عن فضل القتال خلف خطوط العدو

يمر الشعب الفلسطيني حالياً في فترة مختلفة عن الفترات الماضية في تاريخه النضالي في الكثير من الجوانب، يتصدر المشهد القتالي في الضفة الغربية، شباب أغر، يقوم بخلق مقاومته الجديدة القديمة للوجود الإحتلالي على أرضه السليبة، متجاوزاً حدود الحزبية التي تحولت الى سجن للمقاتل، مترسماً بجميع الوان الطيف السياسي الفلسطيني، رافضا لكل محاولات التسوية والحلول المجزوئة، وذاهبا الى القتال بقلب لا يشغله سوى البلاد.

ولا يغيب عن المشهد محدودية الاهداف المختارة للمقاتلين، حيث يتركز الاشتباك بالعادة في نفس المحاور المعتادة والواضحة، حيث يبدو أن المقاتلين الجدد يعملون على الدوام باتجاه هدفين أساسيين ألا وهما الحفاظ على جمرة المعركة مشتعلة، ومواجهة والدفاع أمام المحاولات الاحتلالية المتكررة للقضاء على الوجود العسكري الفلسطيني، حيث يقوم المقاومون بمهاجمة المعسكرات والحواجز نفسها مرة تلو المرة، والوقوف امام الاقتحامات المتكررة بلحمهم الحي، برصاصهم البسيط وسلاحهم الفردي، وهو على الرغم من انعدام جدواه النظرية أمام الترسانة العسكرية المتطورة لجيش الاحتلال، إلا أن أثره الشعبي والمعنوي، وتسببه بانتشار رقعة القتال في مناطق عديدة في الضفة الغربية، يشكلان خطرا مصيريا على الوجود الاحتلالي، حيث ان انتشار المواجهات المسلحة وعودة عمليات اطلاق النار المتكررة وقتل الجنود والمستوطنين في عموم الضفة الغربية يحتاج لموارد بشرية ومالية هائلة لا يستطيع الكيان الاحتلالي توفيرها بدون أن يتكبد الخسائر الاقتصادية المتراكمة بسببها، حيث ان الإحتلال يعوض عن النقص البشري لديه باستخدام تقنيات الحرب الحديثة والارتكاز على سلاح الجو في الحروب وهو ما لن يكون كاف بشكل خاص عند انتشار المعارك في اراضي وبلدات الضفة الغربية، وهو ما سيؤدي به للقيام بعملية عسكرية خاطفة -حسبما يخطط هو- لانهاء وجود المقاومة في كل اماكن وجودها، وهذه العملية تحتاج منه استدعاء الاحتياط العسكري ونشر الوية المدرعات والمشاة الميكانيكية في الضفة الغربية، لتصبح المعركة معركة صمود المقاومة أمام الاجتياح الشامل او الجزئي لمدن أو تجمعات سكانية بأكملها، حيث لن يتورع العدو عن ايقاع أكبر قدر ممكن من الدمار المادي والبشري في صفوف الحواضن الشعبية للمقاومة.

إن تدمير الحواضن الشعبية للمقاومة، مجازياً أو فعلياً، هو ما قد يؤدي في النهاية لانحسار العمل المقاوم مرة اخرى الى بؤر عصية عن التدمير، وهذه البؤر شئنا أم ابينا محدودة ومعروفة في تاريخنا الفلسطيني، حيث أن إمكانية تحمل الخسائر بدون عائد معنوي محدودة -وهذه طبيعة بشرية- وهو ما نعرفه نحن، ويعرفه عدونا على حد سواء.

يمتلك الاحتلال الاسرائيلي ترسانة عسكرية متطورة، معتمدة بشكل شبه كلي على التقنيات الحديثة في عالم الاسلحة، وهو ما يجعل -بعيدا عن الرمسنة- مواجهة أي اجتياح اسرائيلي شامل باستخدام المقدرات المتواضعة للمقاومة وتوقع الانتصار بالمعركة ضرباً من الجنون، حيث تصبح الهزيمة المادية على الأرض أمرا واقعا، ويصبح الهدف الأساسي للمعركة ايقاع اكبر حجم ممكن من الخسائر البشرية في صفوف العدو قبل أن نموت، ليصبح دمنا مداداً لسطور جديدة من المقاومة، وحيث أن الشعب الفلسطيني أثبت على الدوام لامحدودية قدرته على استيعاب الخسائر المادية والبشرية، فإن أي هزيمة عسكرية تتحول لانتصار معنوي اذا حملت خسائر بشرية موجعة في صفوف العدو.

يعتمد العدو في عقيدته القتالية على سلاح الجو والمدرعات بشكل اساسي، حيث يضمن كل منهما له ايقاع أكبر ضرر ممكن في صفوف الشعب الفلسطيني بدون أن يعرض جنوده للخطر المباشر، وحيث يضمن العدو في الضفة الغربية عدم وجود السلاح اللازم لمواجهة المدرعات والطائرات الحربية والمسيرة، فإن احتمالية استخدام كل منهما في اطار عملية واسعة ضد المقاومة هو أمر متوقع، وحيث أنه ليس من المستبعد أن ينتهج العدو سياسة ايقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف المدنيين كنوع من الردع المعنوي والشعبي للمقاومة وحاضنتها الشعبية، وحيث أن السلاح المناسب لتحييد كل من سلاح المدرعات وسلاح الجو الاسرائيلي مفقود بشكل كلي من الضفة الغربية، فإن عملية ايقاع الخسائر في صفوف العدو ستظل محدودة وغير كافية لتحقيق الانتصار الفعلي على الارض.

ومن هنا يمكننا القول بأن عملية الانتصار مرتبطة بشكل مباشر بعدة عوامل مهمة، حيث يجب على الشعب الفلسطيني الحفاظ على الحالة المقاومة مستمرة على الدوام، وارهاق العدو باستنزاف موارده المادية والبشرية في معارك مستمرة، ومحاولة الحفاظ على الحاضنة الشعبية ومقدراتها وتقليل الخسائر الواقعة في صفوفها قدر الامكان، والعمل على مهاجمة الجبهة الداخلية للعدو ومضاعفة خسائره المادية والمعنوية، والحفاظ على ومراكمة مقدرات المقاومة، وهو ما يمكن تحقيقه في ظل الامكانيات الحالية بطريقة وحيدة -حسبما أرى- وهي نقل المعركة من خطوط التماس الى قلب العدو النابض والقتال خلف خطوط العدو.

إن عملية نقل المعركة إلى داخل التجمعات البشرية للعدو، وعلى الرغم من تعقيدها وصعوبة تحقيقها إلا أنها ممكنة وقابلة للتحقيق -حيث أثبت لنا المقاومون عدة مرات امكانية ذلك- وهو ما يجعل من القتال خلف خطوط العدو هدفاً واقعياً يجب العمل على تحقيقه بشكل جدي وممنهج، وايجاد خطوط امداد وتجهيز خاصة به. وحيث أن المجتمع المحتل يعتبر احد أكثر المجتمعات تسليحاً في العالم، فإن امكانية الحصول على السلاح المتطور في داخل التجمعات الاحتلالية قد يكون أسهل بكثير من الحصول عليه في الضفة الغربية وقنوات التسليح الموجودة بها، بالاضافة لوفرة الاهداف، حيث يتركز العامل البشري للعدو، وهو ما قد يمكن المقاومة من ايقاع خسائر اكبر في صفوف العدو، واطالة امد المعركة.

يمكن لنقل المعركة لداخل التجمعات البشرية للعدو إجراء عملية اخصاء دقيقة لكل من سلاح الجو والمدرعات، حيث يصبح كل منهما خيارا غير قابلا للإستخدام، فإن مشهد الجنود المشاة في وسط تل أبيب يشكل ضربة موجعة للجبهة الداخلية للاحتلال، ناهيك عن مشاهدة دبابات الميركافا أو ناقلات الجنود المدرعة من طرازي نمر وولف في شوارع المدن المحتلة بدلا عن شوارع الضفة الغربية أو على حدود قطاع غزة.

وعلى الرغم من ما ذكرت سابقاً، فإن أفضل فضائل القتال خلف خطوط العدو على الدوام، هو بث الشعور العارم بالعزة والأنفة في الكل الفلسطيني، حيث أننا نراهم يألمون كما نألم، ويعجزون كما نعجز، ويقتلون، وقد يكون مقطع فيديو قصير لا يتجاوز الثلاثين ثانية، للشهيد رعد موجها رصاصه نحو العدو، كاف لإعادة احياء الأمل في صفوف شعب كامل كان قد قارب على اليأس، فلا يمكنني سوى أن أتصور ما الذي ستفعله عاصفة من الرعود، في شعب يحترق شوقا للقتال.

عن السلطة والسيادة في جيوسياسة الأمر الواقع في الضفة الغربية

منذ بداية حلول السلطة الفلسطينية محل الإدارة المدنية لجيش الإحتلال، في إدارة مقدرات الشعب الفلسطيني القاطن في الضفة الغربية وقطاع غزة -لاحقا لتوقيع اتفاقات اوسلو 1 و 2- وهي تقوم بمخاطبة الشعب الفلسطيني بخطاب الدولة الفلسطينية ذات السيادة، والإعلان عن إنجازاتها الوطنية العظيمة -كما يتم التسويق لها- من انشاء المؤسسات والحصول على اعترافات دولية وغيرها من الإنجازات التي لا تقوم بتغيير الوضع السياسي للشعب القابع تحت الإحتلال نحو الأفضل بل وعلى العكس فإن المراقب للتغيرات الحاصلة على أرض الواقع سيلاحظ أن الوضع يتحرك بإنحدار متسارع نحو نقطة اللا عودة، حيث يستمر الوضع السياسي الفلسطيني بالتدهور حتى مرحلة لا يعود فيها من الممكن إجراء أي تقدم باتجاه الحرية والإستقلال.

بناءًا على إتفاقيات اوسلو الموقعة بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والإحتلال الاسرائيلي، تم تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام إدارية مختلفة (أ، ب، ج) حيث تخضع مناطق أ لسيطرة السلطة الفلسطينية الأمنية والمدنية -نظرياً- وتخضع مناطق ب لسيطرة السلطة الفلسطينية مدنياً ولسيطرة الإحتلال أمنياً، بينما تخضع مناطق التصنيف ج للسيطرة المدنية والأمنية الكاملة للإحتلال الاسرائيلي، وحيث أن مناطق التصنيف ج تشكل أكثر من 60% من مجمل أراضي الضفة الغربية، وهي في غالبيتها مناطق ذات كثافة سكانية فلسطينية منخفضة، حيث اعتمدت هذه التقسيمات الإدارية على تركيز السكان الفلسطينيين في المناطق كأساس لتصنيفها، وأبقت المناطق ذات القيمة الإقتصادية والطبيعية العظمى تحت التصنيف ج، حيث تعتبر المناطق ج مناطق غنية بالموارد الطبيعية، ذات قيمة زراعية عالية، أو ذات أهمية استراتيجية وعسكرية عالية.

تتوزع المناطق ذات التصنيفات أ و ب على ما يقارب 200 بقعة يفصل بينها مساحات من الأراضي المصنفة ج، تسيطر المستوطنات الإسرائيلية على ما يقارب 42% من مساحة أرض الضفة الغربية تتركز غالبيتها في مناطق التصنيف ج وبعض مناطق التصنيف ب، يصنف الإحتلال ما يقارب 20% من مساحة الضفة الغربية كمناطق عسكرية مغلقة، يسيطر الإحتلال على طرق الوصل بين التجمعات الفلسطينية بشكل كلي، 70% من مناطق التصنيف ج هي مناطق ممنوعة على الفلسطينيين، ويكاد يكون من المستحيل عليهم البناء والإنشاء في ال 30% الباقية منها، في المقابل يقوم الإحتلال بهدم المباني الفلسطينية في مناطق ج بحجة عدم الترخيص بشكل روتيني حيث أنه قد صدر منذ توقيع اتفاق اوسلو ما يزيد على 14000 أمر هدم بحق مباني ومنشآت فلسطينية في هذه المناطق. بالاضافة إلى ذلك قام الإحتلال بضم مستوطنات القدس الشرقية ومحيط مدينة القدس إلى نطاق صلاحية بلدية القدس وبذلك تصبح هذه المستوطنات خارج آمال أكثر المتفائلين بامكانية الحل السلمي.

إن مفردة السلطة في أكثر تعاريفها المعجمية بساطة تعني السيطرة والتحكم، وفي تعريفها الاصطلاحي هي قدرة الجهة او الشخص على فرض أنماط معينة للتعامل على أفراد آخرين، وبالمقابل تعني السيادة امتلاك الشخص او الجهة الحق في اتخاذ القرارات واتيان الأفعال بشكل مستقل بعيدا عن أي تأثيرات خارجية، ونظرا للتعاريف السابقة، يمكننا أن نرى بكل بساطة أن الوضع الجيوسياسي القائم في الضفة الغربية لا يسمح بأي طريقة كانت امتلاك الجهة الحاكمة لأي سلطة أو سيادة خارج السيطرة الإحتلالية المباشرة، ولكن في الواقع إن هذا الوضع بالتحديد هو ما يجعل أي جهة تحاول السيطرة على مقتضيات الحكم فيه مضطرة -إن لم تكن راغبة- بالتموضع في صف الإحتلال الاسرائيلي كعدو للشعب الفلسطيني.

رجوعا إلى الوضع الجيوسياسي للمنطقة، يمكننا ملاحظة أن سياسات الاستيطان والسيطرة الأمنية على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، وتسارع مستويات الاستيطان، حيث وصل عدد المستوطنون في مستوطنات الضفة الغربية فقط ما يقارب 350 الفا في العام 2018، هي سياسات فرض جغرافيا معينة على المجاميع الفلسطينية الباقية في أرضها بشق الأنفس، حيث تضع هذه السياسات السكان في حالة تجمع في ما يشبه الغيتوهات المفصولة عن بعضها، القابعة تحت مراقبة وسيطرة سلطات الاحتلال المباشرة، وحيث أن هذه الغيتوهات لا تملك الموارد الكافية للإستقلال -كل على حدة أو سويا- عن الإحتلال المسيطر على الموارد الطبيعية جميعا، فإنه ليس من الممكن قيام أي سلطة ذات سيادة في هذا الواقع، وعليه فإن محاولة إقامة أي نظام حكم مركزي هو فكرة لا واقعية في أحسن الحالات، ومتواطئة مع الاحتلال في اسوأها، حيث تحول الشعب الفلسطيني تحت هذه الانظمة إلى مجموعة من الأسرى في سجون متفرقة، حيث تكون منظومة الحكم المحلية في هذه الحالة أشبه بشركات تدير هذه السجون لمصلحتها الخاصة، حيث تتعامل هذه الشركات مع الأسرى -المواطنون في هذه الحالة- كمصادر دخل أو قطعان من الماشية تزداد قيمتها الانتاجية بتزايد أعدادها طالما لم تؤد هذه الزيادات إلى التسبب بمشاكل أمنية أو عمليات هروب من حيز السجن/ الغيتو، ونقل الضرر إلى مناطق المواطنة الطبيعية -المتمثلة بالإحتلال في هذه الحالة- حيث يعتبر السجناء/الشعب الفلسطيني كائنات أدنى مرتبة من البشر القاطنين خارج الأسوار.

في العام 2005 وبعد فشل الإحتلال الاسرائيلي في وقف اطلاق الصواريخ على مستوطنات قطاع غزة في الحملة التي شنها على المقاومة (أيام الغضب) في نهاية العام 2004، اتخذت القيادة السياسية العليا للاحتلال قرارا بالانسحاب من خمس وعشرون مستوطنة من ضمنها اربع مستوطنات في محافظة جنين بالاضافة لمستوطنات قطاع غزة كاملة، وعلى الرغم من كون هذا الانسحاب -فك الارتباط- احادي الجانب قد جاء بقرار احتلالي منفرد، لكنه وبلا شك كان نتيجة لاستمرار المقاومة في كل من قطاع غزة وجنين في تحميل هذا الاحتلال تكاليف باهضة لوجوده في هذه الجغرافيا، وحيث اصبح التشابك المعقد بين الوجود الفلسطيني والإحتلال سببا لتكليف هذا الجسم ما لا يستطيع المحافظة فيه على الأمر الواقع، وهو ما قام بتغيير الجغرافيا -والتاريخ فيما بعد- في كل من غزة المحاصرة، وجنين، حيث نشاهد اليوم بعد ستة عشر عاما من تلك اللحظة، مقاومة فلسطينية قادرة على فرض معادلات ردع، واستهداف العدو في مواقع حساسة، واستطاعت جنين الحفاظ على تموضعها المقاوم على الرغم من كل محاولات الاستلاب والسيطرة من قبل الإحتلال، أو أنصار الحلول السلمية، تاركة لنا كأبناء لهذا الشعب مثالا واضحا عن ما يحصل عندما يضع المقاتلون السلاح، ويتجهون لطاولات التفاوض، حيث يمكن لرأس حكومة ما، أن يوقفه جندي بلا رتبة على طريق رئيس، أو تختنق مدينة ما، بكل ما يمكن من مظاهر السلطة، بينما ينتهكها الجيش الإحتلالي بشكل شبه يومي، وما يمكن أن يحدث لو استطعنا، بمقدراتنا البسيطة فرض تغيير جزئي أو كلي على الواقع المفروض علينا، وأستطعنا بالمقاومة المسلحة -والمسلحة وحدها- الإفلات من فخ جغرافيا الأمر الواقع، متجهين بخطى ثابتة، نحو التحرر والإستقلال، بسيادة كاملة، في كل البلاد.

عن النساء والرجال.

خلال حديث قصير مع أحد الزملاء في العمل، وجهت كلامي إليه -مازحاً- بأننا سنقوم بالاستيلاء على كل أملاك الملاك -أمثاله- وتأميمها ضمن الكومونة التي سوف نقيمها في المستقبل القريب، وما كان منه إلا الرد بعفوية أنه موافق على الإنضمام للكومونة وتأميم الملكيات معنا بشرط أن تكون النساء مؤممة، هذا الرد الذي صدمني -على الرغم من مرور أشباهه كثيرا أمامي- كان دافعي الخفي للكتابة اليوم.

لا أكتب رأيي في العادة في المسألة النسوية، وذلك لأسباب عدة، أهمها كوني -أردت ذلك أم لم أرده- موجوداً في معسكر العدو، وكما أنني أرى انعدام أخلاقية المستوطن القاطن في وسط الكيان الإحتلالي الذي يتحدث في المسائل الخاصة بالشعب المحتل، فإنني أرى انعدام حقي في الحديث عن الموضوع النسوي وأنا رجل. وإنطلاقاً من هذه النقطة، فإنني هنا أود الإشارة إلى أن رأيي هنا يعبر عني فقط، وعن ما أراه حقا، بدون أن يكون له أي معنى سوى ذلك.

يرى الرجال النساء -في الغالب- كممتلكات شخصية، وقد تكون تلك النظرة في الواقع إمتدادا لنظرة المجتمع لهن، وعلى الرغم من اتجاه المجتمع حديثاً لإبداء غير هذه الصورة عنه، لكنها لا زالت متغلغلة في داخل لا وعي الأفراد، وهو الأمر الذي -إذا لم يتغير- سيؤدي لإعادة إنتاج النظرة نفسها بشكل لا نهائي وبطرق مختلفة، وهو ما لن يؤدي سوى إلى انتاج المزيد من أساليب السيطرة والهيمنة على النساء، بطرق أقل وضوحا وأعمق تأثيراً من السابق.

تعاني الحركات النسوية -برأيي- من مشكلة واضحة في نوعية الخطاب الذي تقدمه، والمنهجية التي تطرحها، حيث تتخذ غالبية تلك الحركات صفوفا نيوليبرالية في الخطاب والفلسفة، وتطرح منهجيات صدامية متطرفة تحاول قلب ميزان القوى بشكل عكسي بدلاً من محاولة تصليحه، وهو ما يؤدي الى مقاومة واضحة حتى من أقل الأطراف تطرفاً ورجعية في المعسكر المقابل، حيث أن إعادة تشكيل القمع والإضطهاد لن تؤدي إلا إلى المزيد من التطرف والرجعية، وإن فردانية الطروحات لن يؤدي لبناء المجتمع، بل في الواقع سوف يؤدي إلى زيادة تفسخه وانقسامه.

تتكون المجتمعات بالغالب من نسب متساوية من كلا الجنسين -هكذا تعمل الطبيعة- ويتكون المجتمع من العلاقات المختلفة بين أفراده، هذه العلاقات التي تؤدي بهم لتشكيل كل التشكيلات المختلفة التي يمكن للبشر تشكيلها كجماعات، وتقع العائلة في مركز هذه التشكيلات والأساس المحوري للمجتمع، وترتكز العائلة في الواقع على الإرتباط الجنسي الدائم بين رجل وامرأة – للصدفة فإن هذين المكونين هما مركز حديثنا اليوم- وهو ما يقودنا للحديث عن الجنس والعاطفة، كضرورة لفهم جدلية هذه العلاقة.

تدور العلاقات الإنسانية حول مفهوم السيطرة، حيث تقودها -مهما أردنا إنكار ذلك- رغباتنا الخاصة في السيطرة أو فقدانها في نواح متعددة، وحيث أن أي مجموعة تريد أن تستمر في إتجاهها نحو هدف واضح تحتاج وجود أحد أفرادها في موقع المسؤولية، فإن إختلاف الأشخاص ورغباتهم في السيطرة على الأشياء ربما لا يكون بالسوء الذي يبدو عليه، وعليه فإن العلاقة المثالية بين أي مجموعة من الأفراد هي تلك العلاقة التي تحقق لكل منهم رغباته الخاصة في السيطرة وفقدانها في الجوانب المتعددة، والتي يمتلك فيها القائد القدرة على الحفاظ على الهدف واضحا، والدرب سهلاً.

يدور الجنس حول السيطرة على الجسد والمتعة، على امتلاك القدرة على البعث بالطرف الآخر لمواقع أخرى لم يعرف بوجودها من قبل، قد يتبادل الطرفان السيطرة، قد يحتفظ أحد الأطراف بها، بينما قد يفضل الآخر خسارتها بشكل كلي، كل التوفيقات المختلفة بالموضوع صالحة وقابلة للتطبيق، ولكن المعضلة الأخلاقية التي يمتلكها المجتمع تتأتى من فرض توافقية معينة يكون فيها الرجل مسيطراً -أو العكس في عالم مواز- على كل شيء، بما فيها جسد المرأة، مما يجعل من العملية الجنسية حقاً مضموناً للرجل، والذي يؤدي -كما يؤدي كل ضمان للإمتياز بدون إرتباطه بالعمل- إلى إهمال الرجال لدورهم في هذه العملية، وعدم الإهتمام بشعور شركائهم -والذي يجب أن يكون هو الهدف الأساس منها- وهو ما يجعل عدم قدرة الرجل على إشعار النساء بالمتعة الجنسية هو المحور الرئيسي لغالبية الطرف التي تلقيها النساء عن الجنس.

إن الحب -كعاطفة- هو حالة مطلقة من فقدان السيطرة، فيما قد يبدو رغبة عميقة لدى الإنسان في أن يفقد السيطرة على مشاعره -ولو كان ذلك لفترة مؤقتة- كما لو أنه يستريح قليلاً من محاولته المستمرة في السيطرة على مشاعره طوال حياته، وهذه الاستراحة في وجود شخص آخر يبعث في روحك المتعبة الشعور بالأمان الكافي لك لكي تتوقف عن القلق من فقدانك السيطرة، وأن تستريح، وهنا يمكنني أن أجازف قليلاً وأقول أن الحب هو أن يستريح قلبك.

يمارس المجتمع السيطرة البطرياركية على أفراده بطرق واضحة تارة، ومبهمة أخرى، كلنا هنا بغض النظر كنا رجالاً أو نساء، خاضعون لهذه السيطرة، ضحايا مستمرة لمنظومة تم بناؤها منذ زمان قديم، عندما أصاب بعض الرجال جنون العظمة، وقرروا البدء في السيطرة على الموارد وفي مقدمتها الأرض -حيث أن المجتمعات كانت في تلك الفترة زراعية- وبسيطرتهم تلك على الأرض ظهرت الملكية الفردية، وهو ما أدى الى إعتبار كل وسائل الإنتاج بالتالي موارد قابلة للخصخصة، ويمكنني هنا إعتبار الملكية الفردية هي الأم لكل الشرور اللاحقة، من رق واستعباد، حيث يعتبر البشر مورداً يمكن خصخصته، وبالتالي تمت خصخصة كل شيء، امتلك الرجال الأكثر قوة أو نفوذا السيطرة على موارد أكثر، وأناس أكثر، وحيث أن الملكية الفردية أنبتت مشاكل جديدة مثل توارثها وتناقلها، فإن سيطرة الرجل/ المالك على حركة الملكية أدى لسيطرة الرجال على النساء حيث تم إعتبار النساء وسيلة من وسائل الإنتاج، حيث يمكن عن طريق السيطرة عليها السيطرة على إنتقال الملكية وضمان زيادتها، ويمكننا اعتبار البطرياركية هي المرادف المجتمعي للرأسمالية، حيث يسيطر رأس المال على وسائل الإنتاج ويزايد من رأسماله عن طريق الحصول على فائض القيمة، حيث يسيطر الرجال على النساء -بهدف السيطرة على التكاثر- ويزايدون من قوتهم المجتمعية عن طريق الحصول على أولاد أكثر، وبنات يمكن مبادلتهن أو تقديمهن مقابل نفوذ أو مكانة ناجمة عن النسب والتوارث.

إن السيطرة على الأفراد هي عملية معقدة وبطيئة، وبالتالي فإن عملية السيطرة على أكثر من نصف المجتمع هي عملية فائقة التعقيد، تلتزم من الفئة المسيطرة الحفاظ على الفئة المسيطر عليها في حالة سكون تنظيمي، وسلب الأفق الفكري منها، وتحويلها بطريقة ما إلى خط دفاع متقدم عن متحصلات الفئة المسيطرة، تقوم الطبقة الوسطى بهذا الدور في الرأسمالية، تعتقد الطبقة الوسطى بحريتها، بقدرتها على التقدم والترقي في المناصب لتنضم لصفوف الطبقة البرجوازية، تقوم البرجوازية بإتخاذ جميع الإجراءات اللازمة للحفاظ على هذا الإعتقاد موجوداً، ومستحيلاً في آن واحد، تقوم بتحديد الأجور والحفاظ عليها بمستويات كافية لخلق طبقات مايكروية داخل الطبقة الوسطى، مع الحفاظ على إنعدام إمكانية هذه الطبقة من التحصل على رأس المال، حيث أن إنتقال الفرد من طبقة إلى طبقة أخرى داخل الطبقة الوسطى يستلزم عليه زيادة النفقات المرافقة لهذا الإنتقال، للحفاظ على المظاهر التي تضمن له الترقي لطبقات أعلى، تسعى البطرياركية لإقناع النساء بأنهن في أفضل حال ممكن، بينما يحافظ النظام على التأكد من أنهن لا يستطعن الإفلات من سيطرته، تحصل النساء على أجور أقل، ويتوقع منهن واجبات إجتماعية أكثر، تقوم البطرياركيات بتقنين كل شيء، بما فيه المشاعر والجنس، تقوم بسن القوانين الإجتماعية، تسيطر على إمكانيات النساء بإتخاذ القرار وتحد منها ما استطاعت، ثم تبيع لهن وهم الحرية، تقوم الأنظمة بتحديد العدد المناسب من النساء في المواقع السياسية بأنظمة “الكوتا” ثم تقوم بتسويق المشاركة السياسية للنساء على أنها حق مضمون من النظام، بينما في الواقع، فإن الحصول على الحقوق بالعمل والترقي في سلم النظام البطرياركي ليس سوى مجرد وهم يحافظ عليه النظام نفسه حياً ومستحيلا في آن واحد.

تشترك البطرياركية والرأسمالية في عملية تسويق ضخمة، تضخ في حياتنا في كل مكان قصصاً كثيرة، يمتليء التلفاز وشبكة الإنترنت فيها، مسلسلات وأفلام ومقاطع “بورنوجرافي”، تخلق مخاوف جديدة، وآمال أكثر لدى كل منا، تعزز من شعورنا الدائم بعدم الإستحقاق، بضرورة العمل بدون توقف من أجل الترقي، بالخوف من الحب، بالشك في أنفسنا والآخرين، بالخيانات والآمال المحطمة، بالأحلام التي يحققها آخرون خلف الشاشات، بالأموال والأملاك، بالرفاهيات، تغرق أفكارنا الواعية واللاواعية، بالكثير من الرعب والأمل، وهي التوليفة التي تستخدمها هذه الأنظمة بنجاعة عالية للحفاظ علينا في حالة من الضبط، حيث يسيطر علينا جميعا باستخدام مخاوفنا وآمالنا، ولكننا يجب في كل الأوقات، أن نقف سوياً، وأن نحارب كوحدة واحدة، من أجل التخلص من كل الظلم في كل مكان في هذه الأرض، أن لا يمتلك شخص منا الآخر، وأن نصبح جميعاً أمة واحدة.

عن الحب، الموت والحياة تحت الإحتلال

يبدو الحديث عن الحب في واقع الشعب الفلسطيني ضربا من الرمسنة الخيالية، حيث يخيم موتنا اليومي على المشهد العام، وحيث أننا لا نملك سوى أن نقضي غالبية أوقاتنا في الركض خلف أبسط مقومات حياتنا، حيث أن الحياة -وهو ما لا تخبرنا عنه الروايات العاطفية- مكلفة في الحقيقة، وحيث أننا نشترك مع الغالبية العظيمة من سكان هذه الكرة، الهائمة في الفضاء الشاسع بكوننا نقبع تحت نير الرأسمال العالمي، وحيث يؤمن الكثيرون -للأسف- بوهم الحرية التي تسوقها الليبرالية، حيث يصبح كل فرد هو المسؤول، وحده، عن كل ما يحصل في حياته من خير أو شر، حيث أنك أنت، ولا أحد غيرك هو المسؤول عن كونك لا تجد ما يكفي لتأكل، وأنت وحدك المسؤول عن تحولك في لحظة ما، هدفا لجندي لم يبلغ العشرين من العمر، أراد أن يشعر بطعم الدم، يصبح كل شيء هنا متشابكاً بطريقة غريبة مع كل شيء آخر، وهكذا تصبح حياتنا الشخصية -عاطفية أو غير عاطفية- أمرا سياسيا بالضرورة.

نولد كفلسطينيين في هذا العالم، إثر تراكم الصدف منذ الاف الأعوام، حيث أنه وبطريقة ما لم تنه حياة أحد من أسلافنا المتعددين إحدى الحروب التي قامت على هذه الأرض، ويكاد يكون الموت في حرب ما قد أصبح جزءا أصيلا في تركيبنا البيولوجي، حيث تصبح كل ولادة جديدة لفلسطيني جديد ما يشبه المعجزة، وعندما يقوم أحدنا باتخاذ القرار -غير الواعي- بالزواج والإنجاب، يدرك في داخله أنه يقوم بنذر سلالته القادمة لدفع الثمن المستمر لبقائه الجمعي في هذه الأرض، ولربما كان من المثير للتعجب -لي على الأقل- استمرارنا في الحياة، وكأننا لا نموت.

الموت هنا صديق للجميع، يسير معنا كل يوم في طرقنا العادية، في الذهاب إلى الوظيفة التي نكره، في الطريق إلى المدرسة أو الجامعة، يزورنا حين يريد، لا يوجد في هذه البلاد وقت طبيعي للموت، قد تحيا لقرن من الزمان، وقد تقتلك رصاصة، أو صاروخ، قبل أن تتعلم المشي.

أذكر أنني منذ بداية حياتي أحاول أن أحيا حياة طبيعية -بمقاييس العالم- ولكن طبيعية الحياة التي نحاول أن نحياها ليست ممكنة في هذا الواقع الذي وجدنا أنفسنا فيه، ولربما كنت أوفر حظاً من كثير من أبناء هذا الشعب حيث أن الحياة التي عشتها حتى اللحظة أقرب للطبيعية من الكثير منهم. ولأن الفلسطيني هو إنسان عادي تماما كما أي شخص آخر في هذا العالم، فمن الطبيعي أن يبحث عن السعادة، الحب، والعلاقات الإجتماعية، من الطبيعي جدا أن يرغب في ممارسة أي متع دنيوية تافهة، وأن يسعى دائما للفرح، يرغب في السفر، في رؤية العالم، في لعب الورق على طاولة في مقهى، أو أن يخرج يوما لينصب خيمة في برية ما، ليراقب السماء ليلا، أو أن يمارس هوايته في صيد الأسماك.

خلال سنتي الاولى في الجامعة، تعرفت على مجموعة من الأصدقاء، قضينا أوقاتنا في الحديث عن السياسة، لعب الورق، مناقشة مسلسلات غبية، أو الذهاب لرحلات قصيرة لمدن مختلفة، قمنا بتناول طعامنا سويا، شربنا الكثير من القهوة والشاي، مشينا لكيلومترات من أجل طبق كنافة، ونمنا جميعا في غرفة لا تتسع لنصفنا في سكن أحدنا بسبب اقتحام الإحتلال للبلدة خلال وجودنا في مقهى، اليوم، بعد مرور أربعة عشر عاما على ذلك، لا يوجد لدي ثلاثة أصدقاء أقضي معهم يومي عندما أشعر بالملل، حيث سرقت بعضهم أمور الحياة، وغاب بعضهم في سجون الإحتلال، وهاجر من بقي على قيد الحياة منهم بحثاً عن خلاص فردي، أو حياة أفضل لأجيالهم القادمة.

أن تسافر، هو أن تقضي ساعات كثيرة على مقاعد الإنتظار في انتظار محقق ما ليستجوب رغباتك في السفر والحياة، وكأنما ليس من المسموح لك أن تخرج، أو كأنما كان وجودك في أي مكان في العالم هو جريمة عظمى، حيث يقاس الأمن الداخلي لهذه الدول التافهة بقدرتهم على منع الوجود الفلسطيني فيها، حيث يصبح الفلسطيني هو الوباء الذي تخشاه هذه الكيانات الهشة، ويصبح السفر بالنسبة له هو الطريق الشاق الذي لا يخوضه إلا مضطرا أو مرغما.

أن تحب -أقصد هنا ذلك الحب الذي ترغب خلاله بالموت بجانب من تحب- هو أن تشعر في داخلك بأنك لم تعد وحيداً بعد اللحظة، ونحن أبناء الوحدة نرغب على الدوام بأن لا نكون وحدنا، لكن أن تحب في هذه البلاد هو أمر شاق ومتعب، لا يكفي أن تشعر بشيء ما لكي تحب، لا يكفي أن تحب هنا، هذا الشعور التلقائي بالإعجاب خطر جداً في هذه البقعة من العالم، الحب هنا غريب ومعقد بغرابة حياتنا اللاطبيعية، ومن المطلوب منك بالضرورة، أن تسيطر على مشاعرك اللا إرادية إن كنت لا تريد أن تفقد قلبك. أن تجد من تستطيع أن تراه، من يمكنك لقاؤه، من يشاركك فلسطينيتك كما تراها، الحب هنا أمر سياسي تماما، كما هي الحياة، وستكون تعيساً يا صديقي لو تركت نفسك على هواها، فقد تقع في حب ما يستحيل عليك اللقاء به، أو يستحيل عليكما الحياة سوياً، أو -وهو الأسوأ- أن يكون من تحب من مؤيدي حركة فتح أو الرئيس أبو مازن.

نحاول على الدوام أن نعيش، يقوم الإحتلال بجعل الحياة الطبيعية غير ممكنة في وجوده، يقطعنا إلى مساحات متفرقة معزولة، يقوم بمنعنا من الحركة، قتلنا، حصرنا في سجون متفرقة، لا يعود للفلسطيني هنا إلا إختيار البقاء والقتال، التنازل والتعود، أو الهرب والبحث عن الخلاص الفردي في مكان آخر. يفقد الفلسطيني المتنازل فلسطينيته مع مرور الزمن، يصبح كائنا مختلفاً -فتحاوياً على الأغلب- يستمرئ المذلة والمهانة، يجري على الدوام ليرضى الإحتلال عنه من أجل أن يحصل على تصريح سياحي لزيارة البحر، ولكي يحافظ على ما يتصدق عليه به مشغله -المتعاون مع الإحتلال- من مال، يحاول فيه أن يحيا به حياة عبد سعيد، وهذا ما لا يشبهنا. يهرب المهاجر من وجه القضية، يبحث عن حرية ما، حرية بدون موت، ويموت هناك في أرض باردة لا تشبهنا، لا تقبله سوى أن يسلخ جلده ليشبهها، أن يفقد ما كان هو، ليحاول أن يصبح ما ليس يكون، أما نحن، الذين لا يطيقون أحد الخيارين، فإننا محكومون بلعنة أبدية، لكي لا نستريح، أن نشتهي الحياة، وأن نهرب منها، مدركين تماما لدورنا النهائي في هذه المعركة الدائرة منذ الأزل، كوقود خلق من أجل يحترق، وراغبين على الدوام بأن ننبت أشجاراً أخرى، على أمل أن لا تحترق.

عندما أصبح العامل رقاص ساعة.

اليوم صباحاً، لا أستطيع أن أملأ صدري بالهواء، أضلاعي مرضوضة إثر السعال الشديد في اليومين السابقين، لكنني أقوم لأستحم وأرتدي ثيابي وأخرج نحو الوظيفة التي لا أحبها، لا يمكنني الغياب لهذا اليوم، هناك أمور لا يستطيع غيري فعلها -وهذا كذب- حيث أن مهامي لهذا اليوم متطابقة تماما مع مهام موظفين آخرين يتشاركان معي نفس المسؤولية ولكن لتخصصات مختلفة -لكنه يبقى نفس العمل- ولو أنني متّ لن يتوقف العمل ولن تؤجل مواعيد الاجتماعات والمقابلات للتخصصات التي تقع تحت مسؤوليتي، أنا هنا قابل للاستبدال بكل بساطة، يمكن لأي قرد تم تدريبه لستة اشهر القيام بما يوازي الثمانين بالمئة من العمل الروتيني الذي نقوم به.
إذن لم أذهب إلى العمل في هذه الحالة؟، ما هو الدافع الذي يجبرني على القيام من فراشي بأضلاع موجوعة، ورئة متعبة، وأنف محتقن، ورغبة منعدمة في العمل. ذاهبا كمن يساق إلى مقصلة، إلى وظيفة لا معنى لها، في منظومة كاملة مبنية على اللامعنى.

يمتلك الموظفون مدراء، يمتلك المدراء مدراء آخرون، تمتلكنا جميعا المنظومة، كلنا أدوات تافهة تعمل بشكل غبي لإنتاج ادوات تافهة أخرى، كل منا عبارة عن ترس أو رقاص(بندول) بسيط يعيد نفس العمل البسيط بشكل متكرر، ويتم تحويل عمله من ترس آخر إلى شكل آخر لنصل للنتيجة النهائية وهي الدوران حول أنفسنا لدورة كاملة تساوي يوما كاملا في هذا العالم الممل، لا يمكنك كبندول من إدراك أو معرفة أثر العمل الذي تقوم به على المنظومة، يمتلك المدير وظيفة وحيدة، أن يحافظ على احساسك بأنك مهم، أن يخرج أول كل ساعة من باب مكتبه المكيف، ويصرخ:”كوكو، كوكو” ليستمر البندول والتروس والعقارب في حركاتهم التوافقية البسيطة، لا يمكنك أن تأخذ إجازة طويلة، من سوف يقوم بالعمل؟. سوف ننهار بدونك، يجب علينا أن نهتم بمصلحة المؤسسة، أنت مهم، هل ينقصك شيء ما، طلبت لك علاوة لكن الإدارة العليا لم توافق، إننا نمر في أزمة، يجب أن نجتاز الأزمة سوياً، يجب أن نكبر سوياً، سوف نتقدم معاً، وكل الجمل التي أصبحنا جميعا نعلم أنها بلا معنى، هم يكبرون وحدهم، نحن رقاصات ساعة ميكانيكة ذات كوخ في أعلاها يخرج منه طائر صغير أول كل ساعة ليقول لنا :”كوكو”.

نحن نعمل بشكل ميكانيكي، بدون إدراك لنتائج هذا العمل أو قيمته الإنتاجية النهائية، إنهم يخبرونك بأنك مهم، بأنه لا يمكن الاستغناء عنك، يخبرونك بأنهم يحتاجونك، لكنهم يخبرون ذلك للجميع من حولك، لكنك تشاهدهم يتخلصون من أي شخص لا يقوم بالعمل بالغباء الكافي، بالدقة الكافية، بالخضوع الكافي ليضمن استمرار عمل المنظومة، المنظومة التي تنتج المزيد والمزيد من المال لأصحاب رأس المال، هذا المال(القيمة) الناتج عن عمل الكثير من الموظفين، بشكل تلقائي ومستمر، بدون إدراك لقيمة العمل نفسه، بهدوء وصمت، يشعر كل منهم بلا جدوى ما يعمل، يأخذ كل منهم مبلغا دوريا من المال، يشعر أنه أكبر من قيمة عمله -حيث أنه لا ينتج الكثير حسبما يرى- هو يعيد نفس العمل بشكل متكرر، لا يحتاج للتفكير أو الإبداع، لا يحتاج لحل المشاكل، عمله هو أن يستمر في العمل نفسه، كل يوم، كل ساعة، إلى الأبد أو إلى أن يبلغ الستين من عمره -أيهما سبق- يتقاضى الموظف هذا المبلغ المحسوب بشكل دقيق لكي لا يؤدي به إلى الإحساس بأنه جزء من الطبقة الدنيا في المجتمع، هو موظف مرموق، يرتدي بدلة وربطة عنق، يقود مركبة جيدة، يحلم أن يقود واحدة أحدث منها في المستقبل، ولذلك يجب عليه أن يعمل أكثر، لينتج أكثر من أجل رأس المال، من أجل السيد الذي يملكه. في الطبيعة توجد تلك الحشرة المدعوة بالمن، تتغذى حشرة المن على أوراق الأشجار، يقوم النمل بحمل المن، نقله بين الأشجار، حمايته، ومن ثم يعود به إلى البيت، ليداعب بمجساته مؤخرة حشرة المن، لتقوم بافراز سائل سكري شبيه بالعسل، يتغذى عليه النمل، وعندما تتوقف الحشرة عن افراز هذا السائل اللذيذ، يقوم النمل بأكل الحشرة نفسها، التي كان يداعبها في اليوم الماضي، حيث أنها فقدت فائدتها بالنسبة له. تتجلى فائدة الموظف بالنسبة لرأس المال بأنه حشرة تفرز له السكر وتتغذى على الورق، وعندما تتوقف هذه الحشرة عن افراز مادته المفضلة، سيقوم بقضم رأسها وامتصاص روحها منها وتركها كغلاف فارغ مرمي بجانب المستعمرة.

يعرف كل من قام بزرع شجرة في يوم من الأيام، أو بأي عمل منتج بشكل مباشر، بأن قيمة العمل تتجلى في كون القيمة الناتجة عنه قابلة للقياس، قد تكون هذه القيم مادية أو معنوية في كثير من الأحيان، لكن ما يميزها في كل الحالات هو أن الشخص الذي يبذل الجهد العضلي أو العقلي المحتاج لهما العمل يستطيع أن يشاهد أو يستنتج قيمة العمل المبذول، وبالتالي فإن شعوره بالسعادة المنبعث من كونه عضو منتج في هذا المجتمع -أو العالم- سيتزايد بشكل طردي بالتناسب مع حجم العمل المبذول ونتائجه الملحوظة. في المقابل قد قامت المنظومة الرأسمالية للعمل بفصل العمل عن النتيجة، وذلك لخلق نوع من القيمة الوهمية للأجر مقارنة بالعمل، والذي أدى بالتالي لشعور العامل بأنه يأخذ ما لا يستحق، ويبذل جهده في ما لا ينفع، مما يؤدي لتعمق شعور الفرد في اللاجدوى من وجوده الفردي في المجتمع، وعليه يصبح ذهابه اليومي إلى العمل أشبه بجره إلى حبل المشنقة، والتي قد تبدو له في كثير من الأحيان خيار أفضل من هذا المسير اليومي إلى اللاشيء.

تؤدي حالة التحول من العمل بصورته الأولية -من زراعة وصناعة بسيطة وحرف- إلى صورته الحديثة -وظائف تقليدية في بنى مؤسسية ضخمة- إلى تعمق شعور الإنسان بإنعدام قيمته الذاتية وذلك كنتيجة طبيعية لفقده إدراكه بالنتيجة المباشرة أو القريبة لجهده المبذول، تتزايد هذه المشاعر السلبية حدة كلما زاد الفساد في المنظومة الإدارية التابع لها حدة، حيث أن نشر تقارير الأرباح والإنجازات وتقارير متابعة الخطط السنوية للمؤسسات تزيد من شعور الموظف بقيمة جهده المبذول -على الرغم من أنها لن تغير في واقعه- لكن من الممكن ملاحظة أن الموظفين في المؤسسات الأقل فساداً أكثر اعتزازاً بوظائفهم، وأكثر إجتماعية وسعادة مقارنة بأمثالهم في مؤسسات فاسدة. يؤدي تفشي هذه المشاعر السلبية في صفوف الموظفين، وتشكيل الموظفين للنسبة العليا من المجتمع، إلى ظهور مشاكل نفسية كثيرة جديدة على المجتمع، حيث أنك لم تكن تسمع بهذه المشاكل النفسية قبل تحول المنظومة إلى مدنيتها الحالية. تعتبر هذه المشاكل النفسية الجديدة مجالات إضافية لتسويق المنتجات المرتبطة بها حيث أن المنظومة الرأسمالية هي أفضل من يقوم بإعادة استثمار القيمة المنفقة على مكوناتها الفرعية.

في النهاية، ولأنني كاتب ملول، تقوم المنظومة على الحفاظ على حالة من الغباء الإجتماعي والإبداعي لدى الموظفين -المستعبدين- لديها، وهذا يتطلب منها الحفاظ على مسافة كافية بين الموظف والقيمة المنتجة من قبله والذي سيحافظ على احساسه بانعدام قيمة العمل الذي يقوم فيه، وبالتالي سيحافظ على شعوره الدائم بعدم الاستحقاق ومحافظته على نوع من الرضى السلبي في ما يحصل عليه، وهو ما سيحافظ عليه في حالة اللافعل -اللاثورة- الدائمة، والحفاظ عليه في صفوف المدافعين عن المنظومة حيث أنه يعتقد أنه في حالة انهيار المنظومة ستتناقص حصته من الانتاج لما يساوي حصته الحقيقية وهي الاقل -حسبما يعتقد- من حصته المستحقة. لكن في الواقع فإن قيمته الإنتاجية تفوق بكثير ما يحصل عليه، وهو ما يفسر القيمة المتراكمة في رأس المال والآتية من مجموع هوامش القيم للاعمال الفردية.
الشعور الدائم بعدم الإستحقاق لدى الأفراد المنصهرون في بوتقة المنظومة هو شعور منتشر يتجاوز الوظيفة والعمل وينتقل إلى شعور الشخص بعدم استحقاقه لأي شيء، وبالتالي يبدأ من المعاناة في علاقاته الاجتماعية والإنسانية، حيث أن شعوره الدائم بلا جدواه يؤدي لانخفاض تقديره الذاتي لنفسه وتفسير كل شيء آخر بصور قيمية مستنبطة من وجوده ونشوءه في هذه المنظومة الرأسمالية المعقدة والتي تؤدي بالمجتمعات إلى انسلاخ الروابط التاريخية والاجتماعية بين افرادها، واتجاههم الدائم نحو الانعزال والفردانية، وهو ما يودي بالمجتمع الى تفككه الى مكونات فردانية وضياع قيمة الجماعة العامة، وبهذا تبتكر المنظومة اسواقاً أخرى لاعادة امتصاص اكبر قدر ممكن من القيم الموزعة على الافراد وتعويضهم عن النقص الاجتماعي الذي اودت بهم فيه ممارسات المنظومة من الاساس. وإكتسابها نوع من المنعة ضد الفعل الجماعي الذي أصبح يواجه عقبات أكبر في نشأته من الأساس حيث أن الفردانية المنتشرة في المجتمع، وحالة الانطواء الجمعية والقلق الاجتماعي العام تشكلان عقبة نفسية في طريق أي فعل جماعي يحاول هدم المنظومة. وبذلك تكون الطبقة الوسطى قد قامت بدورها الأساس الذي إخترعتها من أجلها الرأسمالية، وهي حماية الرأسمالية من بطش الفقراء.

عن ثنائية الحب الفلسطيني والمقاومة.

لا يستطيع الفلسطيني التذكر إن كان قد مر عليه يوم في هذا التاريخ لم يكن محتلاً فيه، حيث أن توالي الإستعمارات المتعددة على هذه البقعة في الأرض كافٍ لمسح أي ذاكرة جمعية عن يوم تكون الحرية فيه تامة، وأصبح الفكر الجمعي يفاضل بين الإحتلالات المختلفة، والتي يتفق على أننا نقع اليوم تحت أسوأ احتلال منها، ونمتلك أسوأ قيادة شعبية في تاريخنا الفلسطيني. وحيث أن الإحتلال والظلم هو أمر راسخ في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، فقد نشأ هذا الإرتباط العاطفي مع كل من يقاوم هذا الظلم ويحاربه، نوع جديد وجميل من الحب.

عندما دخل أفراد منظمة التحرير إلى البلاد، بعد اتفاق اوسلو -سيء السمعة والصيت- خرج الشعب عن بكرة أبيه ليستقبل العائدون، كانوا مقاتليننا الذين رجعوا للبلاد، كنا نحبهم، جميعاً، نحبهم لأنهم قاتلوا، نحبهم لاعتقادنا الشعبي الجامع أنهم سيقاتلون هنا من أجلنا، كما قاتلوا هناك، لم نكن نعلم ما سيحصل، لم يكن مهما ما سيحصل لاحقا، المهم هو انه في تلك اللحظة، عندما كانوا مقاتلين عائدين الى البلاد، كنا نحبهم.

سنة 2000، عند اعلان الجيش الاسرائيلي انسحابه من جنوب لبنان، كل العيون كانت مثبتة في شاشات التلفاز، كان يبث على الهواء مباشرة، نقلاً عن احدى قنوات الاحتلال حيثيات الانسحاب من الجنوب، كنا نشاهدهم يهربون، يفجرون ما لا يستطيعون تفكيكه، يغادرون البلاد، كانت البلاد تشبه بلادنا، كان الجنوب فلسطين، وفلسطين كانت الجنوب، كنا نرى التحرير عبر شاشات العدو، وكنا نحب المقاتل الذي أخرجهم من البلاد.

الحب الذي يحمله الفلسطيني تجاه فعل المقاومة يظهر في كل شيء في حياته، في أغاني أفراحه، في لبسه اليومي، في العاب الأطفال وتصفيفة الشعر، في فترة الإنتفاضة انتشرت موضة البناطيل العسكرية، التي كانت غالبية الشباب -ذكوراً وإناثاً- ترتديها بالاضافة لقميص قطني -تي شيرت- بلون غامق عادة، مما يحاكي في مظهره لبس الغالبية العظمى من المقاتلين في المنطقة، كان المقاتل يسير بيننا، مكشوف الوجه معروف الإسم، ممتشقاً سلاحه، وكنا كلنا نراه كرب يتمشى بيننا، كنا نحبهم لإنهم يطلقون النار، كنا مغرمون بهم، نحاول أن نشبههم في كل شيء، وحين يستشهد أحدهم، كنا كلنا نبكيه، ونسير كلنا في الجنازة، لم يكن يهم من هو هذا الشهيد أو لأي فصيل ينتمي، كان شهيدنا كلنا، وكنا كلنا نحبه، كان نحن في رواية أخرى، لو أننا اكبر قليلاً أو لو أننا استطعنا الحصول على السلاح.

تمت صناعة اول صواريخ فلسطينية في غزة سنة 2001، ظهر وقتها صاروخ قسام واحد، كان صاروخا عبثياً -كما وصفه الكثيرون- لم يكن يجيد السباحة في الهواء، من غير الممكن توقع مكان سقوطه، يصفر بطريقة مضحكة، لكننا أحببناه، أحببنا من صنعه ومن أطلقه، أحببناه أكثر عندما تطور، اصبح يجيد السباحة الآن، كبر صاروخنا الصغير المتعثر، وكبر حبنا له ولكل من ساهم في صنعه وتطويره واطلاقه، لكننا نؤمن حتى اللحظة، أنه ينطلق نحو هدفه بفعل الحب الذي نحبه له، لم نتفق مع أفراد حركة حماس كثيرا في الواقع، كان زملائي المنتمين لها يتهموننا بالكفر والالحاد، وكنا نتهمهم بالتطرف والتزمت، لكن في النهاية كنا فلسطينيون، كنت احتمي في بيوتهم ويحتمون في بيوتنا، كل البيوت كانت بيتي، وبيتنا بيت للجميع، لأننا نحبهم ويحبوننا عندما نقاوم. 2005، خرج العدو من غزة، كنا نشاهد، 8 ايام من الرحيل المستمر للمستوطنين، انهم يهربون، يهربون حقاً، وفي نهاية الانسحاب كل القلوب كانت تدق مع مشاهد الاحتفالات في المستوطنات المحررة. التحرير يقترب أكثر هذه المرة، ونحن نحب المقاومة ونعشق غزة.

نعم، لقد غمرنا الحب في كل مرة كنا نرى أو نسمع عن استهداف للإحتلال، دبابات الميركافا المدمرة في جنوب لبنان، محاصرتهم في الشجاعية، صواريخنا تضرب حيفا، أو تل أبيب، استهداف ساعر خمسة، عمليات تبادل الأسرى، خطف الجنود، كل قذيفة هاون تدك الغلاف، في كل مرة كنا نقع في الحب، حب ليس يشبه أي حب آخر، حب عميق بين الفلسطيني، والنار، النار التي تحرق الأعداء كما احترقنا بها منذ ما يزيد عن المئة عام.

يتهمنا الكثير بالإنعزالية، يقولون لنا بأن الدم الفلسطيني ليس أثمن من باقي الدماء، أتفق معهم، ليس دمنا مميزاً عن دمكم، لكن لولا أن دمنا يسفك منذ مئة عام واكثر، لما سفك دمكم، الإحتلال هو السبب الرئيسي لكل ما يحدث في المنطقة، وفي حالتنا الفلسطينية، إننا نحارب من أجلكم جميعا، في الوقت الذي تحاربوننا وتحاربون أنفسكم فيه، ولهذا فإننا بكل بساطة، سنحب كل من يوجه السلاح الى العدو الحقيقي، الى الإحتلال، الإمبريالية، والرأسمالية العالمية، حيث أن كلها في المحصلة شيء واحد، هل يجب أن أتفق مع كل شيء يفعله المقاوم، لا ليس بالضرورة، في الواقع ولو استثنينا الاحتلال من الصورة، قد امتلك أسبابا لرفع السلاح ومواجهة حليف اليوم أكثر من الأسباب التي تجعلني أحبه، لكنني لا أستطيع استثناء الإحتلال من هذه الصورة، وبوجود الإحتلال، لا يوجد أي شيء في الكون يستطيع تفريقي عن من يقاومه، كائناً من كان، ولو كان الشيطان شخصياً، وعندما ينتهي، قد يختفي الحب، قد نعيد التخندق، وقد لا يكون أي شيء من هذا مهما في ذلك الوقت.

بكل بساطة الكون، لا يمكنك أن تكون فلسطينيا بدون أن يقفز قلبك من مكانه كطفل مع كل خبر عن كل عملية إستهداف لهذا الإحتلال، وبكل بساطة جدتي عندما تقول: “الله يحميهم ويعمي عنهم” وهي بكل سعادة الكون. جدتي هي الفلسطيني بحالته الطبيعية، بكل الحب الفطري لكل من يقاوم. الحب العابر لكل الايدولوجيات، كل العقائد والطوائف، كل السياسات والأحزاب، المتجاوز لكل الخلافات، الحب بصورته المجردة، ما بين مظلوم منذ الأزل، ومدافع عنه، بدون تحديد ولا تعريف، كل من قاوم، في كل موقف، في كل مكان، تحببه جداتنا، ونحن نحب من يحببن.

ثلاث اسئلة ولا إجابات واضحة

 منذ أن فتحت عيني على هذا العالم البسيط حيناً المعقد أحياناً أخرى، باتت تلاحقني الكثير من الاسئلة، بعضها بسيط لدرجة البلاهة والبعض الآخر معقد لدرجة الجنون، وحيث أني كنت طفلاً كثير التساؤل، فلقد أرهقت والداي بأسئلتي التي ليس لجزء كبير منها اجابة واضحة حسبما أعتقد، ويدلني على ذلك صوت أبي ناطقاً بالكلمة التي إعتدت سماعها كلما قلت له : ” ليش … ” ليرد كما العادة ب” بعرفش “، أو “من وين بتجيب كل هالاسئلة”.

كان جدي لأمي – معلم اللغة العربية المتقاعد – والمصاب بحب الأرض حتى النخاع، منقذي وملجأي في أسئلتي، لا أذكر أنه قال لي يوماً “بعرفش”، ولا رفض إجابة سؤال ما حتى عندما كانت تكون اسئلتي تافهة الى حد البلاهة، جدي الذي كان يقول لأمي كلما طلبت مني عدم ازعاجه باسئلتي “الهبلة” : ” اتركيه يسأل  ويتعلم”.

كان جدي يجيب على اسئلتي قدر استطاعته، وفي حالة لم يكن لديه جواب لسؤال ما كان يأخذني من يدي لمكتبته – التي اعتدت على سحب الكتب منها كلما اردت البحث عن إجابة ما بعد وفاته – لنبحث في الكتب عن الإجابة لسؤالي. ومنذ تلك اللحظة وأنا أحب الكتب كما أحب جدي، ولا أثق باجابة لم استطع الحصول عليها بدون مساعدة أحدهما، أو كلاهما.

قبل سنوات طويلة، غيب الموت جدي عنا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن الإجابات وحدي في كل مكان، أذكر أنني في البداية حاولت أن اسأل جدتي عن بعض الاسئلة ولم يكن جوابها يتغير في كل مرة : ” هذه مكتبة جدك خذ منها ما تريد ” وكنت أفعل، لكن الآن وأنا في آخر العشرينات من عمر قضيت أغلبه باحثاً عن الحقائق، لم يعد جدي موجوداً لاسأله عن ما يجول في خاطري، ولا مكتبته العظيمة التي قضيت عمري باحثاً فيها عن اجابات لاسئلتي، ولا زالت هناك اسئلة تدور في خاطري ولا استطيع الوصول لإجابة تبت الجدال الذي يدور في داخلي.

السؤال الأول :

قبل عدة سنوات كنت جالساً مع صديقة عزيزة علي، وفي وسط النقاش فاجأتني بالسؤال الذي لم أستطع اجابته حتى اللحظة، ” شو يعني وطن؟ “. ولصديقتي هذه في هذا اليوم أكتب ما لم أستطع قوله في تلك اللحظة.

الوطن، تلك المفردة التي لأ استطيع تحديد معنى لها سوى الكثير من المشاعر الغريبة، الوطن ليس مكاناً يمكن حصره في حدود ما، الوطن هو ذلك الشيء الذي يسكننا دوماً، الذي يحلو لنا الموت في سبيله، أو لربما لا تحلو لنا الحياة من دونه، هو الشيء المبهم الذي لا نعرفه حقاً ولكننا نشعر به في نسمة هواء عندما نقطع النهر، هو الفرق بين الذباب في ضفتي نهر، هو الفرح البسيط الذي يجتاح قلبي في لحظة قطعي لماء الأردن، والإبتسامة التي لا مسبب لها سوى أنني قد عدت. الوطن في رأيي الشخصي، هو ذلك الأمر الذي يجتاح القلب عندما تمتليء الرئة بهواء المرة الأولى، ذلك الهواء الذي اقتحم صدورنا عندما ولدنا، فاختلط في دمنا ولم نستطع بعدها التخلص منه.

الوطن هو أن نقف من دون أن نتسائل أين هو طريق البيت.

السؤال الثاني:

كنت أبلغ الرابعة من عمري عندما ماتت جدتي لأبي، أذكر أن ذلك حدث في الليل، في ليلة شتوية عادية، وقد كان ذلك في ليلة ميلاد أخي الأولى، عندما طرقت زوجة عمي باب بيتنا مستنجدة بأمي قائلة : “الحقي خالتي بتموت”.

أذكر أني ذهبت مع أمي الى بيت عمي المجاور لبيتنا في مخيم حطين، لأجد جدتي ممددة متعبة لا تقوى على رفع يدها، وأمي تفحصها بسرعة وتسألها: ” ايش بدك يا خالتي ” لترد عليها بكل هدوء : ” بدي أموت”. في تلك الليلة أخذوا جدتي للمشفى، وفي الغد أخذوها إلى مكان ما، يدعى المقبرة.

لا أذكر موت أحد قبل موت جدتي، لم أكن أعرف شيئاً عن الموت قبل ذلك، جدتي التي علمتني التصفيق كمصاب بالتهاب المفاصل. وفي العزاء عندما طلب منا نحن الأطفال أن نقرأ لها الفاتحة حتى نأخذ الحلوى، بكيت لا لموت جدتي ولكن لأنني لا أحفظ الفاتحة، وأنقذني أبي عندما قال لي: “شو بتعرف طيب؟” فأجبته بأنني أستطيع العد للعشرة بالإنجليزية. فوافق وفرحت لأنني استحقيت حصتي من الحلوى أسوة بابناء عمومتي. ومنذ ذلك اليوم ويطرق رأسي السؤال الذي لا إجابة له ” ما هو الموت ؟”.

أذكر أن ذلك السؤال أخذ من تفكيري الكثير، لم يكن من السهل علي ايجاد اجابة بسيطة لهكذا سؤال معقد، ولم تقنعني أي إجابة من أي شخص يكبرني كلما سألته عنه، لماذا نموت؟، وما هو الموت حقاً.

خلال سنين مراهقتي أذكر أني حاولت أن أموت لأعرف، لكنني لم أمت، فقط إختنقت حتى تفجرت الشعيرات الدموية في وجهي، وكذبت على الجميع عندما قلت لهم أن ذلك من أثر حساسية أصابتني، إذ كان وجهي مغطى بنمش أحمر. لم أمت يومها حقاً، إقتربت منه كثيراً لكنني لم أصل للطرف الآخر من النهر.

لم أعد أخاف الموت من يومها، كنت فتى صغيرا يبلغ من العمر ثلاثة أو أربعة عشر عاماً فقط، لكنني إقتحمت كل مكان يقربني للموت، وكان الموت محيطاً بي من كل جانب، لم أخف، ولم أهرب. وفي داخلي كنت أود معرفته حقاً، أذكر أني صافحت الموت عدة مرات، وكنت أرجع من لقاءه كل مرة، مزهوا سعيداً كأنما التقيت بصديق قديم.

في الحقيقة لا أعرف معنى الموت، لكنه ليس مرعباً كما يشاع عنه، في المرة الأخيرة التي صادفته، كنت نائماً، صحوت على صوت اختناقي، كنت اتشارك الغرفة مع أخي الأصغر، شعرت بصديقي يقترب مني ببطء، وقدرتي على القيام بأي فعل تقل، في البداية كنت أقدر على أخذ أنفاس قصيرة مما ساعدني على النهوض، لم أبحث ليلتها عن أي مساعدة، كل ما فكرت فيه، ما الذي سيفعله أخي إن وجدني ميتاً هنا؟. قمت بهدوء، ارتديت ملابساً غير ملابس النوم، لم يكن إرتداء الملابس صعباً قبل تلك الليلة، شكرت الله على أن نوم أخي ثقيل، وخرجت من الغرفة التي تجمعني به مجرجراً نفسي إلى غرفة الضيوف، اخترت أريكة ذات مسندين لتسندني حين أموت، جلست فيها وأنا أتصبب عرقاً وأنفاسي تتضائل، بدأت الدنيا تعتم من حولي، وعلمت أنه قد أتى، وعندما أعتمت الدنيا تماماً، لم أعد أرى سوى وجه فتاة رأيتها مرة واحدة قبل ذلك.

لماذا كانت هي، أو لم لم أمت، لا أعلم حقاً، لكنني صحوت لاحقاً على صوت شهيقي وألم يمزق رئتي كسكين، لم يكن الهواء لذيذاً من قبل، ولم أكن أشد رغبة بالحياة.

السؤال الثالث:

كنت مختلفاً عندما بدأت أتعرف على نفسي كشاب، كان أقراني مغرمين بالفتيات، بأجسادهن تحديداً، لا أذكر متى بدأت أحب النساء، لكنني أذكر أنني مسروق منذ طفولتي بابتسامة إحدى صديقات أمي، وبعيني إحدى قريباتي من خلف نظاراتها الطبية، وبالشعر القصير لتلك الطبيبة في المركز الطبي الذي كان يأخذني إليه أهلي لأجري فحوصات عديدة وذلك لأني كنت في طفولتي كثير المرض.

كانت تعجبني في صباي “سيمون”، كنت اطير فرحاً وهي تقول “بتكلم جد … متقولش لحد”، وبعد ذلك أذكر أني لم أحب الممثلات وعارضات الأزياء اللواتي كان زملائي في المدرسة يتبادلون صورهن على المجلات كأنها سجائر، وأعجبتني صبية خضراء العيون وأنا في سنتي التاسعة من المدرسة، لإنها كانت تبتسم لي كثيراً عندما كنا نلتقي في دورة اللغة الإنجليزية، وأذكر أني أحضرت لها هدية قبل عيد ميلادها الرابع عشر لأقدمها لها، ولم أرها بعدها، واحتفظت بالهدية بعدها لفترة طويلة.

حاولت كثيراً أن أعرف “ما هو الحب؟”، حاولت حقاً ولكنني لم أستطع حتى هذه اللحظة، كثيراً ما كنت أحاول أن أدخل في تجارب أعتقدها حباً، مع فتيات تعجبني عيونهن، أو ابتساماتهن، او أشياء أخرى، أطول التجارب في حياتي لم تتجاوز الثلاثة أشهر سوى تجربة واحدة، كانت التزاماً دام لأكثر من خمس سنوات، مدفوعا بالاحترام في كثير من الأحيان، والواجب في باقيها.

في جميع العلاقات التي مررت بها كنت رجلاً يقدم المباديء على كل شيء، ودائماً كنت أحاول أن أحب، وأن أعرف ماهية هذا الشعور الذي يدعى حباً، لم أقترب من هذا الشعور سوى مرتين، في المرة الأولى كنت طالباً في السنة الأولى للجامعة، لفتتني تلك الفتاة التي سرقتني لمدة ساعة إلا ربعا –هي طول المسافة من مدينتي إلى الجامعة – ولم أحدثها ولو بكلمة لمدة طويلة، ذلك الشعور الذي اجتاح قلبي في تلك الساعة، كان قادراً على اماتتي وإحيائي من جديد، رأيتها بعدها عندما كدت أموت وتعرفت عليها بعد نهاية تجربتي الأخرى. في المرة الثانية، كنت في جامعة ما في هذا الوطن، ومرت من أمامي فتاة، اجتاحني ذلك الشعور الذي شعرته مع الأولى، لم أستطع ترك خوفي يمنعني من التجربة هذه المرة، تعرفت عليها، وعرفتها بعد فوات الأوان، وما كدت أعرف ما هو الحب، حتى خطفها الموت مني، وخطف مني قدرتي على المجازفة.

هل أحببت حقاً في يوم من الأيام؟، هذا سؤال آخر لا إجابة له، كيف يمكنك أن تجيب على سؤال لا تعرف معناه؟، وكيف يمكن لشخص مثلي أن يحب؟، المشاعر التي تجتاحني دوماً متعبة، ولا أستطيع سبر أغوارها، لكنني في الغالب أحتاج شخصاً ما، يمسكني من يدي كطفل، ويأخذ دور جدي، ليقول لي :”هذا هو الحب”.

عن وهم الحكومة المقاومة في الضفة الغربية وجيوسياسية دولة الكلاب الدلماسية.

تقوم الحكومات في العالم -بالعادة- بإدارة مصالح وتوفير المتطلبات الأساسية -على الأقل- للأفراد الذين يتبعون لها إدارياً وإجتماعياً، وهذا الأمر يتطلب من الحكومات توفير خدمات معينة بشكل منهجي مثل الصحة، التعليم، حل الخلافات الداخلية بين مكونات المجتمع، السيطرة على الجريمة، وغيرها الكثير، وهذا ما يتطلب من الحكومة القدرة على توفير الموازنات اللازمة، انتاج أو استجلاب المواد الرئيسية المرتبطة بكل هذه الخدمات، وهو ما يتطلب نوع من السيطرة على الحدود وعلاقات دبلوماسية جيدة -نسبياً- مع الدولة/الدول التي تتشارك معها هذه الحدود، أو امتلاك ممر مائي حر يتصل بالمياه الإقليمية.

تحتاج الحركات المقاومة -على أقل تقدير- إلى الية لتوفير السلاح، حلفاء استراتيجيين، وامكانية تأمين الإمدادات اللوجستية اللازمة لاستمرارية عناصرها بالعمل المسلح ضد العدو، يتعقد الأمر أكثر عندما تكون هذه الحركة المقاومة تقوم بدور الحكومة أيضاً، حيث تضاف إلى احتياجاتها كحركة مقاومة، إحتياجات الحكومة -المشار إليها أعلاه- وذلك لقيامها بدور إدارة مصالح المجتمع في نفس الوقت الذي يجب عليها القيام بدورها المقاوم في مواجهة العدو.

في حالة السلطة الفلسطينية القائمة حالياً، فإن بناء المنظومة العامة لهذه السلطة يتطلب منها -للقيام بالحد الأدنى من واجباتها تجاه السكان- الحفاظ على علاقة جيدة مع حكومة الاحتلال وذلك انطلاقا من سيطرة الاحتلال التامة على المعابر والحدود، الموانيء البحرية والجوية، حركة الاستيراد والتصدير، والمياه الإقليمية. وحيث أن العلاقة الجيدة مع الإحتلال تتناقض بشكل جذري مع صفة المقاومة، فقدت السلطة -أو حركة المقاومة المرتبطة بها- صفتها الاساسية كحركة مقاومة. وأدى التعاون مع العدو -الكائن بالاحتلال- إلى اكتسابها تلقائيا صفة العمالة -حيث يتم تعريف العمالة بأنها التعاون مع العدو لتحقيق مصالح مشتركة- وهو ما تفعله هذه السلطة علنا وبلا خجل ولا استحياء.

تتصف المناطق التي تسيطر عليها -وهميا- السلطة الفلسطينية بكونها أشبه ببقع على فراء كلب دلماسي(أنظر الصورة أدناه)، بالمقابل يتمتع قطاع غزة بسيطرة تامة على الأرض، ووجود حدود مباشرة-على الرغم من السيطرة عليها من جهات أخرى- مما يمنحه أفضلية من ناحية امكانية حفاظ الجسم الإداري فيه على النهج المقاوم وإدارة مقدرات السكان وإحتياجاتهم، وهو ما يجعله يستطيع الصمود على الرغم من الحصار المفروض عليه. وفي الجهة المقابلة فإن جغرافيا السلطة في الضفة الغربية تمنعها حتى من التواصل بين البقع المتفرقة والمنفصلة منها بدون رضا الإحتلال عن هذا التواصل، مما يجعل من الضرورة الوجودية لأي حكومة تقوم بالسيطرة على المفاصل الإدارية لهذه البقع القيام بالتعاون المشترك مع الجسم الوحيد الذي يمتلك القدرة على قطع مصادرها الى حد الاختناق وهو الاحتلال، وعليه فإن من المستحيل قيام حكومة مقاومة في هذه الجغرافيا، وإن محاولة الوصول إلى مقاليد الحكم في هذه السلطة هو بمثابة انتحار سياسي للجهة التي تقوم به.

مناطق الحكم الذاتي الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة باللون الاخضر الغامق.

ونظرا إلى واقع وطبيعة دويلة بقع الكلاب الدلماسية الخصية(لمعلومات اكثر عن الكلب الدلماسي انظر الصورة أدناه)، فإن الرضا عن ممارسات هذه الدويلة من قبل الإحتلال هو الأساس الوحيد لاستمرارها بالبقاء، وعليه فإن قيام هذه الدويلة بقمع وملاحقة كل فعل مقاوم، ومحاولة هدم الوعي الشعبي الرافض للوجود الاحتلالي، وتمييع اللغة العامة -حيث أن الانسان لا يستطيع التفكير بما لا تستطيع لغته التعبير عنه- هي ممارسات طبيعية ومتوقعة منها، بل ومن المتوقع من أي جهة كانت -مهما كانت وطنية- في حالة وقوعها في فخ القبول بالإدارة السياسية لهذه الدويلة، أن ترضخ لهذه المحددات وأن تتحول -مع الوقت- إلى كيان سياسي خصي راضخ تحت أقدام المنظومة الإحتلالية.

كلب دلماسي

وقد يكون -برأيي الشخصي- ما حدث في 2007 من سيطرة عسكرية لحركة حماس في قطاع غزة، وانتزاعها -بالقوة- لجميع مقاليد الحكم والسيطرة على الواقع والجغرافيا هناك، هو المهرب الوحيد من المأزق الذي أودى بها فيه نجاحها الكاسح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني 2006، حيث آثرت الانفصال عن الجسم الكلي للوطن، وهو ما لم يكن من الممكن تنفيذه بدون إنسحاب الإحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، والذي وفر جغرافيا جديدة قابلة للتعامل معها كحركة مقاومة، على العكس من وضع الضفة المتردي بإطّراد، والذي سيستمر بالتردي طالما استمر وجود هذه المنظومة في هذه الجغرافيا.

وعليه وكتلخيص لما سبق، أعتقد جازماً باستحالة قيام كيان حكومي مقاوم قادر على الاستمرار في الجغرافيا الموجودة حالياً، حيث لا يمكن لهذه الحكومة تأمين ضرورات الحياة لأفراد المجتمع، ولا تأمين السلاح اللازم لمقاومة وفرض سيطرة دائمة على جغرافيا بديلة منتزعة من أيدي الإحتلال الممتدة في كل زوايا الوطن، وليس من الممكن تأسيس قوة منظمة فاعلة ضد الإحتلال في وجود هذه المنظومة التي تعمل على الدوام لملاحقة وانهاء كل من يفكر بمقاومة هذا الاحتلال، وعليه علينا -مع الأسف- العودة الى الوراء والتخلي عن وهم الحكم الذاتي في الضفة الغربية، والعودة الى جغرافيا الاشتباك الشامل، حيث يتواجد الشعب الفلسطيني في كل زوايا البلاد.

عن الذهاب المستمر إلى البلاد، العودة الدائمة والوصول المؤقت.

منذ أن وقعت أرضنا الفلسطينية تحت هذا الاحتلال الإحلالي، ومغادرة الكثير من ابناء شعبنا الفلسطيني لبلادهم السليبة، وحلم العودة إلى البلاد يجول على الدوام في خاطر كل فلسطيني أبعد عن أرضه قسرا، ومنذ البدايات وعمليات التسلل الى البلاد تؤرق هذا المحتل وتدفعه للبحث عن المتسللين وايقاف عمليات التسلل، التي لم يكن من الضرورة أن تكون لهدف نضالي حتى تسبب مشكلة لهذا الاحتلال، حيث يكفي للفلسطيني ان يحافظ على ارتباطه المكاني والعاطفي مع الارض لكي يخلق معضلة وجودية للمحتل الذي يحاول أن يحل مكانه، فوجود الفلسطيني المرتبط بالمكان يهدد هذا الاحتلال وجوديا كما يهدده الفلسطيني المقاتل تماما.

ومن هنا جرت قداسة الرحلة الى الأرض السليبة، الرحلة التي تخاطر بكل شيء في سبيلها، أن تضع حياتك ومستقبلك في سبيل رشفة ماء من عين البلد، حفنة تراب من ارض القسمة، حبة رمان من رمانة الحوش، او نفس هواء من هواء البلاد المقدس.

يتعرض الفلسطيني في رحلته المستمرة الى البلاد لمختلف المخاطر الممكنة، حيث أن اطلاق النار عليك أو احتجازك وأسرك هو أمر وارد الحدوث، على الرغم من سهولة الدخول النسبية -في الوقت الراهن- والذي يعزيه الجميع لنوع من محاولة تخفيف الضغط على الفلسطيني خوفا من انفجاره المحتوم، ومحاولة لانعاش الاقتصاد الراكد من وقت بداية الجائحة -وهي محاولة غبية برأيي الشخصي حيث أن الفلسطيني الحق لا يقوم بصرف امواله في الداخل-.

ان التسلل الى البلاد بالنسبة للفلسطيني هو تلك العودة المؤقتة للبلاد الحلم، وقد قام الفلسطيني منذ الازل بالتسلل الى فردوسه المفقود، من خلال الفتحات حاليا، من “طريق اللفة” سابقا، من داخل عبارات الصرف وقفزا عن الجدار، الفلسطيني يذهب على الدوام الى بلاده. في طقس روحي مستمر من العودة المؤقتة، تدريب مستمر للعودة الدائمة بديلا عن هذا الوصول المؤقت.

يذهب الكثير من “المرضي عنهم”، الى الداخل عن طريق تصاريح خاصة، بطاقات شخصيات، وتصاريح تجار، وبالعادة يكون هؤلاء من المرضي عنهم او من كبار المسؤولين في منظومة السلطة أو حركة فتح، حيث أن الارتباطين العسكري والمدني وهما اجهزة اصيلة في منظومة السلطة مرتبطان بشكل اساسي مع العدو الاسرائيلي بشكل مباشر، ومن المهزلة بمكان أن من اساسات سلطة تدعي نفسها بالوطنية هو انشاء اجهزة وظيفتها المعلنة هي العمالة وتبادل المعلومات مع اجهزة الاحتلال الامنية والادارية ولكن هذا حديث لوقت لاحق.

سيعود الفلسطيني الى ارضه المسلوبة، سيرجع وهو يحفظ طرقها بالقلب، لن يتوقف ليسأل أحدهم أين الطريق الى البلاد، فهي الطريق المستمر، وهو ابنها العائد على الدوام.

الإستعداد للموت من أجل الحياة، والحالة الذهنية السائدة في حالة الاشتباك مع القوى القمعية.

يسود في حالات الإشتباك الجماعي في مواجهة السلطات حالة من عدم الإدراك لخطورة المعركة القائمة، حيث لا يتوقع الجمع البشري أن تقوم السلطات باستخدام القوة بغرض القتل -في العادة- ضد هذه الجموع البشرية المطالبة بالعادة بأمور تتعلق بمستقبل المجتمع ككل، وحيث أنه من الصعب لدى هذه الجموع عزل الأفراد المستأثرين بالسلطة عن الجسم المجتمعي نفسه، حيث أنهم يكونون -عادة- نتيجة افرازات داخلية مختلفة -أو دملاً في مؤخرة المجتمع- فإن المجتمع كما هو الانسان يفضل التعامل مع هذا المفرز الداخلي بدون الاتجاه نحو الحل الراديكالي الكائن بالبتر والاجتثاث لكل ما هو مريض.

في الواقع قد تبدو السلطات مسالمة تارة وعنيفة أخرى في محاولة لامتصاص حالة الغضب الشعبية من خلال استخدام نظرية العصا والجزرة، فقد يقوم عناصر قوى الأمن بتكسير عظامنا بهراواتهم وخنقنا باستخدام الغاز في مرة، وتوزيع الماء البارد على المتظاهرين في المرة التالية، وتعتبر هذه الافعال بشكل عام أفعالا مدروسة وممنهجة من أجل بث الخوف من الخروج ضد السلطات، وابقاء السلطات في خانة الشعب في ذات الوقت، حيث أن ظهور العنصر الامني في مظهر المنتمي للمجتمع والمهتم بسلامة أبنائه هو في الواقع محاولة للحفاظ على المجتمع في حالة اللا عداء للمنظومة، والحفاظ على الشعرة التي تحافظ على أمن المنظومة وتحميها من الانهيار في وجه العنف الثوري واللذي سوف يظهر فور تحول هذه المنظومة الى خانة العدو في وعي الشعب الجمعي.

تعتبر حالة المظاهرات الدورية المستمرة باتجاه محدد، أقرب الى حرب الاستنزاف منها الى المعارك التقليدية، حيث يحاول كل طرف من الاطراف انهاك الطرف الاخر وإصابته بالارهاق النفسي والاقتصادي، وفي العادة يكون الشعب البسيط هو الأضعف في هذه المعارك ما لم يكن هناك قيادة جامعة للفعل الجمعي، أو أفراد واعين لطبيعة المعركة ومستعدين للحفاظ على استمراريتها مهما بدت طويلة ومتعبة، حيث أن استمرارية حالة الاستنزاف هذه سوف تؤدي في السلطات لاتخاذ خطوات غبية -وهو ما يحدث دائما- لمحاولة انهائها والعودة الى حالة الاستقرار النسبي السابقة.

على الرغم من ادراك النواة المحركة لحالة التوتر الجمعي لضرورة انتقال المعركة من حالة الاستنزاف الطويل الأمد الى حالة الاشتباك والمواجهة المباشرة، لكن عملية الانتقال هذه قد تكون عملية معقدة في حالة تم الاستعجال بها قبل أن ينضج الشارع، وحيث أن الشوارع عاطفية بطبيعتها، فإن عملية بناء وعي ثوري جمعي قد تكون أبطأ مما يمكن تطبيقه، يبقى على هذه النواة أن تعمل على ابقاء حالة التوتر السائدة، ومحاولة رفع مستوى التوتر -تدريجياً- والمراهنة على غباء وقصر نظر الجسم السلطوي والذي سيقوم من خلال ممارساته الغبية بتسريع عملية إنضاج الحالة الشعبية المعادية له، ويعتبر أكبر المحفزات لحالات اكتمال الغضب الشعبي في تاريخنا الفلسطيني خاصة والثورات الشعبية في العالم عامة هو الدم، عندما يفقد المتسلط السيطرة على نفسه لبضع لحظات، ويقوم بكل غباء القوي بفتح نيرانه على الجموع البشرية الخارجة للمطالبة بحياة ومستقبل أفضل.

من هنا قد يبرز السؤال الأعقد في هذا النص -وربما في الخروج الدائم الى الشارع ايضا- وهو هل نحن مستعدون للموت؟ وهل من المجدي أن نموت من أجل أن ينضج الشارع ويعي أن منظومات القمع لم ولن تكون جزءا من نسيجه المجتمعي؟.

في الواقع إن السير إلى حياة أفضل هو مشي بثبات في وسط حقل الغام، وعلينا أن نضع امكانية موتنا في الطريق الى هذه الحياة نصب أعيننا على الدوام، وأن نكون على أتم الاستعداد في كل مرة نتوجه بها الى الشارع لأن نواجه بطش منظومات القمع البوليسية، والثبات على الدوام في وجه القوة الغاشمة، أن نموت واقفين بهدوء، باطمئنان لأن هذا الموت سيذهب بالآخرين إلى مستقبلهم الأفضل، أن نموت لأن موتنا هو الحل الوحيد الذي يؤدي بهذه المعركة إلى الإكتمال، آملين أن ينتصر الباقون.