المميز

في البدء كانت الكلمة

من الصعب على أي كان أن يقوم بتقديم نفسه في عدد من الكلمات، وقد تكون الكلمة هي الأصعب على الإطلاق، فعندما نقوم بفعل الكتابة نعري جزءاً من أرواحنا لا يمكن كشفه بأي طريقة أخرى، وهنا وفي هذا اليوم أقوم بكشف نفسي لكم، بروح مجردة من كل شيء سوى ذاتها.

اليوم حيث يحتفل الكثيرون بأول أيام عيد الفطر السعيد، بعد بضعة أيام من دخولي في العقد الرابع من العمرـ بعد أن أتممت الثلاثين – وهو السن الذي لم أرغب به البتة – قررت أن يكون موعد إعلاني عن البدء في البوح لكل من أراد أن يقرأ، هنا ستجدونني بدون أقنعة ولا حواجز، لا لشيء لكن لاعتقادي الراسخ بأن على كل منا أن يخرج للعلن في أحد الأيام، وهكذا كان.

في البدء كانت الكلمة، والنهاية هو الصمت. وأن تتكلم هو الفارق الأساسي بين أن تكون موجوداً أو أن تموت، الحياة كلمةـ والمواقف كلمة، من كلمة خلقنا، ومن كلماتنا نخلق عالماً آخر أو نستمر في حيواتنا البائسة. والآن أصبحت روحي كلمة.

وكما الحياة والموت، من الصعب علي أن أتوقف عن الكلام عندما ابتدأت، فالكلام روح والصمت موت، ولكن لا بد لنا من يوم نتوقف فيه عن الحياة وأن نصمت. وهنا في هذه المدونة سأكون حياً قدر ما استطعت، ما دام يمكن ذلك. وكما يبدأ الصغار المشي بخطوات متعثرة، هنا ابدأ مسيري الطويل، وكما يتعلم الأطفال الحياة ممن حولهم، فإنني أنظر لكم طالباً النصح، فإن العالم هو المعلم الأكبر، وكلنا نستطيع أن نكون ذوو شأن في جزء ما.

مروا برفق يا رفاق فإنما هذه أرواحنا التي تنظرون إليها.

من العربي القديم إلى العربي الجديد.

أطلّ علينا مدير تحرير صحيفة ما بنص قصير يدور حول أضرار الحرب على الحرية ومدافعا عن حق الانسان بتكوين رأي مضاد للحرب والقتال، وضد الأيدولوجيات المقاومة وأحزابها، ومشككا في جدوى القتال في ظل عدم تكافؤ القوى والتمايز العظيم في حجم الخسائر البشرية والمادية بيننا وبين العدو، ومتعاملا مع الانتصار كأنه معادلة حسابية بسيطة وأمرا ماديا بشكل مطلق، وهذا إن نطق عن شيء فإنما ينطق عن ايدولوجيا هذا الشخص والصحيفة، والتي يعبر عنها بشكل واضح اسم هذه الصحيفة وهو العربي الجديد، وكأن العربي يحتاج أن يصبح نسخة متماهية مع الغرب وفاقدة للروح تتعامل مع الاشياء بمادية مطلقة وفردانية غبية، وكأن الأمور جميعا تقاس بمقارنات الارقام عبر احصائيات بسيطة.

وهنا أود أن أقول للاخوة العرب الجدد، أننا نحن العرب القدماء، لا نستطيع استيعاب هذا الجنون الذي تقولونه، أي سفه هذا، نحن العرب اللذين يموتون منذ بدء الخليقة دفاعا عن أرضهم وحياضهم ومائهم وعرضهم وكرامتهم، اللذين لا يفرق معهم كون خصمهم أقوى رجال الأرض أو أعظم امبراطورياته، نحن اللذين “نورد الرايات بيضا- ونصدرهن حمرا قد روينا” ونحن اللذين “نبكي حين قتلكم عليكم – ونقتلكم كأنا لا نبالي” ونحن الذين نحفظ وصايا الآباء بأن ” وقاتلوا القوم أن القتل مكرمة – إذا تلوى بكف المعصم العرف”، فنحن الذين قاتلنا الفرس وهم قوة عظمى من عالم ثنائي القطب في ذي قار وغيره قبل الاسلام، ونحن اللذين قاتلنا الروم ونحن قلة بعد الاسلام، فهل تعلم كم قتل من ابرياء العرب أو كم سبي لهم من نساء أو ذبحت أطفال وهدمت حواضر وبيوت في كل تلك المواقع، أوتعتقد أن الكرامة تقاس بعدد القتلى أو بحجم الخسائر بالدولار؟، بل والله لا تعقلون.

إن صراع الضعيف للقوي هو صراع الغزالة للسبع، فحيث يمتلك السبع كل قوة الدنيا بوجه الغزالة، إلا أن الغزال لا يحتاج سوى أن يتعب السبع أكثر بقليل مما يستطيع الاحتمال، فيتوقف عن الركض، وينهار متعبا، إن القدرة على التحمل كانت أهم ما يمتلك الانسان للبقاء في العالم القديم والازدهار، حيث أنك لا تحتاج أن تقاتل الثور أو الماموث حقيقة، انما تحتاج أن تحافظ على مشاغلته حتى ينهار من التعب، وهي معركة يفوز فيها من يمتلك القدرة على الإحتمال أكثر من الآخر، فهل يستطيع الاحتلال احتمال كلفة القتال المستمر لو لم تتوقف حالة المقاومة المستمرة عن التطور ومراكمة الانجازات، حسب ما أعلمنا التاريخ فالإجابة هي لا، وأن الحل الذي يتخذه المستعمر في هذه الحالات لتخفيف الضغط المتزايد عنه هو خلق نسخة جديدة من المستعمَر، تنادي بانعدام الجدوى من القتال، وإمكانية النضال بدون دماء، باروقة الدبلوماسية العالمية، وبالكتابة والغرافيتي والمظاهرات السلمية، وتفتيت الصراعات لصراعات فرعية، وهو ما يظهر لنا ضرورة وجود عربي جديد، وقد يكون هذا هو الهدف من امكانية اقامة مكاتب هذا العربي في عاصمة الاستعمار التاريخية.

إن أساسيات الحرية والتنوع في صفوف مجتمع ما هو تقبله للاختلافات الفكرية والايدولوجيات المختلفة المتواجدة فيه، ولن تجد شعبا أكثر تقبلا للاختلاف السياسي والديني من الشعب الفلسطيني، وعلى سبيل المثال، فإن عائلتي الممتدة تمتلك في داخلها منتمين وكوادر عاملة في جميع الأحزاب الفلسطينية تقريبا، يتفق الجميع على فلسطين ويختلفون على كل شيء آخر، ما عدا المقاومة كطريق للتحرير -أقصد المقاومة العنيفة أما مقاومة الشموع والغرافيتي فيمكنكم دفعها في أعمق نقطة يمكنكم الوصول لها في مؤخراتكم الليبرالية المسالمة- فما اللذي يمنح احدكم الحق في تقرير ما هو المناسب لطموح الشعب الفلسطيني في التحرر، حيث أن كل فلسطيني يمتلك طموحا وتصورا مختلفين عن الآخر، والميدان مفتوح لكي تعمل للتحرير بطريقتك وتصورك، أما نقاشات وصراعات ما بعد التحرير فهي سفسطة فارغة لا معنى لها قبل حصول فعل التحرير، ولو كانت مؤخرتك تستطيع تحريرها بدون ضحايا فحكها وأرنا ذلك لنصلي لك.

في النهاية، قد يقتلنا الاستعمار بالجملة، علينا أن لا ننسى أننا نقاتل العالم أجمع، وأن اليد التي تقاتل المخرز، ستخرج من المعركة مقطوعة الأصابع مدماة الكف، لكنها ستنتصر في النهاية، وستنبت خلفها أياد ناعمة طرية لم تعرف الموت، وستحمل بعدنا الأجيال منجل.

عن الموت، الحب، الحياة والرغبة.

لقد كان الموت يحيط بي من كل جانب مذ كنت جنينا في رحم أمي، فأنا التوأم الحي لطفلة ولدت ميتة قبلي ببضع أيام، والطفل الذي ولد قبل ميقاته بشهرين كاملين وأمضى أول أسبوعين من عمره في حاضنة المستشفى لكي يعيش، وقد ولدت بكبد وطحال متضخمين، ومناعة سيئة للغاية، ولم يستطع الأطباء إيجاد حل لمشكلتي فتوقعوا لي أن لا أعيش لأكمل الخمسة سنوات من عمري، وانقذتني أمي من قنبلة غاز سقطت على حجري وأنا في باحة البيت، وتوقف قلبي لاثنتي عشرة دقيقة عندما كنت ابن ثلاث سنوات اثر سقوطي من علِ، وأصابني الصرع مؤقتاً بدون تحذير عندما كنت ابن ست، وكانت ستقتلني نوبة ربو شديدة وأنا ابن سبع، ونوبة حساسية أشد بعمر الثماني، وكأن الحياة حاولت منذ البداية جداً لفظي خارجها، وبقيت عالقا في حلقها رغما عني وعنها على حد سواء، وعلى الرغم من كل هذه التجارب المبكرة إلا أن معرفتي الحقيقية للموت بدأت بعد ذلك ببضع سنين، عندما كنت بعمر العاشرة تقريبا، وبدأت الدنيا من حولي بالاشتعال لتصنع ناراً يوقدها الغضب العظيم والرغبة العميقة في التحرر، وكما يتوقع من شعب يواجه جميع آليات الموت الحديثة بصدر ابنائه العاري، والقليل من السلاح البسيط، سينبت الموت فيه كعشب بري في ربيع الأرض، ويحيط بكل زواياه منبتاً دحنوناً أحمر في كل الزوايا الممكنة.

لقد كنت فتى عادياً بعمر العاشرة عندما اندلعت الانتفاضة، وكما أي فتى في مخيم لاجئين في تلك الفترة، لم تمنحني الحياة الفرصة لكي أكبر بهدوء، وقد ضعت بين الحرب والعاب الفتيان، فأصبحت الحرب لعبة وأصبح الموت رفيق لعب، يأخذ أحدنا أحيانا، وتلاشت بسرعة الفوارق العمرية بين الأجيال، وأصبح الجميع رفاقا في نفس الملعب، لنحتسي الشاي في فترات الراحة فوق أكياس الرمل، أو في بيت لم يكتمل بناؤه، وكانوا يذهبون مع الموت فرادى، ونحملهم للقبور جماعات، ولا يمهلنا الموت أن ننسى طريق المقبرة. ومع الوقت ألفنا الموت، توقعناه ضيفاً ثقيل الظل يأتي فجأة، فوضعنا له كأسا وطبق على كل مائدة، وتركنا له كرسياً في كل جلسة، ومع مرور الأيام، عندما يصبح الرفاق الذين رافقوه أكثر من الذين بقوا في حياتك، ستعلم أن البقاء حياً قد يكون في الكثير من الأحيان خيار أسوأ من الذهاب برفقة الموت.

عندما تكبر بسرعة، وتعتقد أنك ستموت بسرعة أيضاً، تسعى بنفس تلك السرعة لأن تغنم من الحياة أي جزء ممكن، ستجري نحو الحب بسرعة، ستقع كثيراً، وتجرح كثيراً، وقد تزيد جراح قلبك عن جراح جسدك ألما وفداحة، هناك عندما يكون الموت هو الرفيق الذي يأخذ الجميع من حولك، يصبح الحب هو مأمنك المأمول، فهناك يمكنك أن تنتصر على الموت.

لقد كان عمري أربع عشرة سنة عندما وقعت أول مرة، قد يكون ذلك مضحكا في هذه الأيام، لكن في أيامي تلك، كنت قد دفنت ما يزيد على عشر رفاق، ولم أكن أتوقع من نفسي أن أتم الثمانية عشر عاما من العمر، وبذلك فقد كنت متأخرا عن الحياة، ومتلهفاً لها، وقد دخلت الحب كل مرة بنفس اللهفة والشجاعة، وقد كنت جاداً على الدوام، فعلى الرغم من كون العلاقات العاطفية محض العاب شد وجذب متوترة بين شخصين، إلا أنني لم أخن إحداهن البتة، ولم أبتغ سواها معها، فقد كنت على الدوام مقتنعا باختياري ومؤمنا به -وهو أمر غبي في الحقيقة- وحيث أنني لم أتمرس الكذب أو اللعب، ففي العادة لم تدم علاقاتي طويلاً، فلقد تركني جميع من أحببت، وأحببت كل مرة كما لو أنني لم أحبب من قبل، وقد كنت وحيداً معهن جميعاً.

لا أعلم بحق ما هي الحياة، أعرف أنها مرتبطة بالموت، أو بالأصح أنها غيابه، ولكنني في غياب الموت لا أشعر أنني حي بالحقيقة، ما الذي يعنيه أن نحيا؟، هل هي أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس؟، أم أن نحارب ونقاتل ونموت؟، هل هي أن نحب؟، هل هي أن نكتب؟، أن نرقص؟، أن نصلي؟، ما الذي تعنيه هذه الملعنة التي تدعى حياة، ها أنا في نهاية النصف الأول من ثلاثينيات عمري، لا أعرف ما الذي يعنيه أن أعيش حقاً، ولا أعلم كيف يمكنني أن أعيش، لكنني أعلم أنني أحتاج القليل القليل من الأشياء في هذه الدنيا، وأعلم أنني تعب جدا ومرهق، وكلما مددت يدي لرفيق يؤنس وحدتي، كسر أصابعها وردها إلي، وأنا الذي فقد الطاقة اللازمة للعتاب، أكتب كثيراً لأنني لا أملك شخصا واحدا أتحدث اليه بدون خوف، ولا حضن آوي إليه كما أنا فيحتوي كل ما أنا فيه من تناقض، ويخبرني بأنني لست وحدي.

أشتهي على الدوام أن أمتلك من الأرض ما يكفيني لأزرع بستانا واسعا من كل ما يمكن أن يثمر، وشاطيء اصطاد السمك عليه، أشتهي أن لا يكون هناك مواعيد سوى مواعيد السماء والأرض، تنضج الحبة فنقطفها، أشتهي أن يشاركني هذه الحياة إحداهن، لا يهمني الكثير في الحقيقة، أشتهي أن تستطيع فهمي، أن تكون معي، أن تسمعني عندما أشعر برغبة في الكلام، أن لا توافقني الرأي على الدوام، أن تحاورني بما تريد، وأن تكون صادقة حقاً، هل كثير أن أشتهي الصدق؟، أليس من الجميل أن يكون أحدهم صادقاً معك على الدوام!. أشتهي أن لا أكون وحيداً بعد اليوم، وأن أمتلك أرضي، وقتي وحياتي، وأن أكون حراً كطير، وبسيطا ككأس ماء، واشتهي أن أحِبّ، وأن أحَبّ، وأن أعيش، وأن أموت. 

عن البيت، شجرة التوت وطعم الحب.

منذ أن وعيت على هذا العالم، والبيت مرتبط في ذاكرتي بشجرة توت كبيرة، نقتطف حباتها برفق، تصبغ ثيابنا ليلاحقنا توبيخ أمي الدائم بسبب تلويثنا الثياب المغسولة حديثاً بلون التوت البنفسجي، وشجرة التوت لمن لا يعلم، هي شجرة عظيمة الحجم، كثيرة الاغصان، تهبط اغصانها الطرية برفق نحو الأرض عندما يقترب نضج الثمار، وتحمل ثمارا كثيرة جداً، تكفي لكي نأكل منها نحن وعصافير البرية والدجاجات الفجعة، ويبقى الكثير من التوت تحت الشجرة مهما قامت أمي أو جدتي بالتنظيف تحتها، حيث يكفي الحبة الناضجة مرور نسمة هواء عليلة من قربها لتقفز عن الغصن منطلقة ككرة صباغ بنفسجية في لعبة (paintball) لتقوم بتلوين اي شخص او سطح تقع عليه، ولك أن تتخيل منظرنا بعد خروجنا من معركة قطف التوت، وقد هززنا الاغصان بما يكفي لتنطلق الف حبة توت بكل الاتجاهات الممكنة ومسحنا ايدينا بقمصاننا النظيفة.

على الرغم من أن حياتي لم تكن يوما مستقرة في مكان واحد -منذ أن جئت الى هذه الدنيا- إلا أن جميع البيوت التي شعرت بها بدفء البيت حقاً، كان يوجد في زاوية منها شجرة توت ضخمة، وكأنما هي ضرورة في كل بيوتنا، كما هي دالية العنب، أو كأن كل كبار العائلة في كل مكان قطنوا فيه، يحاولون خلق صورة مشابهة للبلاد، في المنفى القريب والبعيد على حد سواء، وهو ما قمت انا بفعله بدوري عندما وصلت الرحلة الطويلة من تبديل البيوت والمناطق، والترحل من سقف الى سقف الى نهايتها المفترضة، حيث قمت بزراعة توتة جديدة، وثلاث شتلات من العنب قبل أي اشجار أخرى، وكأنما هذا هو الفعل الطبيعي وإعلان أن هذا المكان هو البيت -على الأقل مؤقتا-

في طفولتي في المنفى البعيد، كانت هناك شجرتا توت تعلنان البيت، شجرة التوت الواقفة في وسط ساحة بيت جدي في المخيم، وشجرة التوت فوق المخزن في بيت خالتي في الضاحية القريبة منه، وحيث أن طفولتي كانت عملية انتقال متكرر بين هذين البيتين، حيث كانت بنت خالتي تقوم برعايتي خلال فترة عمل أمي في المركز الصحي، ومن ثم نعود مساءا الى بيتنا في المخيم بجانب بيت جدي، فقد كنت امارس هوايتي القديمة والدائمة في قطف التوت وتلويث الثياب بشكل شبه يومي على طول موسم التوت.

عندما انتهت فترة النفي المؤقت التي غادرت بسببها البلاد أنا وأمي، وعدنا أخيرا الى المنفى القريب في مخيمات الوطن، وجدت بجانب بيت جدي هنا شجرة توت هي الأعظم في ذاكرتي، والأكثر كرماً، حيث لم يقتصر عطاؤها على التوت الذي يطعم كل مخلوقات الأرض، بل وكان ينبت الفطر اللذيذ تحتها وبين اوراقها المتساقطة، وقد كنت استيقظ يوميا للبحث عن الفطر تحت التوتة لكي احضره لجدتي لتصنع لي فطوري المفضل (بيض وفقع) بعد أن احضر لها البيض من عند الدجاج.

عندما كبرت التوتة في بيتنا الحالي وعظمت، وأصبحت تطعمنا بعد أن تشبع عصافير المنطقة، أصبح البيت بيتاً، دفء غريب يمكن لشجرة بسيطة أن تمدنا اياه، بالاضافة للكثير من الثمار الصغيرة سريعة التلف لذيذة الطعم، وكأنما هي طعم الجنة أو الحب، وحيث كاد جمال بخيت يصل السماء في قصيدته (شباك النبي) برأيي بسبب مقطع بسيط يبدأه ب”على باب الجنة يا طعم التوت” ولم يكن هناك تشبيه أبلغ من هذا في قلبي، وقد يكون أكثر أفعال المحبة التي قمت بها في حياتي تجاه إحداهن هي دعوتي لها بأن تقطف التوت من توتة بيتنا، وكأنما كل كلمات الحب في الحياة، تصبح بلا معنى إن لم تكن احداها (تعي نلقط توت).

عن الإشراف والإستشراف.

يمتلئ العالم اليوم بالكثير من الآمال الواسعة، والأحلام العريضة، مدعمة بخيال لا ينضب، وإدراك غير واقعي للواقع مستقًى من الكثير من الأفلام السينمائية وألعاب الفيديو، حيث يعتقد الفرد الجالس خلف الشاشة في معزل عن الحدث بجدارته في الحكم على الحدث والمشاركين فيه من خلال معطيات منقوصة تنحصر جميعها داخل كادر فيديو متوسط الجودة لا يتجاوز الدقيقة من الزمن، بدون إيلاء أي أهمية لأي من الظروف المحيطة والتي يجتزأ منها هذا الكادر، أو الأحداث السابقة واللاحقة لهذه الدقيقة، أو للوضع العام المحيط بالحدث أو الظروف الخاصة بموقع ومكان الحدث أو بالظروف الموضوعية والذاتية للحدث نفسه.
يقوم الأفراد في المجتمعات البشرية حيث أن البشر كائنات اجتماعية بالطبيعة، باستنباط قيمتهم الذاتية وشعورهم بالأهمية بناء على قيمة وأهمية المجتمع المنتمين له، وهو ما يجعل من التعصبات أمرا طبيعيا حيث لا يتجاوز انتماء الفرد الذاتي حدود الدائرة الضيقة التي تحيط بمجتمعه المختار، وحيث يمكن للفرد الانتماء لعدة مجتمعات مختلفة من نواح تصنيفية إلا أن تعامل الأفراد مع الانتماءات الخاصة بهم لا يختلف بشكله العام باختلاف هذا الانتماء، لكنما يتمايز بحديته اعتمادا على قوة الارتباط بينه وبين الجماعة التي ينتمي لها، حيث قد يغلب الانتماء الطائفي للفرد انتمائه السياسي أو الوطني أحياناً، وقد يتغلب انتمائه المناطقي على كل انتماءاته في أحيان أخرى.
إن رغبة المرء في التعالي في القيمة والمقام، تجعل العمل من أجل إرتفاع قيمة ومقام الجماعة التي ينتمي لها شغلاً يشغله، فيجعل الفرد يسعى بكل ما أوتي من قوة، للإسهام الفاعل في عزة ورفعة الجماعة، وهو فعل جماعي بالضرورة، حيث يمكن للكثير من الأفراد الذين لا يستطيع الواحد منهم إنجاز الأمر العظيم وحيداً منفرداً، في حال توفرت لهم قيادة فاعلة، القيام بالأمور المعجزة، والتحف المبهرة، رافعين من مجتمعاتهم فوق باقي الأمم عزة وفخاراً.
تعاني الجماعات اليوم في دواخلها من مرض الفردانية، حيث لا يدرك الفرد أن العمل الجماعي هو الطريق الوحيد للفعل المعجز، ويحاول كل من الأفراد أن يجد قيمة لذاته خارج جماعته، لكن طبيعته البشرية تأبى أن تترفع عن استقاء القيمة من الانتماء لجماعة، على الرغم من تضاؤل فعل الفرد في سبيل هذه الجماعة، فيجد الفرد نفسه في دوامة من انعدام جدوى الفعل الفردي في إعلاء شأن الجماعة، والرغبة في التسامي على الجماعات المنافسة له، لا يجد الفرد طريقاً سهلا لإعلاء قيمته الفردية سوى التقليل من أفعال الجماعات الأخرى، نازعاً عنها قيماً يدّعيها في جماعته، وهذا الفعل الفردي، على الرغم من فرديته العملية، إلا أنه لا يفتأ أن يتحول جماعياً، حيث تجد الأفراد العاجزين الضعفاء، ينقضون على الجماعة المستهدفة كذباب على جثة، وهو فعل على الرغم من قبحه إلا أن الأفراد القائمين به قد تدفعهم العاطفة أو الرغبة بالتخلص من شعور العجز، أو عدم القدرة على إحتمال الواقع، بالإضافة إلى سوء النية التي يحمله الجزء الأقبح منهم، والذين يجعلون من مهاجمة مبادئ وأخلاق وقيم المجتمعات الأخرى شغلاً شاغلاً وسبيلاً وحيدا للترقي.
فيديو طويل جدا في ثلاثين ثانية، أحدنا يقتل في بلدة حوارة برصاص جندي بعد اشتباك بالأيدي حيث يحاول الجندي اعتقاله، ويحاول شبان آخرون تخليصه من يدي الجندي، يسحب الجندي مسدسه من جرابه، يطلق النار على الشاب، يسقط بندقيته وهو يفعل ذلك، لا تتجاوز مدة بقاء البندقية في الأرض خمس ثوان، في شارع حوارة الرئيسي، لتضج شبكات التواصل الاجتماعي بعد ذلك بحالة غريبة من الاستشراف على الشبان الموجودين في الموقع، والإشراف على الأفعال الحاصلة في المقطع، يبرز فيها آلاف الخبراء العسكريون، الابطال الخارقون، بالإضافة للكثير من ردود الفعل العاطفية المدفوعة بالصدمة والرغبة في العمل، حيث يتجاهل الجميع بطريقة أو بأخرى الحقيقة الواقعة وراء المقطع، وهي أننا نقتل في كل وقت، وبكل الطرق الممكنة.
عودة للواقع، تقع بلدة حوارة بين حاجزين احتلاليين، محاطة بالمستوطنات من كل الجهات، متخمة بالجنود والمستوطنين المدججين بالسلاح على الدوام، حيث أن المسافة بين التصرف والمجزرة لا تتعدى الدقائق في أحسن الأحوال، حيث قيام أحد الموجودين بالاستيلاء على السلاح الملقى في الأرض، وإطلاق النار على الجندي ستؤدي بالضرورة إلى مجزرة حيث يتواجد العشرات من الجنود المدججون بالسلاح في محيط عشر ثوان من الحدث، بدون احتساب المئات من المستوطنين الذين يسكنون المستوطنات المجاورة، بعيدا عن انعدام فرصة الانسحاب من فكي الكماشة الاحتلالية المحيطة بحوارة من كل الجوانب.
يحتاج الفرد المعتاد على الفعل أو المدرب عليه لمدة تتراوح ما بين ثلثي الثانية والثلاث ثواني ليقوم بتصرف في حالة حصول حادثة غير متوقعة، ما يترك للفرد المدرب ثانيتين من الخمس ثوان التي لامست فيها البندقية الأرض ليقوم بالوصول لها، حملها وتصويبها تذخيرها واطلاق النار منها باتجاه الجندي، وعليه فعل كل ذلك تحت مرمى الجندي المدرب وسلاحه الملقم والجاهز لاطلاق النار على كل ما يتحرك حوله، وهو وقت غير كاف ووضع شبه مستحيل حال كون الشبان الموجودين في المقطع متدربين تدريبا كافيا للتصرف والتعامل مع السلاح، وذلك لو أهملنا كل العوامل الأخرى المحيطة بالحدث، ولو افترضنا أساسا إدراك الشباب لوجود السلاح على الأرض، وتجاهلنا دور الصدمة الكائنة بقتل الشاب الذي كانوا يحاولون باستماتة تخليصه من بين يدي الجندي، وضيق مساحة التفكير عند التعرض للخطر المفاجيء، وتأثير فوران الأدرينالين في دمائهم على قدرتهم على اتخاذ القرار، بعيدا عن أن مجرد محاولتهم تخليص الشاب من الاعتقال في ظل جميع الظروف المحيطة بالموقع الذي يتواجد فيه كل منهم، هو مخاطرة حقيقية بحياتهم أو حريتهم جميعاً.
نود جميعاً عندما نشاهد مقطعاً مثل هذا المقطع، لو ننقض على الجندي بأظافرنا وأسناننا، أن نقتله قتلة ما بعدها قتلة، تجتاحنا العاطفة البحتة والرغبة العارمة بالإنتقام من موتنا اليومي، نرى في كل شهيد يسقط أخوتنا وأبنائنا، أحبتنا الذين نذود عنهم بكل ما نملك من حياة، يخنقنا عجزنا، نطالب الذين كانوا هناك أن يقوموا بما لا نستطيع فعله، متناسين أو متجاهلين أننا هم، وأننا لو كنا في نفس المكان، لربما لم نأت بمثل ما فعل الواحد منهم، تطغى مشاعرنا على حسن تقديرنا للأمور، وننسى في كل ذلك، أن الحرب طويلة جداً، وأن البقاء من أجل القتال أدعى من الموت بدون القيام بشيء، وأن التمني لا يغني عن القدرة، وأن الإستعداد للمعركة جزء لا يتجزأ من المعركة نفسها، وأنه لا لوم علينا لو لم نمت.

عن وهم الترقي ومعضلة الطبقة الوسطى

إن تركيز الموارد الطبيعية في أيدي فئة قليلة من المجتمع البشري، يؤدي بالضرورة الى انقسام هذا المجتمع الى مستغِل ومستغَل، حيث يتمثل هذا الانقسام بظهور طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين، حيث تشكل الأغلبية المستغلة طبقة دنيا تعمل من أجل البقاء على قيد الحياة فقط، وتشكل الاقلية المستغِلة طبقة عليا تراكم القيمة الناتجة عن عمل الطبقة الدنيا في إعادة تشكيل الموارد وصناعة المنتجات والخدمات التي تسمح للطبقة العليا بتحسين مستواها المعيشي وزيادة رفاهيتها، حيث تقوم الفئة الطبقة العليا باستغلال احتياجات الحياة الاساسية للطبقة الدنيا من اجل توظيف طاقتها البشرية في عملية مراكمة فائض القيمة لديها مقابل توفير الحد الادنى من هذه الاحتياجات. وقد يكون هذا هو الحال في المجتمعات البشرية منذ أن هجرت مشاعها الأول وقام الرجال الأوائل باكتشاف إمكانية سيطرتهم على الموارد الطبيعية والدفاع عن حيازتهم لها باستخدام القوة والسلطة حيث يمكننا اعتبار ذلك بداية عصر الملكيات الفردية. 

امتاز العصر الأول للملكيات الفردية بوحشية طبيعية ناجمة عن بدائية المنظومة وعشوائيتها، حيث كان من السهل نسبياً حصول انقلابات في معادلات القوة والسلطة تؤدي لانتزاع الموارد من ملاكها وانتقالها لافراد من الطبقات الدنيا، حيث ان متطلبات حيازة الموارد كانت مرهونة بالقدرة على ذلك وامتلاك القوة الوحشية للحفاظ عليها، حيث كان التردي والترقي في المرتبة الطبقية للفرد أمراً مألوفاً، والقتال من أجل المرتبة الطبقية هو الأساس الطبيعي لموقع الفرد فيها، وهو ما أدى بالطبقات العليا بإعادة تشكيل المنظومة لدعم بقائها في المرتبة الطبقية والحفاظ على امتيازاتها الطبقية للمدة الأكبر، وهو ما استدعى منها اعادة تنظيم العلاقة بين الطبقتين العليا والدنيا وتقليل احتمالات الارتقاء والتردي، وهو ما أدى الى ظهور مفاهيم النبالة والتقديس، حيث أضافت الطبقات العليا لانفسها صفات روحانية وأجابات ما ورائية لاسئلة من ينتمي لأين، وتطبيع هذه المفاهيم في صفوف الطبقات الدنيا وهو ما أدى بنا لظهور العائلات النبيلة والمقدسة، وهو ما شكل النواة الاساسية للحاكم المقدس، والقوى والصفات العليا التي تجعل من الطبقة العليا عليا بطبيعتها وبارادة القوة الأعظم المالكة لكل ما هو كائن في هذا الكون، وقد تكون فكرة الاله المالك الوحيد هي أهم نقاط قوة المقدس، حيث أن فكرة وحدة المالك لكل شيء هي نسخة أكبر لفكرة الملكيات الفردية التي ظهرت في نهاية المشاع الأول، حيث انتقلت المقدسات من الهة متعددة متشاركة في القداسة والقوة، الى مالك اعظم وحيد يمتلك كل شيء، يعطي ما يريد من ما يملك لابناء العائلات المقدسة من طرفه وأتباعها، فيعطيهم الحق الغيبي بامتلاك ما يملكون، والحكم فوق كل من لا يملك.
قد يكون التغيير الروحاني في منظومة الملكية الفردية هو البوابة الرئيسة لدخول المجتمعات الانسانية المختلفة عصر الاقطاع، حيث أدى ظهور الملك (النبي/ المقدس) الى تحول منظومة حيازة الموارد الى علاقة باتجاه واحد من الأعلى للأسفل، حيث أصبحت القدسية المعطاة للطرف الأقوى في الطبقة العليا سببا بظهور طبقة جديدة داخل الطبقة العليا، وهو ما يؤدي بتحول الطبقة العليا الى طبقتين ذات علاقات تبعية، فأصبحت الموارد تمنح من الطبقى الأعلى للطبقة التي تليها، والتي تقوم برعاية الطبقة الدنيا التي تخضع لسيطرتها، وهو ما حول المجتمع الواسع الى مجتمعات متعددة متشابهة في التركيب الطبقي، أو ما يسمى اصطلاحا بالاقطاعيات، حيث يشير الاسم الى العلاقة بين المالك الاعلى والملاك الادنى، وتتكون الاقطاعية من اسرة اقطاعية (نبيلة)، وطبقة دنيا (عمال وفلاحون) حيث يمتلك الاقطاعي الارض المقتطعة له من قبل الحاكم الذي يملك كل شيء، وحيث كانت هذه العلاقة بين الحاكم والاقطاعي مرتهنة الى موازين القوى، حيث يمنح الحاكم المقدار الاكبر من الموارد للطرف الاقوى بين الاقطاعيين، فإنه من الممكن لنا تبسيط التعقيد الممنوح للمنظومة بتحويلها للشكل الهرمي حيث يقبع الخالق الغيبي فوق القمة تماما، والذي يمنح بقدسيته كل شيء يمتلكه للحاكم الاعلى المقدس وعائلته المشتركة معه بالقداسة، او خلفائه الممتلكين لنفس القيمة القدسية، فيصبحون رأسا لهرم المجتمع الانساني، وهم بذلك يمنحون اجزاءا مما يملكون لاطراف متعددة تتشارك المستوى المتوسط لهذا الهرم، ويشغل بقية المجتمع الجزء الاعظم منه وهم ما يشكل الطبقة الدنيا منه، وحيث أدت صراعات القوة المستمرة بين الملاك الفرديين منذ نشوء فكرة الملكية الى توسع الحاجة للقتال المستمر بين اطرافها للسيطرة على الجزء الاكبر الممكن من الموارد، فإن تكلفة القتال توسعت بتوسع المنظومة وهو ما أدى لضرورة تشكيل الجيوش المقاتلة بشكلها الأولي، وحيث كانت الجيوش في قوامها القابل للتخلص منه بالأساس مكونة من افراد الطبقة الدنيا، فقد كان من الضرورة بمكان منح الأفراد أسبابا اضافية من اجل منح حيواتهم في سبيلها، وهو ما استدعى من الطبقة العليا الى اعادة خلق أمل الترقي في الطبقة لدى الأفراد الأكثر اسهاما في تراكم الموارد في أيديها.

لقد أدى ظهور الطبقة الدنيا المتمرسة في القتال، بالإضافة الى أمل الصعود والترقي بين أفراد هذه الطبقة، جنبا الى جنب مع انهيار المقدس أو ضعف تأثيره مع الزمن إزاء ظهور مقدسات أخرى، أو انعدام تأثيره الروحاني على أفراد الطبقة الدنيا، الى بداية ظهور الحركات الثورية المنبثقة من الأفراد المقهورين في الطبقات الدنيا هادفة للوصول إلى الطبقات الأعلى من الهرم، حيث أن امتلاك القوة العسكرية والسلاح، بالاضافة الى القدرة على الحشد والإقناع، هي أساسات انتقال الحلم بالترقي والحصول على المكانة من طور المستحيل إلى طور الممكن، وقد أدت صراعات القوى ومناوشات طبقة النبلاء مع الحاكم المقدس وامتلاك الأفراد الإقطاعيون آمالهم السياسية الخاصة إلى ظهور الفرص المختلفة للتدهور والترقي بين الطبقات الثلاث، حيث أن بدائية القوة في تلك العصور واستناد القوة الى القدرة الجسدية والعقلية، بالاضافة لامتلاك السلاح نفسه أو القدرة على الحصول عليه، قد أدت لامكانية انهزام الاقطاعي أمام آخر أو صعود العسكري الفذ من مناصب الجندية الدنيا الى طبقة النبلاء، أضف الى ذلك امكانية سقوط المقدس واستبداله بمقدس آخر من صفوف الطبقة الاقطاعية النبيلة في الكثير من الحالات، أو الإبقاء عليه كحاكم شكلي في الكثير من المجتمعات الاقطاعية -فترة الشوغون في يابان العصور الوسطى والامبراطور المقدس مثالا- وهو ما دعى بالطبقات العليا في المجتمعات بالعمل على خلق تغيير جديد في المنظومة الاجتماعية سعيا للحفاظ على مكتسباتها وامتيازاتها الطبقية، وقد يكون من الممكن ربط هذا التغيير بظهور الجيش المحترف وانقسام الطبقة الدنيا الى طبقتين اجتماعيتين تمتلك احداهما امتيازات طبقية أعلى من الأخرى، حيث أصبحت طبقة المحاربين فوق طبقة الفلاحين والحرفيين، حيث أدت الامتيازات الطبقية الممنوحة لهذه الطبقات وزيادة آمالها وفرصها في الترقي إلى الطبقة الأعلى مرتبة الى خلق حالة من الولاء في صفوف الأفراد المنتمين لها باتجاه الطبقات الأعلى، والإحتقار للطبقات الأدنى. وحيث انتفت الحاجة لمنح الطبقة الدنيا الحق بامتلاك وحمل السلاح حيث انتهت فترة الفلاح المقاتل في صفوف المجتمعات الاقطاعية المتقدمة، فقد أصبح امتلاك الأفراد للسلاح خطرا طبقيا على مصالح الطبقات الأعلى وهو ما أدى لحملات منع حيازة السلاح المناسب للقتال، واقتصار السماح لما يستخدم في مهام عملهم اليومية من فؤوس وسكاكين ومناجل ومطارق. وقد استمرت هذه الفترة تقريبا الى بداية عصر الصناعة والثورة الصناعية الكبرى.

لقد أدت الثورة الصناعية الكبرى إلى تطور متسارع في امكانات الصناعة والتقنيات، وهو ما أدى الى زيادة ضخمة في فائض القيمة المنتجة من قبل الفرد العامل في إعادة تشكيل الموارد لصالح الطبقات العليا، وقد أدت أيضا تغيرات مضطردة في أساليب وتقنيات القتال وطبيعة ونوع السلاح المستخدم وكميته، إضافة لقدرته التدميرية وزيادة المسافة الفعالة له مما أدى الى تآكل أهمية الفارق الفردي بين المقاتلين، حيث أصبحت استراتيجيات القتال وأدواته أكثر أثرا من قدرات الأفراد المقاتلين الجسدية، وقد ادى تسارع الإنتاج، وتوحيده معيارياً إلى متطلبات معيارية للفرد المقاتل والذي أدى بالمجتمعات الطبقية إلى تطبيق الفلسفة الصناعية على الطبقات الأدنى واعتبارها موارد طبيعية يمكن اعادة تشكيلها لتتناسب مع هدف مراكمة القيمة لدى الطبقات الأعلى، وحيث تزامنت الثورات الصناعية في العالم مع الثورات الاجتماعية العظمى وانهيار شبه جماعي للمقدس وتحويله لحالة من الرمزية غير الحقيقية، إلى التغيير المظهري في صفوف مجتمعات الملكيات الفردية حيث ظهرت الوطنيات الحديثة والديمقراطيات الشكلية، مبنية على أساسات فلسفية تدور في فلك امتلاك الموارد الطبيعية وقيمها المضافة، بالإضافة الى الحفاظ على الطبقات الاساسية بحالتها السابقة وهو ما أودى بنا الى ظهور أنظمة الرأسماليات الحديثة.

تشترك الرأسماليات الحديثة مع أنظمة الملكيات الفردية القديمة بتركيز الموارد الطبيعية في يد فئة قليلة تشكل الطبقات العليا من مجتمعاتها، حيث تتمايز الطبقة العليا فيما بينها بمقدار حصتها وقدرتها على مراكمة الموارد، وتختلف معها بالأساليب المتبعة في التعامل مع الطبقات الدنيا واعتبارها جزءا من الموارد التي يؤدي امتلاكها إلى زيادة القدرة الانتاجية لدى طبقة الملاك، ونزع مسؤولية توفير الحد الأدنى للطبقات الدنيا عن الطبقات الأعلى واستبدالها بأجر محسوب مقابل العمل المنجز لصالح هذه الطبقات، حيث تقع المسؤولية الاسمية عن توفير الأساسيات على عاتق الفرد عن طريق العمل بأجر لدى الملاك، وهو ما يؤدي بالفرد في الطبقات الدنيا الى الانفصال المعنوي عن فعل الاستغلال المباشر وإعادة تشكيل العامل النفسي لهدف السيطرة على محاولات الترقي الطبقي لدى الفرد.

لقد أدت الثورات الإجتماعية الحديثة، إضافة إلى إلى التغيرات الحاصلة في المجتمعات ما بعد الصناعية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث وصل تطور الأدوار الانتاجية للافراد في المجتمع الرأسمالي إلى مراحل متقدمة متمايزة بتمايز الأدوار نفسها، وحيث اتجهت عملية تشكيل الموارد البشرية إلى معياريات مختلفة باختلاف الهدف من الإنتاج، ووصول فائض القيمة المراكم لدى الطبقة العليا حدودا يؤدي بها الى الاختناق بالمنتجات ما لم تستطع تصريفها وتسييلها من جديد لإعادة استخدامها، إلى عملية إعادة تشكيل المنظومة مرة أخرى والتعديل على ميكانيكيات عملها، وحيث أدى ظهور شبح الاشتراكية متزامنا مع معضلات الحرب العالمية الاولى الاقتصادية إلى تنامي شعور الخطر لدى الأنظمة الرأسمالية من إمكانية تدمير المنظومة من اساساتها، فقد قامت هذه الانظمة باعادة تشكيل المجتمعات الخاصة بها من أجل حماية مصالح الطبقات العليا فيه، وهو ما أدى بها إلى دعم النزعات الفردانية والاستهلاكية لدى أفراد الطبقات الدنيا من المجتمع، وإعادة تشكيل الطبقات بحيث يصبح السواد الأعظم من الأفراد في المجتمع في وضع محايد اقتصادياً، مع الحاجة لوجود الطبقة الأدنى على الدوام مع انتفاء الحاجة لتشكيلها للغالبية، حيث يجب على الفرد أن يستطيع النظر للأسفل كما ينظر للأعلى، حيث يجد نفسه متوسطا بين حلم وكابوس، مقتنعا بأنه هو وحده المسؤول عن قدرته على الترقي في الطبقات وصولا إلى قمة الهرم ليجلس في صفوف الرأسماليين الأعلى مرتبة. 

لقد أدى إختراع الطبقة الوسطى إلى إعادة تشكيل المجتمعات الحديثة، حيث يشعر الفرد المنتمي للطبقة بأنه قادر على العناية بنفسه كما يجب، ليس كما يريد، لكنه قادر على العناية بنفسه وعائلته، يستطيع أن يرى نفسه يترقى ويتطور في المسار الوظيفي لمستويات أعلى وأكثر رفاهية أو راحة، ما يدفع به للعمل أكثر في سبيل الترقية، الإنجاز، تحقيق الذات، والكثير من الأوهام التي تقوم الالة الرأسمالية بضخها في عقله، وحيث أصبحت هذه الآلة محملة بالاف السنين من التجارب والتطور، فإنها تقوم بفعل ذلك بنجاعة غير مسبوقة، لقد اكتشفت الرأسمالية، كيف ومن أين ولماذا تقوم بفعل كل شيء، يمكن للرأسمالية أن تقنعك بإحتياجك لتلفاز لا متناهي الجودة بعدد صور في الثانية أكثر من قدرة عينك على التمييز، يمكنك أن تشتريه وأنت لا تملك ما يكفيك لشراء الطعام بقية الشهر، ستقوم بتقسيط سعره على سنة قادمة، علما بأنك لا تشاهد التلفاز بالأساس سوى نصف ساعة مرة في الاسبوع لتشاهد الحلقة الجديدة من “one piece” بجودة لا تتجاوز “1080p”.

يمكن للفرد المراقب للمجتمعات من الخارج اليوم، أن يقوم برؤية انقسام المجتمعات الى طبقة رأسمالية عليا، محاطة بالكثير من الاوهام، لا يعلم المجتمع عنها سوى القليل، مقادير الثروة والقيمة الاسمية للأفراد الأبرز فيها، يشكل كل منهم حلما لموظف بسيط في بداية حياته، يحاول أن يحصل على حصته الخاصة من هذا العالم، وطبقة فقيرة مسحوقة، لا تستطيع العناية بنفسها أو توفير أساسيات عيشها، يشكل أفرادها ذلك الخوف العميق لدى أفراد الطبقة الأعلى منها بالانضمام لصفوفها، ووسيلة لتصريف الشعور بالمسؤولية لديهم حيث يقوم الفرد بمساعدة أسرة فقيرة بجزء ضئيل من وقت لآخر مشبعا بذلك رغبته الداخلية في تغيير العالم والتخلص من الظلم، وبين هاتين الطبقتين، يمكننا أن نجد الف طبقة أخرى، تشكل بمجموعها طبقة واحدة، موظفون وعاملون من اجل إنتاج القيمة التي يراكمها الأفراد في الطبقة العليا، وسوق تصريف للمنتجات وإعادة اسالتها في آن واحد، وكأن الرأسمالية نجحت في انتاج المعجزة الفيزيائية الكائنة بالالة مستمرة الحركة، واصبحت الطبقة الوسطى درعا وأداة وطريقا من أجل زيادة القيمة المراكمة في صفوف الطبقة العليا.

يمكن لكل منا الترقي في الطبقات لا المتناهية المكونة في مجموعها للطبقة الوسطى، يمكننا أن نتطور في مسارنا المهني، أن نزيد من محصلاتنا العلمية، مهاراتنا، إنجازاتنا الفردية، سمعتنا وقدرتنا على المنافسة مع إخوتنا في الطبقة، الصعود على أكتافهم والترقي الى طبقة بينية أعلى، طامحين بذلك بتحسين ظروفنا الحياتية، مستوى رفاهيتنا أو قدرتنا على مواجهة مصاعب الحياة، وحيث يشكل الأمل دافعا مهما في استمرارية السعي من أجل الوصول، إلا أن الوصول بحد ذاته ليس مطلقاً ولا حتمي، حيث يمكن التردي بسهولة أكبر في الطبقات، فإن الذهاب إلى الأسفل هو الطريق الطبيعي في هذه الأنظمة المدفوعة بالقيمة المتراكمة في أعلى، وكما يكون السقوط أسهل بكثير من التسلق حيث تقوم الجاذبية الارضية بشدنا إلى الأسفل على الدوام، فإن التردي الطبقي أسهل بكثير من الترقي في النظام الرأسمالي، حيث يجب لموازنة القيمة المنطلقة من الأسفل للأعلى سقوط الأفراد من طبقات أعلى لأدنى، وحيث أن الرأسمالية هي المتحكم الأساسي في حركة الترقي والتردي، يمكنها أن تنأى بنفسها عن تيارات التجاذب الداخلية والعمل على دفع كل الة بشرية متهالكة فقدت الفائدة المرجوة منها الى اسفل الهرم لضمان سيولة الطبقات في الطبقة الوسطى.

إن الاف الطبقات البينية المشكلة للطبقة الوسطى، جعلت من الطبقة الوسطى بحد ذاتها مجتمعاً منفصلاً اجتماعياً عن الطبقة العليا، حيث أنه من الممكن للفرد العمل الحثيث من أجل الصعود في السلم الطبقي وامتلاكه مزايا طبقية اضافية، إلا أن الترقي يحمل في طياته الكثير من المسؤوليات الاجتماعية والحياتية الإضافية التي تجعل من مراكمة الملكية للحد الذي ينقل الفرد لصفوف الطبقة الرأسمالية أمرا خيالياً، وحيث أن الإمتيازات الطبقية هذه يمكن لها أن تورث للجيل القادم من ابناء أفراد الطبقة، ما يمنحهم بدورهم فرصاً أعلى في الترقي في الطبقات الداخلية للطبقة الوسطى، بالاضافة للالتزامات الاجتماعية المرتبطة بالطبقة المنتمين لها، وهو ما يجعل من هذه الطبقات البينية أشبه بالأنسجة المعقدة من الياف كيفلار، والتي تشكل بطبقاتها المتتالية درعا قادرا على حماية الطبقة العليا من الأخطار، ودعم وجودها واستقرارها طويل الأمد.

يمتلك كل منا امتيازات طبقية مختلفة عن الآخرين، يرى كل منا هذه الامتيازات كأمر مسلم به، أو كنتيجة طبيعية لموقعنا الوظيفي والعملي، حيث لا يستطيع الفرد المنتمي لطبقة بينية ما في صفوف الطبقة الوسطى إدراك الفوارق الطبقية الحقيقية بينه وبين أقرانه المنتمين لطبقات أدنى، حيث أنه لا يستطيع إدراك طبيعة امتيازاته الطبقية بدون الاقتناع بوجود هذه الطبقات البينية، فحيث يرى أحدنا الذهاب الى السينما والخروج مرتين اسبوعيا لتناول الطعام في الخارج أمرا طبيعيا، فإنه لا يستطيع فهم -بالعادة- أن هذه التصرفات الطبيعية بالنسبة له، ليست طبيعية لدى أفراد آخرون من طبقة أدنى، على الرغم من تساوي الطبقتين بالوصول الى الصفر في نهاية الشهر، وحيث يتأصل الشعور بالعار المجتمعي بسبب عدم مقدرة مجاراة الاقران لدى الافراد من الطبقات الأدنى في الطبقة الوسطى بسبب الاقتناع بالمسؤولية الفردية تجاه المستوى الوظيفي، أو الشعور الدائم بعدم الاستحقاق الذي تزوده الالة الرأسمالية في نفوس الأفراد، فإن محاولاته المستمرة للظهور بمظهر اجتماعي اعلى من ما هو عليه في الحقيقة يؤدي به في الواقع بالتردي في الصفوف الطبقية، خالقا بذلك فجوة يقوم بسدها فرد آخر من طبقة أدنى يترقى ليحل مكانه في طبقته القديمة.

نحن اليوم في عالم متوحش، خلقته الرأسمالية خلال الاف السنين من التجارب والتعديلات، لا نمتلك في الواقع أي أمل فردي في الترقي أو التخلص من همومنا المجتمعية، تمتلك المصارف كل رفاهياتنا الزائفة، نجري وراء متع مؤقتة لا تضيف إلى كياناتنا الأصلية شيئاً، مقتنعون في خلاص فردي تجذبه لنا افكارنا الإيجابية ومنظورنا المتفائل للمستقبل، متأملين بحتمية الوصول خلف السعي، لكننا في الحقيقة، بهائم تدور حول نفسها في حلقة مفرغة لترفع الماء في السواقي، ليشربه البشر القاعدون هناك في قصورهم وبيوتهم، بغير خوف أو خشية، عالمين بأننا نحن من سيحميهم من أنفسنا، متحصنين بأمل الترقي وخوف التردي المستمر، وهنا أجلس لأكتب مقتنعا بأن الخلاص ممكن، لكن يجب علينا جميعاً العمل سويا من أجل هدم المنظومة من اساسها، واعادة تشكيل العالم، حيث يعود البشر الى مشاعهم الأول، يأخذون ما يحتاجون ليعيشوا حياة سعيدة هانئة، لا خوف بها عليهم ولا هم يحزنون.

عن الحزب والثورة.

يعاني الشعب الفلسطيني عامة وفي الضفة الغربية خاصة حالة غير مسبوقة من الفراغ السياسي -على الرغم من أننا نمتلك أكبر نسبة من الأحزاب لعدد الأفراد بين شعوب العالم أجمع-  حيث أدت ممارسات السلطة الفلسطينية في الأعوام الأخيرة، إضافة الى الترهل السياسي الذي أصاب القيادات الحزبية في الأحزاب الفلسطينية، إلى خلق حالة من فقدان الثقة الشعبية في الأحزاب السياسية وقدرتها على القيادة، والظمأ الشديد لوجود قيادة جديدة قادرة على تلبية طموحات الشعب الفلسطيني وآماله، وقيادته عبر الدرب الصعب نحو التحرر الوطني والحرية. يمتلك الشعب الفلسطيني تلك القدرة العجيبة للمقاومة المستمرة، وذلك على الرغم من كل الظروف المحيطة والتي قد تجعل استمرار الفلسطيني بالمقاومة عملا معجزاً بحد ذاته، إلا أن الفلسطيني لا زال يقاوم بشكل يومي، يدافع بلحمه الحي عن وجوده الجمعي، ويرفض بشكل مستمر كل محاولات تصفيته وتذويبه حد الاختفاء.

يمتزج الجمعي والفردي بشكل واضح في الواقع الفلسطيني، فحيث نشهد مرحلة تتزايد فيها أعمال المقاومة الموجهة نحو الاحتلال الاسرائيلي بشكل مطّرد، إلا أنها لا زالت بشكلها العام أعمالا فردية يقوم بها أفراد متفرقون من المجموع الشعبي، وفي بعض الحالات المبشرة يقوم الأفراد بتشكيل جماعات صغيرة وذلك في محاولة لزيادة أثر العمل المقاوم واقتداء بتجارب مشابهة تحصل بشكل متزامن في مناطق مختلفة داخل الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية، حيث يعلم الفرد الفلسطيني فطرياً أن الأثر الجمعي للفعل يفوق بمقادير مضاعفة أثر الأفعال الفردية لمكونات الجماعة، وهو ما يؤدي بالفاعل الفردي إلى السعي المستمر لتشكيل الفاعل الجماعي على صورة مجموعات مقاتلة تعمل من أجل هدف موحد، وهو في صورته الأبسط عبارة عن الصمود أمام الجيش المحتل، والقتال من أجل الحفاظ على أمن المجتمع الصغير -والذي يمتد ليصبح شعبا أو أمة- الذي تنتمي له المجموعة. 

على الرغم من اشتعال الضفة الحالي بالعمل المقاوم، ونشوة الحرب التي تجتاح هذا الشعب الممتد من ماء إلى ماء، إلا أنه من الأجدر بنا -نحن الذين نستطيع ذلك- أن نحافظ على آمالنا وأحلامنا في حدود واقعية ومنطقية، حيث لا يتوجب علينا تحميل مرحلتنا الحالية أكثر مما تستطيع أن تحتمل، حيث أن الإفراط بالأمل قد يودي بالإنسان إلى اليأس، أو -وهو الأسوأ- إلى الثقة بالنتيجة والركون لحتميتها، وهو ما يعود في الغالب لتحطيم إمكانية قيامه بما يجب من اجل الوصول الى هذه النتيجة نفسها، والغرق في يأس عميق قد يحتاج انتشاله منه الكثير من الجهد المبذول في سبيل إعادته إلى حالته الفاعلة، ودخول العمل في دورة لا نهائية من الأمل واليأس تؤدي بنا الى مراوحة أماكننا سنوناً طوال أكثر مما نحتمل.

يعرف الحزب في معاجم السياسة بالكثير من التعريفات المختلفة، وينقسم الحزب الى الكثير من الأنواع، وحيث أن هذا ليس المكان الأنسب، ولأنني كاتب ملول، فإنني سأختار تعريفا ووصفا بسيطاً للحزب حسبما أراه مناسبا لما أريد، وهنا يمكننا تعريف الحزب بأنه مجموعة من الأفراد ذات منهاج سياسي، ورؤيا مستقبلية، ومنهجية تطبيقية لتحقيق الرؤيا باستخدام المنهاج، وحيث يتكون الحزب من قيادة ذات قدرة على اتخاذ القرار، وأفراد منتمين للحزب، واثقون بقرارات قيادته السياسية، وفي حالة الأحزاب الثورية المقاومة يجب أن يتصف الحزب بتشيكل شبه عسكري، وذلك يتضمن قدرة الصف السياسي الأعلى على فهم المتغيرات الميدانية، وامتلاكها قدرة غير محدودة للمناورة في حدود المعطيات المادية المحيطة لظروف وجود الحزب، بالاضافة الى ضرورة عملها على المتطلبات المجتمعية الخاصة بالمجتمع المدني الذي يشكل حاضنته الشعبية ومخزونه البشري القادر على تزويده بشكل مستمر بالعناصر لاستبدال الخسائر التي لا بد من بذلها في طريق التحرر والثورة. 

يمكن لدبور واحد ابادة مملكة كاملة من النحل، يستطيع الدبور ذلك عن طريق الاقتراب بشكل كاف من حدود الخلية، وانتظار النحلة الغاضبة لتقوم بمهاجمته، حيث يستطيع القضاء عليها بسهولة نسبية، ومن ثم اعادة الكرة بضع مئات من المرات لحين القضاء على المجموع المقاتل للمملكة، وعلى الرغم من امكانية تعرض الدبور لإصابات متعددة خلال هذه العملية لكن النتيجة النهائية تكون باستطاعة الدبور للدخول إلى القفير والتوجه مباشرة نحو الملكة، حيث يؤدي قتلها لتحول مجتمع النحل لحالة فوضوية غير منتجة بسبب غياب القيادة، فيقوم المجموع القادر من النحل بمغادرة القفير وتركه مع النحل المتبقي للدبور الذي يتغذى على النحل المتبقي ويرقاته ومخزونه من العسل قبل أن يقوم بالانتقال لمهاجمة قفير آخر من النحل، لكن يوجد بعض سلالات النحل التي طورت من تقنياتها القتالية لمواجهة الهجوم الشرس للدبور عن طريق توجه مجموعة ضخمة من النحل للدبور، الإحاطة به بمجموع ضخم من الأفراد، والبدء بتحريك أجنحتها بسرعة عالية مما يؤدي لتوليد حرارة كافية لطبخ الدبور حياً في وسط الجماعة. 

تتصف الأعمال المقاومة في حالتها البدائية بصفة الفردية بشكلها العام في ظل غياب قيادة قادرة على توظيف الغضب والقهر الشعبي من وجود الظلم الى مجهود جماعي منظم، حيث يقاوم كل مقهور ومظلوم في هذا العالم الجهة المتسببة بقهره، وحيث يمكننا اعتبار مقاومة الظلم هو جزء أصيل في الطبيعة الإنسانية، إلا أنه في الواقع لا يتعدى أثر الأعمال المقاومة الفردية هنا هجوم نحلة واحدة على دبور شرس، حيث أنها وعلى الرغم من إمكانية توجيه ضربة مؤذية للدبور، لن تستطيع القضاء عليه نهائيا ما لم تتحول لفعل جماعي منظم، حيث يقوم الجمع الثائر بالتضحية بنفسه ليحترق البعض أو الكثير منه، في الطريق للتخلص من القهر والظلم بشكل نهائي، سامحين للبقية الباقية بالحياة بشكل مختلف، بدون وجوده. 

إن الثورة بصورتها المنتجة – أعني تلك المؤدية الى تغيير الواقع- ليست ذلك الغضب الغاشم من وجود الظلم، أو الهبة العاطفية في وجه الإحتلال، والتي -رغم أهميتها- ليست سوى دفاع يائس عن الوجود، وعلى الرغم من قدرة تكرار الهبات العاطفية هذه على اعادة تشكيل الوعي الشعبي بالظلم والحفاظ على جذوة المقاومة مشتعلة، لكن تحويل الجمرة الى جحيم مستعر يتطلب بالضرورة توحيد جهود المجموع الشعبي وافراده الغاضبين، باتجاه الهدف الجمعي المشترك، والمحافظة على إمداد هذه النار بالوقود اللازم لإحراق الظلم حتى يستحيل رمادا تذروه الرياح، وحيث أن الثورة هي ذلك الغضب العاقل، المدرك لمنهاجه ومنهجيته، القادر على بناء المستقبل حسب رؤيته، والقادر على اتخاذ القرارات اللازمة من أجل المحافظة على استمراريته، فإنه من الضروري للشعب الثائر، القيام ببناء الحزب الثوري من أجل المحافظة على استمرار الثورة.

قبل أسابيع قليلة، خرج الشعب الفلسطيني للشوارع في جموع فلسطين، استجابة لبيان مقتضب صدر عن مجموعة صغيرة من المقاتلين، موجه لمجتمعهم الصغير، تلقفته أمة كاملة، وخرجت في بيان أعظم من كل البيانات التي كتبت من قبل، حيث أبان الشعب في فجر ذلك اليوم، أننا جميعاً بلا استثناء في جوع شديد لقيادة تعرفنا وتحبنا، تقودنا نحو الحرب لندافع عنها بلحمنا الحي، لا أسفين ولا وجلين، مضحين بما نستطيع من أجل الحفاظ عليها، مؤمنين بها، حيث نرى بوجودها فلسطين حرة حقاً، وكأننا نشتم في البارود رائحة برتقال يافا وطعم بحرنا المسلوب، خرجنا جميعاً ملقين بياننا الحقيقي الوحيد، أنه لا ينقصنا سوى من يقود. 

لماذا نقاتل.

يقاتل البشر بعضهم بعضاً منذ أن قرر أحد ما قبل التاريخ المكتوب أن يسيطر على أكبر مساحة من الأرض ويمنع الآخرين من استغلالها، وحيث بدأت الحرب بالملكية الفردية، فإن انتهاء الحروب سينتهي بالضرورة بانتهائها، ويمكننا أن نرى في الواقع أن غالبية الحروب في التاريخ كانت تدفعها المصالح المادية بشكل أساسي، وعلى الرغم من مادية الحروب بحقيقتها البسيطة، إلا أن القتال بصورته الأكثر وضوحاً وبدائية ليس مدفوعا بذلك النوع من المصالح الذي يتراءى للغالبية العظمى منا عندما يفكر بماديتها، ومع أن القتال بطبيعته يجلب الكثير من الفوائد المادية للقليل من البشر، إلا أن المستفيدين من القتال بالعادة هم الذين لا يقاتلون.

تقاتل الأمم بعضها بعضاً من أجل زيادة حصتها من الموارد الطبيعية -النفط مثالا- أو من أجل زيادة قوة الايديولوجيا التي تعتنقها -الحروب الدينية مثلا- أو من أجل خليط من هذا وذاك، ويمكننا مشاهدة ذلك بشكل واضح في غالبية الاستعمارات الحديثة التي اكتشفت أن استبدال الثقافة الأصيلة لدى المستعمَر يؤدي لانتاج شعب جديد يتشابه ثقافياً -بالمظهر فقط- مع المستعمِر، وهو ما يتيح للمستعمِر إستمرار سيطرته على الموارد بدون أن يكون مضطراً للتعامل مع تبعات استعمار مجموعات بشرية ضخمة، حيث يقوم بنقل السلطة بشكل رسمي الى كيان سياسي هجين يتكون من طبقة نخبوية ترى في شعبها وثقافته الأصيلة مرضاً معدياً، وتتقزز من حقيقة انتمائها للشعب نفسه، فتقوم بممارسة ما كان يمارسه الاستعمار عليه، مع المحافظة على خطوط امداد المركز الاستعماري بالمواد الخام، مقابل خطوط توريد المنتجات الاستعمارية نحو الطرف المستعمَر، وهو ما يحقق للمركز الية لتصريف فائض الإنتاج لديه، مع ضمان مراكمته المستمرة لرأس المال والسيطرة عن بعد على الاطراف الاستعمارية التابعة له وضمان عدم صيرورة الأمور الى ما يؤدي به الى فقدان هذه السيطرة. وحيث يؤدي فشل النخبة التابعة في ضمان السيطرة الدائمة على اختلاجات التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار الى ظهور الثورات التحررية في المجتمع المستعمَر، والتي تكون عنيفة ودموية بطبيعة الحال، حيث لا يمكن للمرء خلع أظافره المتعفنة بدون اجتثاث لحمه معها.

خلال عصور الحروب القديمة، بعد انتهاء المعركة بتشتت صفوف العدو المقابل، كانت فرق الخيالة تتولى مهمة مطاردة العدو الهارب، وعلى الرغم من قدرة الحصان على الركض بسرعة أكبر من سرعة الجريح الهارب من القتال، إلا أن فرسان الطرف المنتصر لم يكونوا يحاولون اللحاق بالهاربين في الحقيقة، حيث إكتشف البشر منذ بداية زمن الحروب، أن انعدام الأمل بالنجاة، والتواجد في موقف لا فوز فيه قد يودي بالانسان للفوز، فحيث يعلم المرء أنه مقتول مهما فعل، سيتجاوز حدود المنطق البشري، ويقاتل كمن لا شيء لديه ليخسره، وهو ما يجعله أكثر خطورة بمراحل من ذلك الرجل الهارب من معركة ليوصل مأمنه، وأن فعل الملاحقة في الواقع يحمل في ثناياه هدفاً استراتيجياً مختلفاً عما يبدو عليه، حيث لا يحاول المنتصر القضاء على المهزوم في الواقع بل يحاول أن لا يمنحه الفرصة لإعادة تنظيم صفوفه، فيقوم بملاحقته بالقدر الكافي ليشتت جماعته ويوهمه بأنه سيقتله إن لحق به، ولا يدرك الخائف بأن الحصان لا يزال محافظاً على مسافة آمنة منه إلى أن لا يعود ممكناً أن ينتظم ورفاقه في صف مقاتل مرة أخرى، وتحسم المعركة.

على الرغم من كل أسباب القتال الماضية، حيث يتزايد زخم الفعل العسكري الفلسطيني بتغير المعطيات المحيطة، فقد يقاتل الفلسطيني أملاً بافتراجة مادية أو يأساً من موت أكيد، قد يقاتل للخلاص من إظفر متعفن في لحمه، أو من أجل الدفاع عن أيديولوجياته وثقافته، إلا أن الشعب الفلسطيني يقاتل لأسباب أخرى بالاضافة للقليل من هذا وذاك، وقد يكون من الصواب أن نقول أننا نقاتل في الحقيقة لأننا نحلم، يقاتل الفلسطيني لأنه يحلم بأن لا يكون كل ما قد كان، نحارب هنا بلحمنا ودمناً، وسلاحنا الفردي، بحجارة أرضنا، نحارب بالحياة والموت، لأننا نحلم أن لا تكون الحرب، نحن الذين نقتل في كل حين حتى لم يعد الموت يعنينا، نقاتل هنا من أجلكم جميعاً، نقاتل من أجل كل ابن عاهرة في هذا الكوكب،نقاتل لأننا نعلم بأن فلسطين هي البداية، وأن القضاء على الإحتلال، هو البداية في معركتنا الأزلية، للقضاء على كل شرور هذا العالم.

هنا في هذه الأرض المسماة فلسطين، شعب كامل يموت كل يوم، ويولد كل يوم، يمترس الحرب حتى لم يعد يعرف بدونها من هو، يقاتل ليحمي شعوب العالم أجمع من أن يلتهمهم وحش الإمبريالية المفترس، يقاتل لكي يجد يوماً ما، في أرضه السليبة، مكانا يستطيع فيه أبناء هذا الشعب المنتشرون في كل أصقاع الأرض، أن يحلموا بشيء آخر، سوى أن يموت الواحد منهم وهو يقاتل.

عن النفس الذي عاش ليعم البلاد

في أيار من العام الحادي والعشرين بعد الالف الثانية للميلاد، اضائت غزة قلوب الشعوب المتفرقة، لتصبح شعبا واحداً، واستلت سيفاً لتدافع عن عاصمة البلاد وجوهرة تاجها، المدينة التي وسمت بالسلام ولم تر يوماً سلاما، وقد يكون من الممكن لنا كشعب فلسطيني أن نؤرخ للتاريخ الفلسطيني بما قبل وما بعد هذه الحادثة -وكل أمور الكون حوادث- فحيث أصبح التحرير أمراً واقعا في قلوب كل من شكك بحتميته، حيث انهارت كل محاولات التدجين والترويض المستمرة في الضفة وغزة والداخل، هناك عندما شعرنا بالوحدة للمرة الأولى منذ أن فرقتنا الإتفاقيات، والهوس المستمر للسلطة، أصبحت فلسطين كلاً واحداً، وأصبح التحرير حلماً للجميع -ليس عندما تتحرر بل عندما نحررها- ونراه قريباً.

خلال هذا الشهر نفسه، شاب يقاتل برفقة رفاق منتقين منذ ما يربو على العام بقليل، يخاطب كل من يحمل البنادق، بنفس واثق ورأي سديد، مطالباً كل من يحمل السلاح باداء امانته، وتصويب فوهة بنادقهم إلى العدو، حيث المعركة الحقة، لا مع طيور الجو وغيومه. في الشهر اللاحق، يستيقظ العالم على “عاش النفس”، صوت في خلفية الرصاص المشتبك في جنين، فيديو قصير وثلاثة شهداء، من ضمنهم جميل العموري، المقاتل الذي رأى أن إهانة الرصاص في ارساله للهواء بينما تمتلك عدوا تقاتله، فخاض بشريفته معركة تصويب البوصلة.

بعد معركة سيف القدس، تغير العالم أجمع -في نظر الفلسطيني على الأقل- لقد آمننا بحرب تحرير تنطلق من غزة، تفتح فيها جبهات النار على العدو من جميع الإتجاهات، يساندنا فيها كل الحلفاء، لنعمل سويا من أجل تحرير بلادنا المسلوبة، والإنتصار على عدونا المشترك، وقد يكون أكثر ما قدمته لنا المعركة سوءاً، هو الإيمان القاطع بأننا لن نهزم، أو بأن غزة لن تهزم، وستحرر العالم كله لو أرادت، لكنها معادلات الدم، والرغبة في منع الموت عن الأطفال الذين سيبنون بلادنا بعد التحرير، “بعد التحرير” كانت الجملة الأكثر تداولا بين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم خلال السنة الماضية، هناك حيث ينتظر الجميع المعركة الفاصلة.

في انتظار المعركة، يختلف الدور الذي يقوم به الأفراد باختلاف اهوائهم وطباعهم، يقوم البعض بممارسة حياته كأنما لن تأت الحرب، يقوم الآخرون بانتظار المعركة والتفكير بها لحد يمنعهم من القيام بأي فعل آخر، تقوم القلة القليلة الباقية بالقتال في محاولة مستميتة لاستعجال الحرب، هنا حيث تصبح الحرب هي الخلاص الوحيد من حالة السكون القاتلة، حيث نقتل فرادى، يخنقنا الموت من كل جانب، ويقتلنا جنود خائفين، أو لاهين بأرواحنا، لا فرق في الحالتين سوى أن هذا ليس الموت الذي يعجبنا، وأن المهانة أن تموت جبانا، فيقومون باختيار موتهم المشتهى، في لظى المعارك، ويرسمون لنا حلماً آخر نحلمه جميعاً، شعب كامل يحلم أن يموت وهو يقاتل.

قد تكون أعظم مثالب الإيمان أنه يدعو للخمول، وقد تكون أعظم مثالب اليأس أنه مدعاة للاستسلام، وهنا في البلاد التي يقطع أوصالها المستوطنون يمنة ويسرة، حيث يدفع المقاتلون ثمن القتال من دمهم وخبز أولادهم، يمكنك أن ترى أثر ثنائية اليأس والأمل واضحا حيثما وليت وجهك، حيث يستلهم الناس دورهم اليومي في المعارك من أثرها المباشر عليهم. فحيث رأى الناس التحرير واقعا في سيف القدس، قام الشعب كله ليدعم من يقاتل، وعندما انتهت الحرب، عاد السواد الأعظم منهم لتدبير شؤون حياتهم منتظرين الحرب القادمة.

بعد ما يزيد على العام بقليل، انتهت معركة ما بسرعة لم نعهدها من قبل، معركة خرج منها الشعب كله ضائعا منكسراً، هناك حيث هزمنا في المعركة -ولا معنى لتسمية الهزيمة انتصارا إلا في الخطابات والقصائد- تلقى كل منا صفعة لا زالت تطن في أذنه حتى اللحظة، هناك حيث عرفنا أن غزة لن تستطيع تحريرنا وحدها، وحيث تكسرت قلوبنا التي رأتنا نحن لا أولادنا في شوارع حيفا بدون أن يزاحمنا فيها آخرون بعيون زرقاء وشعر أصفر، هنا حيث غص كل منا بحلمه، واستيقظ الجميع، وكان اليأس ينتشر في القلوب.

في السادس من شهر أيلول الأول بعد الهزيمة، تشرق على البلاد ستة أقمار وشمس واحدة، تتمدد في البلاد معيدة للقلوب نبضها، مؤكدة لنا أن النصر ممكن، وأن الحرية ممكنة، وأن العمل من أجل النصر أجدى من الخمول، وأن لن يهزم يوماً من كان يقاوم، هناك من تحت أرض جنين، استعاد الشعب حلمه، بدون يأس من النصر، ولا ركون لحتميته، وهناك في تلك اللحظات، عرف جميع أفراد الشعب، أن الوحوش غبار. ما بين معركة ومعركة، كان شبان صغار يبنون أحلامهم على إرث شوارعهم، يرون أن الحرب لن تخرج من غير أيديهم، يزرعون الأرض رصاصا وبنادق، ويقاتلون المحتل بشكل يومي، هم من رأى أن الأحلام إذا عظمت لن تصبح واقعا بدون دماء، حيث استمر الرصاص الذي اطلقه جميل بالتوالد في بنادق رفاقه، والإنتشار في البلاد تذروه الرياح، لينبت في كل مكان. عندما بدأ جميل الرصاص، كان أن عرفه طريقاً أوحداً للنصر، عندما أكمل رفاقه الدرب، كان الثأر وحنين الرفاق للرفاق.

يقاتل الفلسطيني مدفوعاً على الدوام بمشاعر فطرية قد لا يعرفها سواه، حيث لا يستطيع أحد ما تصور أن القتال -على صعوبته في كل مكان- يمكن أن يصبح أسلوباً وحيداً للبقاء، وأن يقوم فرد ما بالسعي المستمر للإقتراب من الموت رغبة في الحياة، وحيث تحاول كل جيوش الأرض إبعاد مقاتليها عن المعركة المباشرة، يسعى الفلسطيني للوقوف في أول الصفوف، قد يقتحم أحدهم النيران، أو يطلق رصاص مسدسه على دباب -على الرغم من عبثية الفعل- إلا أن الفلسطيني يقاتل لأنه الفعل الوحيد الذي يضمن وجوده الجمعي، حيث يعلم أن البقاء في أرضه وتحريرها لا يكون سوى أن يفتدي بنفسه أهله وأخوته، رفاق سلاحه، وكل فلسطيني على وجه البسيطة. واليوم، في العام الثاني والعشرين بعد الالف الثانية لميلاد الفلسطيني المصلوب، لا زال الفلسطيني يصلب، كل يوم، لكنه اليوم أصبح شعباً كاملاً يقاتل ليفتدي كل شعوب الكون، فهنا فقط يمكن للإنسان أن يكون.

قبل قرابة الألف عام، عندما جاء الغزاة الاوائل، سقط دم فلسطيني على أرض فلسطين، فأصبح جيشاً من أبناء البلاد، يتنفس الطفل منهم في شهيقه الأول نفس القتال، النفس الذي حاربنا به الغزاة جميعاً، حيث رحلوا وبقينا، ويرحلون، ويبقى النفس ممتدا من عبر البلاد، جاعلا من ابنائها زيتونا لها، ينزفون لها دمهم لتوقد به قناديلها، ويعيشون نفساً ممتداً، منتشراً ويقاتل.

عن التشكيلات المحاربة فطرياً وموت العجائز.

يمتلك الشعب الفلسطيني أكبر عدد من الفصائل بالمقارنة بعدد السكان في العالم تقريباً، حيث يمكن لما يقارب العشرين فلسطينيا الالتقاء في مكان واحد من دون أن يتلاقى منهم اثنان في الانتماء السياسي، تعاني معظم الفصائل الفلسطينية من حالة شيخوخة سياسية وترهل مزمن في الفعل الوطني – وهو طبيعي عندما تصبح قيادتك العليا بهذا العمر – حيث أن البقاء في الصف الأعلى من القيادة بدون انجازات وطنية يتسبب بالضرورة بالتصاق مزمن في المؤخرة وصعوبة بالغة في التقدم. تنضوي غالبية هذه الفصائل تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية والتي أصبحت تعنى بالكثير من الأشياء إلا التحرير -وهو ما يحصل عندما تقوم بالصمت الموافق على اتفاقية سلام مع المحتل بالضرورة- وحيث أن فتحنة السلطة وسلطنة فتح هي امتداد طبيعي لعملية فتحنة المنظمة، فقد أصبحت غالبية الفصائل هذه عبارة عن كيانات تابعة لحركة فتح ومنظومة السلطة بشكل عملي وفي داخل العقل الجمعي الفلسطيني حيث يمكنك سؤال فرد ما عن انتماء الأمين العام لأحد هذه الفصائل -في حينه- فيجيبك بدون تردد أنه فتح -مش ياسر عبد ربه- وهو ما يعني بكل بساطة تحول كل ما هو بجانب فتح الى فتح بشكل لا ارادي في داخل الوجدان الفلسطيني.

إن ارتباط الفصيل بالسلطة يودي بالفصيل نفسه الى تحمل تبعات كل اخفاقات هذه السلطة بشكل تلقائي، وحيث قامت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالذوبان شبه الكلي في منظومة السلطة وتحولت من حالة القتال من أجل اثبات نفسها في الشارع الفلسطيني الى القتال من أجل حصة من مكتسبات ومنافع المنصب السلطوي، فقد كان من الطبيعي انفلات الشعب الفلسطيني عن الفصائل بشكل تدريجي، حيث لا تجد اليوم من بين الشباب الفلسطيني من هو معبأ تنظيمياً بشكل حقيقي إلا نادراً ، حيث يتوارث الغالبية العظمى من الشباب غير النشط سياسياً معتقدات آبائهم التنظيمية بشكل عاطفي وبدون إدراك لأدبيات -أو لا أدبيات- الحزب او الحركة التي يحملون رايتها، وقد زاد من فداحة حالة اللاوعي السياسي هذه توقف عمليات التعبئة الفكرية من قبل الأحزاب تجاه أفراد الشعب حيث لم يعد مهما للحزب عدد أو نوعية المنتسبين له بعد أن ضمن حصته من وزارات الحكومة القادمة.

إن الرابط بين الشعب والسلطة -أي شعب وأي سلطة- مبني بشكل أساس على الدفاع عن حقوق الشعب وحياته، الحفاظ على كرامته، والعمل من أجل مصلحته، وعندما ينتفي أي من هذه الصفات عن السلطة تكون هذه السلطة قد وضعت نفسها في الخندق المقابل للشعب، وأصبحت في حالة من الخطر قد تودي بها لاعتبارها عدوا للشعب، وهو ما يودي بالشعب في النهاية إلى القيام بخلع السلطة من مكانها وانشاء سلطة أخرى، إن كان بشكل من اشكال الديمقراطية الدورية، أو بثورة دموية، حيث يمتليء التاريخ بالكثير من الأمثلة على كل منها. وفي الحالة الفلسطينية، تقوم السلطة منذ ما يزيد على عقد من الزمان -منذ انتهاء الانتفاضة الثانية- بالتنكر لكل من هذه الصفات، وتقوم بشكل واضح ومباشر بالقيام بما كانت تقوم به بالخفاء خلال فترتها الأولى -من أوسلو إلى الانتفاضة- حيث تقوم بحماية العدو والعمل من أجل مصلحته، وتجاهل متطلبات الشعب الفلسطيني الأساسية، واستفزاز ذكاؤه بتصرفات بهلوانية غبية من حين إلى آخر -تركيب حمايات لشبابيك المواطنين في مكان ما على سبيل المثال- في حين تمتلك هذه السلطة القوة اللازمة لقمع الشعب المحتج ضد تصرف ما -أو حتى استقبال أسير محرر- بالحديد والنار، في الوقت نفسه التي تقوم باخلاء الشوارع من منتصف سيادة السلطة في مدينة ما لمجرد اقتحامها بوحدة من ثلاثة جنود في عربة غير مصفحة.

تعاني الفصائل المعارضة لمنظومة السلطة جموداً تنظيمياً عاما في الضفة الغربية، حيث أن التشكيلات القيادية التقليدية الجامدة تعتبر أكثر تأثراً بالملاحقة الحثيثة التي يمارسها العدو وأدواته لقنوات الدعم والتخطيط والإدارة الخاصة بالعمل التنظيمي، وبنفس الوقت فإن القيادة التنظيمية لهذه الفصائل ليست مدركة بالضرورة لإختلاف الظروف الموضوعية في واقع الضفة الغربية عن مجال عملها الرئيس في غزة، وحيث أن عملية استنساخ اليات العمل القائمة في غزة لتطبيقها في الضفة الغربية هي عملية محكومة بالفشل بالضرورة، فإن العمل المقاوم لهذه الفصائل في الضفة الغربية لا يتعدى عملية تبني أعمال شبه فردية بمجهود شخصي من القائمين عليها، حيث ينتمي الأفراد المنفذين لهذه الفصائل بدون وجود دعم حقيقي على أرض الواقع أو شحه في أكثر الحالات تفاؤلاً، وهو ما يجعل من عمل فصائل المقاومة في الضفة الغربية بحقيقته عملاً شعبياً بتخطيط وتنفيذ فردي أو ميداني في أكثر حالاته إتساعاً.

يمارس الطفل الفلسطيني في طفولته المنتشرة في حارات وأزقة وشوارع الضفة الغربية طفولة مبنية بشكل فطري على حالة الحرب، حيث تعتبر لعبة “عرب ويهود” أكثر العاب الشوارع الجماعية انتشارا في فلسطين، وهي لعبة ينقسم فيها الأطفال الى فريقين يخوضان معركة وهمية ببنادق خشبية وحجارة في أزقة الحارات، والتي قد يشارك فيها أطفال من حارات مجاورة لتمتد وتصبح ساحة معركة تشمل كل زقاق وحاكورة في البلدة أو المخيم، يخوض فيها الأطفال تدريبا عمليا على القتال، القيادة، التخطيط والاستراتيجيا العسكرية، التمترس ونصب الكمائن، وحيث تنتشر هذه الالعاب بالعادة في صفوف الأطفال من الأسر الأقل قدرة على توفير اساليب اللعب الحديثة لاطفالها، فإنه من الممكن ملاحظة مدى انخراط هذه المناطق في العمل المقاوم وقدرتها على المناورة والاشتباك، وهو أمر طبيعي.

من أكثر الالعاب التي أثارت اهتمامي في خلال طفولتي في المخيم، هي لعبة كنا ندعوها الخارطة، حيث كانت تشبه اللعبة الاشهر في وقتها “عرب ويهود” مع اضافة بعد استخباراتي لها، حيث كان يجب على كل فريق من الفريقين اختيار موقع يرسم به خارطة للخطة الخاصة به، والتي يجب عليه الالتزام بها من دون أي يستطيع الفريق الاخر اكتشافها والوصول لها، وفي نفس الوقت عليك محاولة الحصول على خارطة العدو عن طريق التغلب عليه واكتشاف واقتحام مقره الموجودة به الخارطة، وحيث كان يوجد لكل فريق قائد يجب عليه ان يقوم بالتعديل على الخطة وتحديد المهام القادمة فكان لا بد من وجود خط اتصال فعلي بين القائد والفريق المقاتل، وهو ما يؤدي لاكتشاف المقر الخاص بالعدو، لكن ما كان أكثر اثارة للإهتمام في جميع هذه الالعاب العسكرية هو مرونة القيادة، حيث تتحول القيادة من حالة الجمود الى حالة السيولة في شوارع المخيم -وأعتقد أنها كذلك في شوارع البلدات القديمة والقرى في الضفة- فعندما كان يضطر القائد لمغادرة الفريق لأي سبب كان -أن تناديه أمه مثلا- كان يحل محله فرد آخر بدون أن يؤدي ذلك إلى اختلال في الية عمل الفريق، فلم يكن تحييد القائد مؤثرا على سير المعركة بالشكل الذي يؤدي للخسارة.

إن واقع الضفة اليوم، يجعل من الواضح بما لا يقبل الشك ضرورة موت القيادات الفصائلية بصورتها الهرمية الجامدة، وهو ما يعني في الواقع الموت الاكلينيكي للفصائل والتنظيمات الفلسطينية وتحولها الى مجرد أفكار عامة واطارات نظرية لا تؤثر على وحدة الجماعة المقاتلة، والخروج من صندوق الفصيل والحركة والتوجه نحو الحالة الفطرية التي يمارسها اطفالنا من القتال، نشاهد اليوم أطفال الأمس اللاهين بالعاب عسكرية، وقد امتشقوا بنادقهم، وخلقوا من اللاشيء اشياءا تضيء قلوب الشعب الفلسطيني كله، رافضين الخضوع للأمر الواقع، متخلين عن رايات فصائلهم، ليخلقوا لنا حلماً من اللا شيء، مختارين لأنفسهم اسماء مشابهة لما كنا نسمي بها جماعات لعبنا في شوارع المخيم، فيصبحون عشا للدبابير حينا، وعريناً للأسود حيناً آخر، يعرف كل منهم الآخر كما يعرف نفسه، يخرجون من لحم الشعب ليحاربوا من أجله، وليجعلوا من أكثر أيام تاريخنا عتمة، نوراً يخطف الأبصار، بتمويل ذاتي، وقيادات سائلة، ومواقع آمنة يدافع عنها بشراسة من قبل الجميع، وتنتقل بانتقال الجميع الى مكان آخر، حيث شب الأطفال سوياً، محاربين كتفاً إلى كتف، استعداداً لهذه المعركة التي تشتعل اليوم في جميع أنحاء الضفة الغربية، بعتاد عسكري اشتراه الفقراء، لحرب يخوضونها سوياً، منذ الأزل.

من جنين الى العرين، الإنفصال المناطقي في الطريق إلى التحرير الكامل

في الفترة اللاحقة لإتفاقية اوسلو بين منظمة التحرير والإحتلال الاسرائيلي، تم تسليم السيطرة الأمنية في جزء من الضفة الغربية والمصنف كمناطق ذات سيادة فلسطينية كاملة أو جزئية بالتدريج لقوات الأمن الفلسطينية المبتكرة حديثا وذلك في عملية من مراحل يطلق عليها اصطلاحا عملية اعادة الانتشار، وهي الخطوة اللاحقة للاتفاق القاضي بكون غزة، آريحا أولاً، وفور تنفيذ اعادة الانتشار، اصطدمت السلطة الحديثة في أراضي الضفة الغربية بوجود المعارضة المكونة بشكل أساسي من عناصر حركتي حماس والجهاد الاسلامي، والتي ترفض جملة وتفصيلا الإتفاقية السلام المذلة الموقعة من قبل المنظمة ممثلة لعموم فصائلها المختلفة، وقد واجهت السلطة هذه المعارضة بالحديد والنار حينا وبالدبلوماسية حينا، وبتوفير المعلومات وتسهيل عملية تحييد المجموعات من قبل العدو أحيانا أخرى، مما أدى إلى تدهور في مقدرات المقاومة ونطاقات عملها، ومع بقاء المقاومة الشعبية كفعل مقاوم غير قابل للإنهاء، حيث لا يستطيع الفلسطيني ألفة الجندي المدجج بالسلاح على أرضه بدون أن يقاوم وجوده كجسم غريب في جسده.

خلال الفترة الممتدة من سنة 1994 الى سنة 2000 قامت هبة شعبية وعسكرية قصيرة الأمد (هبة النفق) وعلى الرغم من تبني المستوى الرسمي لحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة والدفاع عن مقدساته، إلا أن نفس المستوى الرسمي قام باصدار أوامره لضباطه في المناطق التي تشهد عمليات اشتباك مسلح مع قوات العدو، أن تقوم باطلاق النار على كل من يقوم باطلاق النار نحو المناطق المسيطر عليها من قبل العدو، وحصر الاشتباك المسلح فقط في حالة الاقتحام الاسرائيلي للمناطق المسيطر عليها فلسطينياً، وقد تم معاقبة الضباط الرافضين للأوامر هذه بشكل فردي وبدون اثارة أي ضجيج على ذلك.

لقد كان من المستبعد على من شاهد الوضع العام في فلسطين في السنين ما بين 1998 و 2000 من توقع انفجار البلاد في انتفاضة مسلحة خارجة عن أي سيطرة، حيث كان يبدو للمراقب من الخارج أن السلام قد تم، حيث كانت المركبات الفلسطينية تصل الى باب العامود في القدس بدون أن تتوقف على حواجز اسرائيلية في الكثير من الأحيان، أو يتم تفتيشها بشكل روتيني وتافه في أحيان أخرى، وكانت الرحلة من رام الله الى غزة لا تتطلب منك سوى أن تركب في سيارة تمر بك من وسط الاراضي المحتلة عام 1948 الى غزة، بشكل فاق توقعات أكثر دعاة الحل السلمي تفاؤلاً، وفي نفس الوقت، كنا في مدرستنا الابتدائية، نشتبك بشكل شبه يومي مع جنود الاحتلال الذين يخرجون من المعسكر المقابل في احدى ضواحي القدس.

عندما انفجرت الانتفاضة كرد فعل شعبي على الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والتي كان اقتحام رئيس وزراء الاحتلال اريئيل شارون للمسجد الاقصى القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى الانفجار المتسارع في الأحداث، كانت السلطة الفلسطينية تعاني من تدهور في أفق المكتسبات المتوقعة من عملية السلام، وهو ما أدى بقيادتها السياسية إلى محاولة الإستفادة من حالة التوتر الشعبي والغضب للحصول على أكبر مكاسب ممكنة مقابل السيطرة على الشارع مرة أخرى وإعادته لمربع السلام الذي كان يبدو ممكنا قبله، مراهنة على قدرتها على ضبط الأمور عندما يلزم ذلك، وفي المقابل، فقد أدت تصريحات هذه القيادة السياسية، بالاضافة لسيطرة عدد كبير من الضباط المقاتلين في صفوف المنظمة سابقاً على مقاليد الأمور في الميدان، إلى تسارع الإشتعال وخروجه عن السيطرة بشكل غير مسبوق، وقد أدى وجود السلاح الفلسطيني -بسبب وجود قوات الأمن الفلسطينية بشكل أساس- وضعف امكانيات السيطرة على وروده الى البلاد، الى توفر السلاح بشكل مختلف عن المعتاد، وهو ما أدى إلى قيام الكثير من الأفراد المتلهفين للقتال، والمتشبعين بخيال المقاتل الفدائي الذي قاتل الدنيا في بيروت، إلى الإنضمام وتشكيل المجموعات المسلحة المختلفة، والتي بقيت تابعة بشكل سياسي وتنظيمي الى التنظيمات السياسية التي ينتمي لها كل منهم، وكانت تشكل هذه التنظيمات بشكل أو بآخر نوعا من الإطار المرجعي المركزي لكل المجموعات المسلحة المنضوية تحت جناحها. وبذلك ظهر نوع من الهرمية الغير منتظمة في تشكيلات القرارات العسكرية، مع وجود اختلالات احصائية خارجة عن القرارات المركزية وناجمة عن وجود القيادات الميدانية القوية.

لقد شكلت انتفاضة الأقصى والمقاومة المسلحة المشاركة فيها الكثير من العقبات والمشاكل الوجودية للقيادة السياسية والامنية لدى الاحتلال الاسرائيلي، وحيث أدى فشل الصف الأعلى من القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية من فرض الهدوء عندما حاول ذلك مرات متعددة الى تشكل قناعة بانعدام أهلية هذه القيادة للسيطرة على الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث ظهرت طموحات الأفراد الآخرين داخل هذا الصف القيادي للوصول الى قمة الهرم فقد قام الاحتلال باتخاذ القرار الأمني بالقضاء فيزيائيا على المقاومة المسلحة في فلسطين حيثما أمكن، وتحييد دورها حيث لا يمكن القضاء عليها، بالاضافة الى تحجيم والسيطرة على القيادة الغير مؤهلة حسبما يرون في السلطة الفلسطينية، حيث قامت قوات الاحتلال الاسرائيلي بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة ومتوحشة في كل المحافظات الفلسطينية، مسندة بعمليات اغتيال محددة الأهداف للقضاء على القيادات الميدانية للمقاومة، وضرب الحواضن الشعبية لها، وايقاف التدهور السريع في الوضع الأمني في الشارع الفلسطيني، وحيث شكلت المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، العقبة الأساسية في وجه الأهداف الاستراتيجية لهذه العمليات، بالاضافة لمراكز المدن الرئيسية، فقد تم ضرب جيوب المقاومة وحواضنها الشعبية خلال هذه العمليات بكل القوة العسكرية الممكنة والتي وصلت الى تسوية مخيم جنين بشكل شبه كلي بالارض.

في الفترة الممتدة بين نهاية العام 2004 والعام 2005، كانت العملية العسكرية الواسعة التي ينفذها جيش الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية المنتشرة في كل مواقع الالتحام قد وصلت الى نهاية العمر الافتراضي القابل للاحتمال من قبله، حيث لم يعد يستطيع الجيش الاسرائيلي مواصلة التعبئة اللازمة لامداد مواقع الاشتباك بالجنود والعتاد اللازم، وهو ما أدى به إلى اتخاذ قرار الانسحاب أحادي الجانب للحد من الخسائر المادية والمعنوية في المناطق الأكثر حرارة، وهو ما أدى به الى اخلاء قطاع غزة بالكامل من المستوطنات، بالاضافة الى ثلاث مستوطنات في منطقة جنين والتي شهدت نشاطا مقاوما مستمرا على الرغم من كل محاولات القضاء على الأعمدة الفقرية للمقاومة فيها وحواضنها الشعبية.

وحيث تزامنت عملية نهاية العمر الافتراضي للحملة العسكرية الواسعة ضد المقاومة الفلسطينية، مع التغير في صف القيادة السياسية الأعلى للسلطة الفلسطينية، وظهور قمة هرم بديلة تقوم بالعمل بشكل علني لتدمير مقدرات المقاومة بدلا عن سابقه والذي كان يحاول اكتساب المكاسب من وجودها، واثباته قدرته على قمع المقاومة المتعبة بعد سنين القتال الطويلة في مواجهة الترسانة العسكرية المتوحشة لجيش الاحتلال، وغياب القيادة الميدانية عن الكثير من المواقع وتدهور قدرات المقاومة فيها، فقد وجدت قوات الاحتلال الفرصة مواتية للقيام بانهاء العمليات بشكل يضمن لها الحد الأدنى من الأمن، فقامت بتوجيه ضربات جراحية لباقي الجيوب المقاومة الصامدة، وترك المجال للقيادة الفلسطينية لتنفيذ خططها وفرض الأمن بطرقها الخاصة، واستغلال عملية الفراغ السياسي المؤقت لفرض معادلات أمر واقع جديدة على الضفة الغربية، والخلاص من خطر قطاع غزة بشكل نهائي.

قامت حركة حماس في عام 2005 بالخطوة الأخطر في تاريخها السياسي حيث قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية التي عقدت في العام التالي، والتي أدت بشكل مفاجيء -وأعتقد أن حركة حماس قد كانت أكثر من تفاجأ- لفوز الحركة بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو ما يضعها في الموقف الذي يجب عليها فيه القيام بدور إداري واضح وتحميلها واجبات محددة لإدارة أمور الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وهو ما يجعل منها في قلب السلطة الموجودة في واقع جيوسياسي يتطلب منها القيام بالتعاون بشكل مباشر مع الاحتلال الاسرائيلي لتوفير المقدرات اللازمة لادارة أمور الحياة الأساسية تحت ظلها من صحة وتعليم وخلافه، وقد أدى عداء الحركة ورفضها للاتفاقيات التي قامت عليها السلطة الفلسطينية الى حصارها ماليا وسياسياً من قبل مؤسسة الرئاسة، حيث وجدت الرئاسة الفلسطينية في نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة فرصة لا تعوض لاغراقها بالواجبات وسحب الرضى الشعبي عنها، وهو ما أدى بحركة حماس لاتخاذ الخطوة التالية وفرض سيطرتها بالقوة على قطاع غزة، والذي أدى الانسحاب الاسرائيلي منه لمنحه أفضلية جيوسياسية عن الضفة الغربية والتي لا يمكن لسلطة ما أن تحكمها بشكل حقيقي من دون الاستسلام الجزئي على الاقل للاحتلال الاسرائيلي (راجع المقال التالي).

وحيث أدى انفصال قطاع غزة السياسي والاداري عن الضفة الغربية الى تعاظم مقدرات المقاومة هناك، وظهور تشكيلات عسكرية شبه نظامية وذات وظائف محددة وواضحة، إلا أنه أدى في ذات الوقت إلى حالة من الإنقطاع السياسي والعسكري لحركات وأحزاب المقاومة عن عناصرها والمنتمين لها في الضفة الغربية، وقد يكون ما زاد من حدة هذا الانفصال هو الحرب الاستخباراتية والأمنية التي تشنها السلطة معاونة الإحتلال على كل قنوات التسليح والتجهيز المساندة للعمل المقاوم، وقيامها بتدمير القيادات السياسية والاستراتيجية باستخدام الإنفصال الغزي كذريعة وتهمة تقوم باستخدامها بمراقبة ومعاقبة الكوادر النشطة في كل من حركات المقاومة الفاعلة في غزة، بالاضافة الى تطبيقها خطة مالية واجتماعية أدت لتقييد الكثير من أفراد الشعب الفلسطيني وارتهان اسباب عيشهم للمؤسسات المصرفية وهو ما حد من حرية الحركة الوطنية بكثير وأودى بالمقاومة في الضفة الغربية إلى التدهور لمستويات أدنى بمراحل من أي مستويات كانت قد وصلتها من قبل.

وأدى التوسع المضطرد للمستوطنات والتجمعات الاستيطانية في أراضي الضفة الغربية إلى انقسام المناطق الفلسطينية بعضها عن بعض، حيث لا يمكنك الانتقال من مدينة لأخرى تقريبا دون المرور تحت السيطرة الإحتلالية المباشرة. بالإضافة لحالة التجاهل شبه الكلي من قبل السلطة الفلسطينية لمحافظات الضفة خارج نطاق قصر الرئاسة (مبنى المقاطعة) ومجمع الوزارات الخاص بها، إلى تنامي الشعور بإنعدام وجود الإدارة المركزية للمناطق الفلسطينية لدى أفراد الشعب، وحيث أدى غياب الفعل الحزبي والإهتمام القيادي من قبل هذه الاحزاب بالضفة الغربية كجزء مهم من المعركة الدائمة، الى فقدان الثقة الشعبية بالاحزاب كمكونات سياسية مقاومة، حيث أصبحت الأحزاب أقرب للأيدولوجيات التي يعتنقها الأفراد بدون أي التزام سياسي أو انطواء تحت هرمية حزبية.

وقد تنامى الشعور بالأمان لدى قطعان المستوطنين في السنين الأخيرة لدرجة سمحت لهم بتشكيل العصابات ومهاجمة المواطنين في المناطق الفلسطينية، وهو ما يدرك كل طفل فلسطيني أنه نتيجة حتمية لإنعدام الفعل المقاوم الذي يضع هذه القطعان في دائرة الاستهداف، ومع تكرار المحاولات الفاشلة لاستنهاض العمل الحزبي في المدن والمحافظات لتحقيق انجازات مقاومة وحماية أمن الحواضن الشعبية من القطعان الاستيطانية الهائجة، فقد وصلت القناعات الفردية لدى ابناء هذا الشعب من الأجيال الجديدة، التي لم تر فترة قوة للأحزاب لتؤمن بها، وإنما عرفت أن المقاومة فقط هي السبيل لتحقيق الأمن الشخصي والعام، وهو ما أدى بالأفراد الاوائل من المقاومين الجدد في مخيم جنين الى بذل الغالي والرخيص في سبيل الحصول على العتاد، وحيث أصبحت الأحزاب مجرد شعارات وخطوط عريضة في رؤوس كل منهم فإننا لا نجد لدى أي منهم مشكلة في التعاون مع جميع الايدولوجيات من اجل الوصول الى هدفه العام ومراكمة المقدرات اللازمة من أجله فنجد افرادا حملت جميع الرايات، وقاتلت تحت جميع الالوية، وهنا يمكننا أن نرى بوضوح أن القتال هو الطريق.

يعاني كل من التجمعات الفلسطينية الموزعة كبقع جرباء على ظهر جمل أبلق من مشاكله الخاصة، والتي تنجم بشكل أو بآخر عن سببين لا ثالث لهما، وهو تغول الاحتلال وقطعانه واعتدائهم المستمر على مقدراته واسباب انتاجه وأمنه اليومي، وتخاذل السلطة وتجاهلها المستمر لأمن الشعب الفلسطيني وعملها المستمر من أجل اجهاض العمل المقاوم، وهو ما أوصل كل من الأفراد المقاومين بشكل فردي أو جماعي إلى النتيجة الحتمية، بكون الخندق المقابل يشترك فيه كل من السلطة الفلسطينية – أو صفها القيادي الأعلى على الأقل- والإحتلال، وأن الطريق الوحيد لتحقيق أمنه وحفظ جماعته هي في تجاوز الخلافات ورص الصفوف، والقتال، القتال الذي يطمح لتحقيق أهداف خاصة بمجتمعه الصغير وحيزه المكاني، مع ضرورة التعاون والدعم -المعنوي على الاقل- للمجموعات المشابهة في المواقع الأخرى، وهنا نرى جيوشا صغيرة تولد، في مناطق مختلفة، مجموعات تعلم أنها تقاتل وحدها في أرضها، لكنها تقاتل مع أفراد مجتمعها القريب، حيث يعرف كل فرد منهم إخوته ورفاقه في القتال، ينزفون معا، ويعملون معاً، وكأنما انفصلت المدن والمخيمات فصارت دولاً مستقلة، متحررة من كل ثقل قيادي خارج عنها، رافضة لقيادة لا تشترك معها بدم، وعاملة من أجل الإستقلال الصغير، وحرية المخيم والبلدة القديمة، كخطوة كبيرة في سبيل التحرير الكامل.