في قوامها القابل للتخلص منه بالأساس مكونة من افراد الطبقة الدنيا، فقد كان من الضرورة بمكان منح الأفراد أسبابا اضافية من اجل منح حيواتهم في سبيلها، وهو ما استدعى من الطبقة العليا الى اعادة خلق أمل الترقي في الطبقة لدى الأفراد الأكثر اسهاما في تراكم الموارد في أيديها.

لقد أدى ظهور الطبقة الدنيا المتمرسة في القتال، بالإضافة الى أمل الصعود والترقي بين أفراد هذه الطبقة، جنبا الى جنب مع انهيار المقدس أو ضعف تأثيره مع الزمن إزاء ظهور مقدسات أخرى، أو انعدام تأثيره الروحاني على أفراد الطبقة الدنيا، الى بداية ظهور الحركات الثورية المنبثقة من الأفراد المقهورين في الطبقات الدنيا هادفة للوصول إلى الطبقات الأعلى من الهرم، حيث أن امتلاك القوة العسكرية والسلاح، بالاضافة الى القدرة على الحشد والإقناع، هي أساسات انتقال الحلم بالترقي والحصول على المكانة من طور المستحيل إلى طور الممكن، وقد أدت صراعات القوى ومناوشات طبقة النبلاء مع الحاكم المقدس وامتلاك الأفراد الإقطاعيون آمالهم السياسية الخاصة إلى ظهور الفرص المختلفة للتدهور والترقي بين الطبقات الثلاث، حيث أن بدائية القوة في تلك العصور واستناد القوة الى القدرة الجسدية والعقلية، بالاضافة لامتلاك السلاح نفسه أو القدرة على الحصول عليه، قد أدت لامكانية انهزام الاقطاعي أمام آخر أو صعود العسكري الفذ من مناصب الجندية الدنيا الى طبقة النبلاء، أضف الى ذلك امكانية سقوط المقدس واستبداله بمقدس آخر من صفوف الطبقة الاقطاعية النبيلة في الكثير من الحالات، أو الإبقاء عليه كحاكم شكلي في الكثير من المجتمعات الاقطاعية -فترة الشوغون في يابان العصور الوسطى والامبراطور المقدس مثالا- وهو ما دعى بالطبقات العليا في المجتمعات بالعمل على خلق تغيير جديد في المنظومة الاجتماعية سعيا للحفاظ على مكتسباتها وامتيازاتها الطبقية، وقد يكون من الممكن ربط هذا التغيير بظهور الجيش المحترف وانقسام الطبقة الدنيا الى طبقتين اجتماعيتين تمتلك احداهما امتيازات طبقية أعلى من الأخرى، حيث أصبحت طبقة المحاربين فوق طبقة الفلاحين والحرفيين، حيث أدت الامتيازات الطبقية الممنوحة لهذه الطبقات وزيادة آمالها وفرصها في الترقي إلى الطبقة الأعلى مرتبة الى خلق حالة من الولاء في صفوف الأفراد المنتمين لها باتجاه الطبقات الأعلى، والإحتقار للطبقات الأدنى. وحيث انتفت الحاجة لمنح الطبقة الدنيا الحق بامتلاك وحمل السلاح حيث انتهت فترة الفلاح المقاتل في صفوف المجتمعات الاقطاعية المتقدمة، فقد أصبح امتلاك الأفراد للسلاح خطرا طبقيا على مصالح الطبقات الأعلى وهو ما أدى لحملات منع حيازة السلاح المناسب للقتال، واقتصار السماح لما يستخدم في مهام عملهم اليومية من فؤوس وسكاكين ومناجل ومطارق. وقد استمرت هذه الفترة تقريبا الى بداية عصر الصناعة والثورة الصناعية الكبرى.

لقد أدت الثورة الصناعية الكبرى إلى تطور متسارع في امكانات الصناعة والتقنيات، وهو ما أدى الى زيادة ضخمة في فائض القيمة المنتجة من قبل الفرد العامل في إعادة تشكيل الموارد لصالح الطبقات العليا، وقد أدت أيضا تغيرات مضطردة في أساليب وتقنيات القتال وطبيعة ونوع السلاح المستخدم وكميته، إضافة لقدرته التدميرية وزيادة المسافة الفعالة له مما أدى الى تآكل أهمية الفارق الفردي بين المقاتلين، حيث أصبحت استراتيجيات القتال وأدواته أكثر أثرا من قدرات الأفراد المقاتلين الجسدية، وقد ادى تسارع الإنتاج، وتوحيده معيارياً إلى متطلبات معيارية للفرد المقاتل والذي أدى بالمجتمعات الطبقية إلى تطبيق الفلسفة الصناعية على الطبقات الأدنى واعتبارها موارد طبيعية يمكن اعادة تشكيلها لتتناسب مع هدف مراكمة القيمة لدى الطبقات الأعلى، وحيث تزامنت الثورات الصناعية في العالم مع الثورات الاجتماعية العظمى وانهيار شبه جماعي للمقدس وتحويله لحالة من الرمزية غير الحقيقية، إلى التغيير المظهري في صفوف مجتمعات الملكيات الفردية حيث ظهرت الوطنيات الحديثة والديمقراطيات الشكلية، مبنية على أساسات فلسفية تدور في فلك امتلاك الموارد الطبيعية وقيمها المضافة، بالإضافة الى الحفاظ على الطبقات الاساسية بحالتها السابقة وهو ما أودى بنا الى ظهور أنظمة الرأسماليات الحديثة.

تشترك الرأسماليات الحديثة مع أنظمة الملكيات الفردية القديمة بتركيز الموارد الطبيعية في يد فئة قليلة تشكل الطبقات العليا من مجتمعاتها، حيث تتمايز الطبقة العليا فيما بينها بمقدار حصتها وقدرتها على مراكمة الموارد، وتختلف معها بالأساليب المتبعة في التعامل مع الطبقات الدنيا واعتبارها جزءا من الموارد التي يؤدي امتلاكها إلى زيادة القدرة الانتاجية لدى طبقة الملاك، ونزع مسؤولية توفير الحد الأدنى للطبقات الدنيا عن الطبقات الأعلى واستبدالها بأجر محسوب مقابل العمل المنجز لصالح هذه الطبقات، حيث تقع المسؤولية الاسمية عن توفير الأساسيات على عاتق الفرد عن طريق العمل بأجر لدى الملاك، وهو ما يؤدي بالفرد في الطبقات الدنيا الى الانفصال المعنوي عن فعل الاستغلال المباشر وإعادة تشكيل العامل النفسي لهدف السيطرة على محاولات الترقي الطبقي لدى الفرد.

لقد أدت الثورات الإجتماعية الحديثة، إضافة إلى إلى التغيرات الحاصلة في المجتمعات ما بعد الصناعية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث وصل تطور الأدوار الانتاجية للافراد في المجتمع الرأسمالي إلى مراحل متقدمة متمايزة بتمايز الأدوار نفسها، وحيث اتجهت عملية تشكيل الموارد البشرية إلى معياريات مختلفة باختلاف الهدف من الإنتاج، ووصول فائض القيمة المراكم لدى الطبقة العليا حدودا يؤدي بها الى الاختناق بالمنتجات ما لم تستطع تصريفها وتسييلها من جديد لإعادة استخدامها، إلى عملية إعادة تشكيل المنظومة مرة أخرى والتعديل على ميكانيكيات عملها، وحيث أدى ظهور شبح الاشتراكية متزامنا مع معضلات الحرب العالمية الاولى الاقتصادية إلى تنامي شعور الخطر لدى الأنظمة الرأسمالية من إمكانية تدمير المنظومة من اساساتها، فقد قامت هذه الانظمة باعادة تشكيل المجتمعات الخاصة بها من أجل حماية مصالح الطبقات العليا فيه، وهو ما أدى بها إلى دعم النزعات الفردانية والاستهلاكية لدى أفراد الطبقات الدنيا من المجتمع، وإعادة تشكيل الطبقات بحيث يصبح السواد الأعظم من الأفراد في المجتمع في وضع محايد اقتصادياً، مع الحاجة لوجود الطبقة الأدنى على الدوام مع انتفاء الحاجة لتشكيلها للغالبية، حيث يجب على الفرد أن يستطيع النظر للأسفل كما ينظر للأعلى، حيث يجد نفسه متوسطا بين حلم وكابوس، مقتنعا بأنه هو وحده المسؤول عن قدرته على الترقي في الطبقات وصولا إلى قمة الهرم ليجلس في صفوف الرأسماليين الأعلى مرتبة. 

لقد أدى إختراع الطبقة الوسطى إلى إعادة تشكيل المجتمعات الحديثة، حيث يشعر الفرد المنتمي للطبقة بأنه قادر على العناية بنفسه كما يجب، ليس كما يريد، لكنه قادر على العناية بنفسه وعائلته، يستطيع أن يرى نفسه يترقى ويتطور في المسار الوظيفي لمستويات أعلى وأكثر رفاهية أو راحة، ما يدفع به للعمل أكثر في سبيل الترقية، الإنجاز، تحقيق الذات، والكثير من الأوهام التي تقوم الالة الرأسمالية بضخها في عقله، وحيث أصبحت هذه الآلة محملة بالاف السنين من التجارب والتطور، فإنها تقوم بفعل ذلك بنجاعة غير مسبوقة، لقد اكتشفت الرأسمالية، كيف ومن أين ولماذا تقوم بفعل كل شيء، يمكن للرأسمالية أن تقنعك بإحتياجك لتلفاز لا متناهي الجودة بعدد صور في الثانية أكثر من قدرة عينك على التمييز، يمكنك أن تشتريه وأنت لا تملك ما يكفيك لشراء الطعام بقية الشهر، ستقوم بتقسيط سعره على سنة قادمة، علما بأنك لا تشاهد التلفاز بالأساس سوى نصف ساعة مرة في الاسبوع لتشاهد الحلقة الجديدة من “one piece” بجودة لا تتجاوز “1080p”.

يمكن للفرد المراقب للمجتمعات من الخارج اليوم، أن يقوم برؤية انقسام المجتمعات الى طبقة رأسمالية عليا، محاطة بالكثير من الاوهام، لا يعلم المجتمع عنها سوى القليل، مقادير الثروة والقيمة الاسمية للأفراد الأبرز فيها، يشكل كل منهم حلما لموظف بسيط في بداية حياته، يحاول أن يحصل على حصته الخاصة من هذا العالم، وطبقة فقيرة مسحوقة، لا تستطيع العناية بنفسها أو توفير أساسيات عيشها، يشكل أفرادها ذلك الخوف العميق لدى أفراد الطبقة الأعلى منها بالانضمام لصفوفها، ووسيلة لتصريف الشعور بالمسؤولية لديهم حيث يقوم الفرد بمساعدة أسرة فقيرة بجزء ضئيل من وقت لآخر مشبعا بذلك رغبته الداخلية في تغيير العالم والتخلص من الظلم، وبين هاتين الطبقتين، يمكننا أن نجد الف طبقة أخرى، تشكل بمجموعها طبقة واحدة، موظفون وعاملون من اجل إنتاج القيمة التي يراكمها الأفراد في الطبقة العليا، وسوق تصريف للمنتجات وإعادة اسالتها في آن واحد، وكأن الرأسمالية نجحت في انتاج المعجزة الفيزيائية الكائنة بالالة مستمرة الحركة، واصبحت الطبقة الوسطى درعا وأداة وطريقا من أجل زيادة القيمة المراكمة في صفوف الطبقة العليا.

يمكن لكل منا الترقي في الطبقات لا المتناهية المكونة في مجموعها للطبقة الوسطى، يمكننا أن نتطور في مسارنا المهني، أن نزيد من محصلاتنا العلمية، مهاراتنا، إنجازاتنا الفردية، سمعتنا وقدرتنا على المنافسة مع إخوتنا في الطبقة، الصعود على أكتافهم والترقي الى طبقة بينية أعلى، طامحين بذلك بتحسين ظروفنا الحياتية، مستوى رفاهيتنا أو قدرتنا على مواجهة مصاعب الحياة، وحيث يشكل الأمل دافعا مهما في استمرارية السعي من أجل الوصول، إلا أن الوصول بحد ذاته ليس مطلقاً ولا حتمي، حيث يمكن التردي بسهولة أكبر في الطبقات، فإن الذهاب إلى الأسفل هو الطريق الطبيعي في هذه الأنظمة المدفوعة بالقيمة المتراكمة في أعلى، وكما يكون السقوط أسهل بكثير من التسلق حيث تقوم الجاذبية الارضية بشدنا إلى الأسفل على الدوام، فإن التردي الطبقي أسهل بكثير من الترقي في النظام الرأسمالي، حيث يجب لموازنة القيمة المنطلقة من الأسفل للأعلى سقوط الأفراد من طبقات أعلى لأدنى، وحيث أن الرأسمالية هي المتحكم الأساسي في حركة الترقي والتردي، يمكنها أن تنأى بنفسها عن تيارات التجاذب الداخلية والعمل على دفع كل الة بشرية متهالكة فقدت الفائدة المرجوة منها الى اسفل الهرم لضمان سيولة الطبقات في الطبقة الوسطى.

إن الاف الطبقات البينية المشكلة للطبقة الوسطى، جعلت من الطبقة الوسطى بحد ذاتها مجتمعاً منفصلاً اجتماعياً عن الطبقة العليا، حيث أنه من الممكن للفرد العمل الحثيث من أجل الصعود في السلم الطبقي وامتلاكه مزايا طبقية اضافية، إلا أن الترقي يحمل في طياته الكثير من المسؤوليات الاجتماعية والحياتية الإضافية التي تجعل من مراكمة الملكية للحد الذي ينقل الفرد لصفوف الطبقة الرأسمالية أمرا خيالياً، وحيث أن الإمتيازات الطبقية هذه يمكن لها أن تورث للجيل القادم من ابناء أفراد الطبقة، ما يمنحهم بدورهم فرصاً أعلى في الترقي في الطبقات الداخلية للطبقة الوسطى، بالاضافة للالتزامات الاجتماعية المرتبطة بالطبقة المنتمين لها، وهو ما يجعل من هذه الطبقات البينية أشبه بالأنسجة المعقدة من الياف كيفلار، والتي تشكل بطبقاتها المتتالية درعا قادرا على حماية الطبقة العليا من الأخطار، ودعم وجودها واستقرارها طويل الأمد.

يمتلك كل منا امتيازات طبقية مختلفة عن الآخرين، يرى كل منا هذه الامتيازات كأمر مسلم به، أو كنتيجة طبيعية لموقعنا الوظيفي والعملي، حيث لا يستطيع الفرد المنتمي لطبقة بينية ما في صفوف الطبقة الوسطى إدراك الفوارق الطبقية الحقيقية بينه وبين أقرانه المنتمين لطبقات أدنى، حيث أنه لا يستطيع إدراك طبيعة امتيازاته الطبقية بدون الاقتناع بوجود هذه الطبقات البينية، فحيث يرى أحدنا الذهاب الى السينما والخروج مرتين اسبوعيا لتناول الطعام في الخارج أمرا طبيعيا، فإنه لا يستطيع فهم -بالعادة- أن هذه التصرفات الطبيعية بالنسبة له، ليست طبيعية لدى أفراد آخرون من طبقة أدنى، على الرغم من تساوي الطبقتين بالوصول الى الصفر في نهاية الشهر، وحيث يتأصل الشعور بالعار المجتمعي بسبب عدم مقدرة مجاراة الاقران لدى الافراد من الطبقات الأدنى في الطبقة الوسطى بسبب الاقتناع بالمسؤولية الفردية تجاه المستوى الوظيفي، أو الشعور الدائم بعدم الاستحقاق الذي تزوده الالة الرأسمالية في نفوس الأفراد، فإن محاولاته المستمرة للظهور بمظهر اجتماعي اعلى من ما هو عليه في الحقيقة يؤدي به في الواقع بالتردي في الصفوف الطبقية، خالقا بذلك فجوة يقوم بسدها فرد آخر من طبقة أدنى يترقى ليحل مكانه في طبقته القديمة.

نحن اليوم في عالم متوحش، خلقته الرأسمالية خلال الاف السنين من التجارب والتعديلات، لا نمتلك في الواقع أي أمل فردي في الترقي أو التخلص من همومنا المجتمعية، تمتلك المصارف كل رفاهياتنا الزائفة، نجري وراء متع مؤقتة لا تضيف إلى كياناتنا الأصلية شيئاً، مقتنعون في خلاص فردي تجذبه لنا افكارنا الإيجابية ومنظورنا المتفائل للمستقبل، متأملين بحتمية الوصول خلف السعي، لكننا في الحقيقة، بهائم تدور حول نفسها في حلقة مفرغة لترفع الماء في السواقي، ليشربه البشر القاعدون هناك في قصورهم وبيوتهم، بغير خوف أو خشية، عالمين بأننا نحن من سيحميهم من أنفسنا، متحصنين بأمل الترقي وخوف التردي المستمر، وهنا أجلس لأكتب مقتنعا بأن الخلاص ممكن، لكن يجب علينا جميعاً العمل سويا من أجل هدم المنظومة من اساسها، واعادة تشكيل العالم، حيث يعود البشر الى مشاعهم الأول، يأخذون ما يحتاجون ليعيشوا حياة سعيدة هانئة، لا خوف بها عليهم ولا هم يحزنون.